مثلما نوهنا في مستهل محاولتنا هذه لدراسة الإسكندر، فإن طبيعة الشواهد التي وصلت إلينا تتحمل جزءا كبيرا من المسئولية في ذلك؛ فكم يؤسفنا مثلا أن ضاعت الكتب الأربعة التي تحوي خطابات أرسطو إلى الإسكندر، أو الكتاب الذي يحوي خطابات هذا الفيلسوف إلى هفايستيون. ولو كان لنا أن نثق في رواية آريانوس في هذا الشأن، فالإسكندر كتب أيضا خطابات إلى أمه أثناء وجود المقدونيين في الهند (الكتاب السادس، 1، 3)، وردا على عرض داريوس في أعقاب هزيمة الفرس في إيسوس (الكتاب الثاني، 14، 4 إف إف). فلا شيء يضاهي الأفكار الشخصية الثاقبة التي كانت ستجود بها تلك الخطابات. وحتى أفضل المصادر التي كتب لها البقاء تظهر المشكلات التي واجهها مؤلفوها؛ إذ يتحدث آريانوس عن وجود العديد من الروايات الكاذبة واحتمال تخليد هذه الروايات، ويذكر أن هدفه من وراء التاريخ الذي وضعه هو التصدي لها (الكتاب السادس، 11، 2). يعترف آريانوس في محاولته تقديم رواية صادقة بوجود تفاصيل معينة لا تشغل باله (الكتاب الخامس، 20، 2)، ويقر بأنه لا يستطيع المساهمة في التوصل إلى فهم لما كان يدور ببال الإسكندر، ولا يليق به أن يستنبط ذلك (الكتاب السابع، 1، 4).
توجد أبواب أخرى مفضية إلى طبيعة هذا البطل، تناولنا خمسة منها إيمانا منا بإمكانية معرفة الكثير عن الإسكندر الثالث، من خلال تفاعل هذا الشخص الآسر والغامض في آن واحد مع عالمه؛ فلا شك أن الإسكندر شكل مسار التاريخ بأفعاله. وفي الوقت نفسه شكلته طبيعة العالم الذي ولد فيه لكي يمضي في مشوار حياته العاصف. كان لزاما عليه أن يتعلم التكيف مع عالمه، موظفا الاستراتيجيات التي غلب على ظنه نجاحها. إن الأبواب التي تقدم أتم الخيوط لفهم الفرد هي مملكته وشعبه، ومنزلته كأحد أبناء السلالة الأرغية ونسبه من جهة أبويه، ومواطن ضعف مقدونيا في مواجهة جيرانها التي تطلبت دائما جيشا لا يلين، والعلاقة بين مقدون واليونان، وطبيعة الإمبراطورية الفارسية في القرن الرابع. (1) شبابه
كانت سنة 356 التي ولد فيها الإسكندر، طيبة نسبيا مقارنة بالعقود الأربعة السابقة من التاريخ المقدوني، والمدهش أن الإليريين المروعين لم يكرروا غزوتهم التي شنوها في 360 / 359 وأودت بحياة الملك المقدوني ومعه غالبا ثلثا جنوده. ولعل توقع وقوع هجوم آخر قوى في الواقع الأواصر الضعيفة التي كانت تربط قلب المملكة، المطل على الخليج الثيرمي ببحر إيجة، والممالك الداخلية العديدة بتاريخها الحافل بالتذبذب بين الانضمام إلى مملكة موحدة والاستقلال بذاتها. بل كانت أيضا هذه الأراضي الغربية أقرب إلى أرض الإليريين، وكان بوسع أهلها استشعار شدة أي غزوة يشنها الإليريون ضد مقدونيا قبل وصول الغزاة إلى هدفهم. تبرهن على حدوث تلاحم أوثق بين مقدونيا الدنيا والعليا أصول الرجال الذين كانوا من أخلص رجالات فيليب، ومن بعده الإسكندر؛ فبارمنيون، الذي ربطته روابط وثيقة بمقدونيا العليا، قاد الجيش المقدوني بنجاح في مواجهة الإليريين سنة 356، وظل قائد فيليب الفعلي المخلص طوال حكمه، وتمتع بمنزلة مماثلة في ظل حكم الإسكندر لمدة ست سنوات. ويتضح ولاء أوريستيس من خلال المناصب الرفيعة التي قلدها كراتيروس وبيرديكاس، وولاء إيليميا من خلال القائد كوينوس، وكان ليوناتوس صديق الإسكندر من أبناء الأسرة المالكة في لنكستيس. من ناحية أخرى، لم يكن هذا التلاحم قد أعيد توطيده إلا حديثا؛ فلنكستيس مثلا كان لها تاريخ حافل بالعداء تجاه السيطرة المقدونية، وكان لعميد الأسرة اللنكستية المالكة أثناء حكم فيليب ثلاثة أبناء بالغون. وكان من الخطأ أن يعتقد المرء أن محاولات استعادة الاستقلال لن تحدث أبدا.
