العالم الطريف

كرين برنتن ت. 1450 هجري
139

العالم الطريف

تصانيف

قال الهمجي: «قال إنه يريد أن يستمر في التجربة.» ثم تهيج بغتة وقال: «ولكن لعنة الله علي إذا قبلت أن أبقى موضوعا للتجارب، لو أراد ذلك مراقبو العالم أجمعون، ولأرافقنكم غدا.»

فسأله صاحباه معا: «ولكن إلى أين؟»

فهز الهمجي كتفيه وقال: «إلى أي مكان، لا يهمني ذلك ما دمت أستطيع أن أكون وحيدا.»

كان الطريق من جلدفورد ينحدر في اتجاه وادي واي حتى جودلمنج، ومن هناك يسير فوق ملفورد ووتلي إلى هازلمير، ثم يتجه نحو بورتسموث مارا ببيترزفيلد، وبحذائه تقريبا طريق آخر يصعد إلى وربلسدن وتنجهام وبتنهام وألستر وجريشت، وكان بين هجزباك وهندهد نقط لا يفصل الطريقين عندهما أكثر من ستة أو سبعة كيلومترات، وكانت المسافة صغيرة لا تصلح للطائرين المهملين - وخاصة في المساء وعندما يتناولون نصف جرام أكثر من المقرر، فكانت تقع الحوادث، وبعضها خطير - فقرر أن ينحرف عن الطريق الصاعد بضعة كيلومترات نحو الغرب، وكان يعين اتجاه الطريق القديم بين بورتسموث ولندن أربعة فنارات هوائية مهجورة تقع بين جريشت وتنجهام، وقد بدت فوقها السموات ساكنة لا حياة فيها، وأخذت الطائرات الآن تطن وتزأر زئيرا لا ينقطع فوق ملبورن وبوردن وفارنهام .

واختار الهمجي الفنار القديم الذي يقع فوق قمة التل بين بتنهام وألستد صومعة له، وكان البناء مسلحا بالحديد وفي حالة جيدة جدا، ولما طاف الهمجي بالمكان حسبه - لأول نظرة - مريحا جدا، تتوفر فيه أسباب الترف والحضارة، ولكن خاطره هدأ لما وعد نفسه برياضة نفسية شاقة، يعوض بها هذا الترف، وبتطهير كامل شامل، وتعمد أن ينفق أولى لياليه بالصومعة ساهرا يقظا، فقضى ساعات طوالا جاثيا على ركبتيه، يصلي مرة للسماء التي طلب منها كلوديوس الآثم العفو، ومرة بالزوني لاوناولونا، ومرة أخرى للمسيح وبوكونج، ومرة للنسر - وهو الحيوان الذي كان يتولى أمره - وكان يمد ذراعيه الفينة بعد الفينة كأنه مصلوب، ويبقيهما هكذا عدة دقائق، يتزايد فيها الألم تدريجا، حتى يصبح عذابا ممضا ترتعد له فرائصه، وهكذا صلب نفسه عامدا متطوعا، وأخذ يكرر خلال أسنانه المحكمة (والعرق يتصبب فوق وجهه) قوله: «اعف عني! طهرني! أعني على الخير!» مرة بعد أخرى، حتى أوشك أن يخر صريعا من الألم.

ولما أشرق الصباح أحس بأنه اكتسب الحق في سكنى الفنار - برغم وجود الزجاج في أكثر النوافذ، وبالرغم من أن المنظر من الرصيف كان رائعا؛ لأن السبب عينه الذي من أجله اختار الفنار، كاد أن يصبح في الحال سببا في الذهاب إلى مكان آخر، فقد قرر من قبل أن يقطنه لأن المنظر جد جميل؛ ولأنه - من ناحية منفعته الشخصية - كان كأنه يشاهد كائنا سماويا مجسدا، ولكن من يكون هو حتى يدلل بمنظر الجمال كل يوم وكل ساعة؟ ومن يكون هو حتى يسكن في حضرة الله المرئية؟ إن كل ما كان يستحق أن يقطنه حظيرة حيوانات قذرة، أو جحرا في الأرض مظلما، كانت أعضاؤه متصلبة متألمة بعد ليله الطويل الأليم، ولكنه كان لنفس هذا السبب مطمئنا في دخيلة نفسه، وبرغم ذلك تسلق حتى بلغ رصيف برجه، ثم أطل على الدنيا تشرق فيها الشمس اللامعة - الدنيا التي استرد حق سكناها - وكان يحد المنظر من الشمال حافة هجزباك الطباشيرية الطويلة، التي ترتفع خلف آخر طرفها الشرقي بروج ناطحات السحاب السبع التي تتألف منها جلدفورد، فلما رآها الهمجي تجهم لها، ولكنه ألفها بمرور الزمن؛ لأنها كانت في المساء تتلألأ بصورة بهيجة في مجموعات هندسية من النجوم، أو ينعكس عليها الضوء فتشير جادة بأصابعها الوضاءة (بحركة لم يفهم مدلولها في إنجلترا حينذاك أحد غير الهمجي) نحو السماء المستوية الغامضة.

