شكل 6-1: ختم داريوس الأسطواني. حقوق الطبع محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.
كان يوجد على رأس هذا الهيكل الملك الذي يتمتع بسلطة تكاد تكون مطلقة، على الأقل من الناحية النظرية. كان الملك محصورا في السلالة الأخمينية، وينتقل عادة من الأب إلى ابنه. كان الملك الأخميني يحكم بصفته نائبا عن الإله أهورا مزدا، رب الخير كله، ويقول نقش داريوس الأول في جبل بيستون: «بفضل أهورا مزدا أنا الملك. أهورا مزدا وهبني الملك.» كانت كلمته قانونا، وكل الناس يخضعون له، وكل الأملاك ملكا له، وإن كان من خلال السلم الإداري الذي أسلفنا بيانه. ومع ذلك كان الحكام الأخمينيون يبرهنون على جدارتهم من خلال أفعالهم، وبرهن كثيرون منهم على جدارتهم من خلال سماتهم البدنية؛ فقد وصف أحد أطباء البلاط داريوس بأنه الأجمل بين الرجال. وكان التدريب على الفنون البدنية كركوب الخيل ورمي الرماح والنبال يصقل عودهم ويشد قوامهم، وكان مما يزيدهم بهاء ملابسهم وحليهم؛ إذ يقول بلوتارخس متحدثا عن ملابس أحد ملوك القرن الرابع وحليه إنها قدرت بثلاثة ملايين رطل من الذهب. بل كان أيضا العدد الكبير من الخدم الذين يمسكون بالمظلات أو يهشون الحشرات أو يقدمون الشراب، يضفي مزيدا من الجلال على الملك. كانت هناك شعارات أخرى تنم عن منزلته السامية، ومنها عربة مقدسة يجرها الخيل، وخيمة ملكية مهيبة، وصور منقوشة على جدران القصور الملكية. كان التقليد الفارسي تعبيرا عن تقدير هذه المنزلة عبارة عن انحناءة إجلال، فكان الأقل شأنا يسجدون في حضور الملك.
كانت رفاهية الملك وزوجاته وأولاده مصونة، وكانت ملذاتهم ملباة، وكان من بين الامتيازات الملكية الحريم، وبأعداد كبيرة جدا في الغالب؛ إذ يروى أن داريوس الثالث فقد 329 من حريمه أثناء فراره من الإسكندر بعد معركة إيسوس. كان الخصيان مهمين بالقدر نفسه لآل بيته، وربما نشأت أهميتهم كحشم في جناح الحريم ورعاة لأولاد الملك، لكنهم تولوا بمرور الوقت مناصب رسمية وصاروا مؤتمنين ومستشارين للملك نفسه.
تختلف صورة النظام الإمبراطوري الفارسي هذه من نواح متعددة بمرور الزمن؛ إذ يصف الباحثون المتخصصون في التاريخ الفارسي تطوره بتجاوزه الروابط الإقطاعية إلى الهياكل الدواوينية. ومع تنامي الهيكل الرسمي، شهدت قيادة الملك الشخصية هي الأخرى تحولا، وفي خضم هذا التحول، بدأت تتبدى صعوبات في الحفاظ على التلاحم عبر المملكة المترامية الأطراف بحلول منتصف القرن الخامس. (2) المزيد من التوسع
قبل أن تتفاقم العيوب عقد داريوس الأول وخليفته أحشويرش العزم على توسيع رقعة المملكة، وبعد التعامل بنجاح مع العديد من الانتفاضات التي قامت في أجزاء متعددة من الإمبراطورية، وربما الشروع في إصلاحات إدارية؛ اتجه داريوس إلى المزيد من التوسع في سكيثيا وتراقيا وربما أيضا في منطقة نهر السند، عن طريق الاستكشاف البحري من الخليج الفارسي إلى مياه خليج عمان. وفي سنة 499 اضطر إلى التعامل مع ثورة أخرى قامت بها هذه المرة الدول الإغريقية في غرب الأناضول؛ إذ نجح المتمردون بمساعدة من دولتين إغريقيتين في البر الرئيس (أثينا وإريتريا في جزيرة وابية) في الاستيلاء على سارديس. وسواء أكان الإغريق غير