كان الحاكم الأرغي الجديد فيليب الثاني قد أبرم معاهدة مع الملك الإليري في أعقاب الانتصار الإليري، وتمخضت حملة ناجحة ضد الإليريين سنة 358 عن زواج دبلوماسي بين فيليب وابنة الملك الإليري. وفي السنة التالية وسع تحالف اقترن أيضا بالزواج، هذه المرة بابنة ملك إبيروس، مجال النفوذ المقدوني غربا. كانت المفاوضات مع الجيران في الشمال والجنوب والشرق أيضا في ازدياد في السنوات الأولى من حكم فيليب؛ إذ خففت الدبلوماسية والهدايا وطأة البيونيين والتراقيين، واستحدث الزواج بابنة أسرة تيسالية مهمة في لاريسا وجودا مقدونيا في شمال اليونان، ووافقت أثينا مصدر المتاعب في جنوب اليونان على عقد معاهدة، وأما الدول الإغريقية في شمال بحر إيجة فبدأت تشعر بضغط الجيش المقدوني. كان أي ابن يولد للملك المقدوني سيشهد توسيع السيطرة المقدونية المتواصل؛ إذ تضاعفت مساحة المملكة مرتين مقارنة بما كانت عليه في نهاية القرن الخامس.
وحتى عندما كان قلب المملكة أصغر من هذا بكثير، كانت المنطقة تجود بتشكيلة تحسد عليها من الموارد الطبيعية، منها نهران كبيران وروافدهما بما فيها من ثروة سمكية وفيرة، وتساقط كميات معقولة من الأمطار في الشتاء، وتراكمات جليدية توفر المياه في الصيف، وسهول خصبة من ضمنها سهل ساحلي كبير ملائم للزراعة والرعي، وجبال تكسوها أحراج تستوطنها تشكيلة واسعة من الحيوانات، وإمدادات وفيرة من المعادن. ولم يؤد التوسع إلى حماية الشعب والموارد الموجودين بالفعل فحسب، بل أضاف إليهما أيضا.
كذلك فإن فعالية استخدام الموارد الطبيعية والبشرية كانت في ازدياد أثناء شباب الإسكندر؛ إذ وسع فيليب الثاني المستوطنة المقامة في بيلا، التي وسعت في عهد أرخيلاوس في السنوات الأخيرة من القرن الخامس، لتشمل ما يلزم من منشآت للسيطرة المركزية على المملكة. ومع أن استمرار سكن بيلا والبناء من جديد على موقعها يحجب صورة عاصمة المملكة أثناء حكم فيليب، فقد وصلتنا شواهد كافية تبين أنها لم تكن بلدة صغيرة يسكنها شعب بدائي، بل كانت تضم مسكنا للملك وبيته الكبير، ومسكنا لغلمان الملك والرسل الزائرين، وما يلزم من منشآت للاعتناء بكل هؤلاء. وعلى مسافة بعيدة نوعا ما كانت هناك دواوين الإدارة الحكومية، كأمانة السر والسجلات، وإدارة الموارد، ووحدات كالمعنية بتطوير المعدات العسكرية. كان مركز المملكة السابق في آيجي - التي ظلت العاصمة المراسمية للمملكة - يضم مسرحا ومدافن ملكية كبيرة تضم رفات الأرغيين السابقين رجالا ونساء، وقد برهنت أعمال التنقيب التي جرت في موقع هذه المدافن على فخامة المشغولات التي كانت تستخدم يقينا في القصر وكرست للموتى. علاوة على ذلك، يجري حاليا اكتشاف المزيد من المدافن وبسرعة لا تستطيع مواكبتها أعمال التنقيب. كان يعاد غالبا تأسيس مستوطنات أخرى كمدن مقدونية عندما توضع تحت السيطرة المقدونية، وأقيمت مستعمرات جديدة، وأنشئت حصون على الحدود المتزايدة الاتساع، وأسفرت جهود الربط بين مختلف أرجاء المملكة عن شق الطرق.