وفي الوادي الذي كان يفصل هجزباك عن التل الرملي الذي يقوم فوقه الفنار، كانت تقع بتنهام؛ وهي قرية صغيرة متواضعة يبلغ ارتفاعها تسعة طوابق، وبها أبراج لتجفيف الحشائش، ومزرعة للدواجن، ومصنع صغير لفيتامين ء، وفي الجانب الآخر من الفنار، نحو الجنوب، كانت الأرض تهبط في منحدرات فسيحة من نبات الخلنج حتى تبلغ سلسلة من البرك.

وخلف تلك المنحدرات، وفوق الغابات المتوسطة، يرتفع برج ألستد ذو الطوابق الأربعة عشر، وهندهد وملبورن بقتامها في الجو الإنجليزي المكفهر، تجذبان العين إلى النظر بعيدا في الزرقة التي تبعث الخيال، ولم يكن ذلك البعد وحده الذي جذب الهمجي إلى فناره، فلقد كان القريب مغريا كالبعيد، كانت الغابات والأراضي الفسيحة الطلقة التي ينمو فيها الخلنج والأشجار الشائكة الصفراء، وسيقان شجر الشربين الاسكتلندي المبتورة، والبرك اللامعة وما يعلوها من أشجار البتولا والنيلوفر، وحقول الحلفاء؛ كان كل ذلك جميلا، وكان مذهلا لعين تعودت جدب الصحراء الأمريكية، وكانت هناك فوق ذلك العزلة! وانقضت أيام كاملة لم ير خلالها إنسانا قط، وكان الفنار على بعد ربع ساعة فقط بالطائرة من برج تشيرنج ت، لكن تلول مالبي لم تكن أشد وحشة من مروج سري هذه، وكانت الجموع التي تترك لندن كل يوم إنما تتركها لتلعب الجولف الكهربي الممغطس، أو لتلعب التنس، ولم تكن ببتنهام ملاعب للجولف، وأقرب ملاعب تنس ريمان لها في جلفورد، فلم يكن هناك ما يجذب العين غير الزهور والمناظر الطبيعية، ولما لم يكن هناك سبب قوي للمجيء، فقد كان المكان غير مطروق، وفي الأيام الأولى كان الهمجي يعيش وحده لا يزعجه أحد.

أنفق جون على معداته أكثر المال الذي كان قد تسلمه عند أول قدومه لنفقاته الشخصية، فاشترى قبل أن يغادر لندن أربعة غطاءات من الصوف اللزج، وحبالا غليظة ودقيقة، ومسامير، وغراء، وبضع آلات، وكبريتا (وإن يكن قد صمم أن يصنع مثاقب نارية في الوقت الملائم) وبضعة أوعية وأوان، وأربعا وعشرين ربطة من الحبوب، وعشرة كيلوجرامات من دقيق القمح (وقد أصر ألا يحمل معه النشاء الصناعي، والدقيق المصنوع من فضلات القطن، حتى إن كان أكثر تغذية)، ولما جاء دور البسكويت المصنوع من مجموعة إفرازات الغدد واللحم البقري الجديد المشبع بالفيتامينات، لم يستطع أن يقاوم اغراء البائع، ونظر الآن إلى العلب فصب على نفسه لوما كبيرا لضعفه، إنها من مواد المدنية الممقوتة! وصمم ألا يأكلها حتى إن أشرف على الموت من شدة الجوع، وفكر في نفسه وهو ناقم: «إن ذلك سوف يكون درسا لهم.» وسوف يكون درسا له كذلك.

وعد ما له، وكان يرجو أن القليل الذي تبقى يكفيه حتى ينقضي فصل الشتاء، ففي الربيع القادم تنتج حديقته ما يكفي استقلاله عن العالم الخارجي، وحتى آنئذ سيتوفر له الصيد دائما، فقد رأى كثيرا من الأرانب وكانت فوق البرك طيور مائية، وشرع يعمل في الحال؛ كي يصنع قوسا وسهاما.

صفحة غير معروفة