فالتفت الهمجي خلفه ثم انطلق إلى الجانب الآخر من الجناح.
وصاح قائلا: «أسرعي، أسرعي!»
وكانت كبيرة الممرضات واقفة وسط حلقة من التوائم تلعب «صيد المشبك» فالتفتت حولها، واستولت عليها للحظة الأولى دهشة، أعقبها في الحال شيء من عدم الرضا، وقالت وهي مقطبة الجبين: «لا تصح واذكر صغار الأطفال، إنك قد تفسد تكييف ... ولكن ما هذا الذي تصنع؟» وكان قد شق طريقه وسط الحلقة، فصاح به أحد الأطفال قائلا: «حذار، حذار.» وأمسك جون بكبيرة الممرضات من كمها وقال لها: «أسرعي، أسرعي!» وسحبها وراءه ثم قال: «أسرعي! إن شيئا قد حدث، لقد قتلتها.»
ولما عادا إلى طرف الجناح كانت لندا قد فارقت الحياة.
ووقف الهمجي لحظة في صمت بارد، ثم جثا على ركبتيه إلى جانب الفراش، وأخفى وجهه بين يديه، ولم يتمالك نفسه من شدة البكاء.
ووقفت الممرضة لا تدري ماذا تصنع، تنظر تارة إلى هذا الجاثي إلى جوار السرير (وهو منظر مشين)، وتارة أخرى إلى التوائم (وهم أطفال مساكين) الذين توقفوا عن اللعب وحملقوا من جانب الجناح الآخر بكل عيونهم وأنوفهم، في هذا المنظر المثير الذي كان يمثل حول السرير رقم 20، هل تتحدث إليه؟ هل تحاول أن تعيده إلى جادة السلوك المهذب؟ هل تذكره بالمكان الذي هو فيه؟ وبالضرر المميت الذي قد يسببه لهؤلاء الأبرياء المساكين؟ إنه قد يفسد تكييفهم على الموت تكييفا صحيا بهذا الصياح المقزز - كأن الموت شيء مريع، وكأن الفرد الواحد قد تكون له كل هذه الأهمية! إن عمله هذا قد يبعث فيهم أسوأ الآراء عن الموضوع، وقد يفسد عليهم أمرهم فيستجيبون بطريقة خاطئة جدا لا تتفق البتة ومصلحة الجماعة.
وتقدمت إلى الأمام خطوة ولمست كتفه، وقالت له بصوت خافت غاضب: «هلا تستطيع أن تحسن السلوك؟» لكنها تلفتت حواليها فوجدت أن ستة توائم قد نهضوا على أقدامهم، وتقدموا إلى الجانب الآخر من الجناح، وانحلت دائرتهم، وبعد لحظة ... كلا، إن الخطر جسيم، والمجموعة كلها قد تتقهقر ستة أشهر وسبعة في عملية التكييف، فهرولت عائدة نحو الأطفال المهددين الذين عهد بهم إليها.
وسألت بنغمة مرتفعة بهيجة، قالت: «من منكم يريد قطعة من الشكلاتة المثلجة؟»
فصاح أفراد الجماعة البوكانوفسكية كلهم في صوت واحد قائلين: «أنا.» ونسي السرير رقم 20 كل النسيان .
وأخذ الهمجي يكرر لنفسه قوله: «يا إلهي، يا إلهي ...» ولم يلفظ بغير هذه الكلمة، وهو في فوضى الحزن وتأنيب الضمير الذي يملأ فؤاده، وهمس ثانية بصوت مرتفع قائلا: «إلهي، يا إلهي ...»
صفحة غير معروفة