وهكذا كان الابن الصغير لأي ملك على دراية بمملكة مركزية ومتنوعة ومتزايدة الاتساع تدار انطلاقا من عاصمة يعيش فيها داخل القسم المخصص للسكنى من القصر. ولو لم يكن هذا الشاب معاقا بدنيا أو عقليا، كان يتلقى تعليما يليق بوريث محتمل للملك. وفي قلب هذا التعليم ستكون القدرة على الحكم حكما مباشرا في كل الأمور الضرورية لإدارة شئون المملكة.
كان طابع مقدونيا المادي قوة مهمة في تكوين ملك يتعين عليه تجريد حملات طوال السنة، متحملا درجات حرارة تصل إلى حد التجمد شتاء، وخصوصا في الجبال، وقيظ الصيف الذي تتجاوز فيه درجة الحرارة 40°م (104°ف). ونظرا لإمكانية استخدام العدو وديان الأنهار والممرات الجبلية كنقاط يغزو منها المملكة، كان من الحيوي أن يعرف هذه الملامح الطبيعية جيدا. وكان الحفاظ على الأمن في المناطق الجبلية العليا من المملكة يؤدي إلى مواجهات خطيرة مع حيوانات وحشية ورعايا ساخطين. تنضم الشواهد المادية من رسوم وفسيفسائيات إلى المصادر المكتوبة لتبين أهمية البراعة في الصيد البري بين الأرغيين؛ إذ ضلع في «مؤامرة» ضد الإسكندر سنة 330 واحد من غلمان الملك سبق أن ضرب لتفوقه على الإسكندر في قتل خنزير بري أثناء رحلة صيد. كانت الدراية بالأنهار تتطلب القدرة على عبورها عند اللزوم؛ فالملك المقدوني الناجح لا بد أن يكون لائقا بدنيا عند الميلاد، ولا يتعرض للإعاقة في شبابه، ويصقل هذه اللياقة بالتدريب حتى يكون ندا لأبطال هوميروس من حيث كونهم أشبه بالآلهة إذا ما قورنوا بعامة الرجال.
مع اكتساب مقدون أبعادا جديدة ومزيدا من التعقيد، تطلب الأمر مهارات جديدة لحكمها بنجاح. كان يمكن تفويض مسائل الإدارة إلى آخرين يملكون المهارات المطلوبة، لكن الدواوين كأمانة السر ووحدة تصميم المعدات وديوان سك العملة، كانت تقتضي تزويدها بمن يليق بها من موظفين ومشرفين أكفاء. ومع التوسع الإقليمي جاءت الحاجة إلى تقسيم المسئولية الأساسية عن القيادة العسكرية، فلم يكن بوسع الملك أن يوجد في تراقيا ووسط اليونان في آن واحد، لكن البطء في الاستجابة للانتفاضات أو الاجتياحات كان من الممكن أن تكون له تبعات كارثية.
وفوق ذلك فإن توسيع المملكة بنجاح تمخض عن الحاجة إلى معاملة الرعايا والحلفاء بطريقة يفهمونها. كان معظم جيران مقدونيا من أصل هندي-أوروبي، لكن حتى هذا الإرث المشترك بات آنذاك ينطوي على اختلافات حقيقية في اللغة وأساليب الحياة، وسيتمكن الحاكم من خلال امتلاكه معرفة أعمق ببعض الاختلافات الثقافية على الأقل من اكتشاف العلاقة السليمة. كان هناك من يتقنون لغتين، لكن ليس من المستبعد أن نتصور نمو لغة مشتركة، استنادا إلى القواسم الهندية-الأوروبية المشتركة. فهل يعقل أن فيليب كان يتحدث مع زوجاته الإيليمية والإليرية والإبيروسية والإغريقية والتراقية بواسطة مترجمين؟
صفحة غير معروفة