قادرين على المضي في العمل العسكري أو غير راغبين فيه، فإنهم هزموا وعادوا إلى السيطرة الفارسية بحلول سنة 494، لكن ملابسات هذه الثورة لفتت انتباه الفرس إلى عالم البر الرئيس الإغريقي المزعج، ذلك العالم المنقسم إلى مئات الدول المستقلة المتحاربة على الدوام؛ فنظم داريوس عملين انتقاميين ضد المشاركين في الثورة من البر الرئيس، جاء الأول سنة 492 على هيئة حملة بحرية في شمال بحر إيجة. وعلى الرغم من خضوع تراقيا ومقدون للضغط الفارسي، غرق جزء كبير من الأسطول في عاصفة قوية قبالة شرقي شبه جزيرة خالكيذيكي مع تكبد خسارة فادحة في الرجال. وبحلول سنة 490 كان الأسطول قد جدد، فأبحر عبر جزر كيكلادس قاصدا المضيق الواقع بين جزيرة وابية وأتيكا في البر الرئيس، للتعامل مع المساهمين في الثورة السابقة من البر الرئيس، وبعد الاستيلاء على إريتريا أحرقت معابدها ورحل سكانها إلى قلب الإمبراطورية الفارسية. ثم وجه الفرس اهتمامهم إلى الشريك الثاني في الجريمة، فنزلوا في السهل الكائن عند ماراثون شرق أتيكا، وهو المكان الذي احتشد فيه 10 آلاف أثيني مع فرقة عسكرية من دولة بلاتايا الصغيرة في وسط اليونان للتصدي لجيش يفوقهم بكثير. ولدهشة الجميع، هزم الجيش الفارسي في ماراثون.
لم يبذل داريوس محاولة ثالثة؛ إذ استحوذت ثورة قامت في مصر على اهتمامه الفوري. والواقع أن داريوس مات سنة 486 دون استعادة المرزبة السابقة إلى السيطرة الفارسية، فخلفه ابنه أحشويرش على العرش. ولم تعد مصر إلى وضعها السابق كمرزبة فارسية إلا في السنة الثانية من حكم الملك الجديد، ومن المهم أن ننوه إلى أن «مرزبانها» الجديد كان أخا لأحشويرش لا أحد أبناء أسرة أرستقراطية أخرى، وسننظر في دلالة هذا التغيير في السياسة المتبعة في موضع لاحق.
تسنى لأحشويرش آنذاك توجيه اهتمامه إلى المهمة غير المكتملة في اليونان، فجرد حملة هائلة لضم البر الرئيس اليوناني إلى الملك الفارسي. حشد جيش قوامه نحو 250 ألف رجل، وفقا للحسابات الحديثة، أثناء التحضير المتأني لحملة برية وبحرية مشتركة، وأقيم جسر مزدوج ضخم عبر مضيق هلسبونت لتيسير عبور الرجال والدواب والمؤن، وأنشئت مستودعات للأغذية على امتداد الطريق، وأقنعت دول إغريقية عديدة بالتحالف مع الفرس، وإن لم يكن التحالف الرسمي فالوعد بالحياد على الأقل. نجح أحشويرش في أول الأمر، فصار الملك المقدوني تابعا فارسيا بحكم الواقع، مع استخدام شمال مملكته كنقطة انطلاق للحملة المتجهة جنوبا. هزمت القوات الإغريقية المسيطرة على الممر الحيوي عند ترموبيلي، وسرعان ما دمرت أثينا بعد ذلك. لكن على الرغم من هذه الانتصارات، كانت الغلبة للإغريق بحرا في معركة سلاميس في الخليج الساروني؛ مما أقنع أحشويرش بضرورة العودة إلى عاصمته، وفي السنة التالية هزمت القوات الإغريقية القوة البرية الفارسية التي تركت في بلاتايا. وفي اليوم ذاته، أو بعده بفترة وجيزة، انتصر الأسطول الإغريقي في معركة حاسمة ضد الأسطول الفارسي قبالة ساحل آسيا الصغرى، وبعد ذلك باثنتي عشرة سنة، ألحق ائتلاف من الدول الإغريقية، بقيادة عليا من أثينا، هزيمة أخرى بالأسطول الفارسي قبالة ساحل الأناضول الجنوبي. آذن هذا النجاح الإغريقي بالحلقة الأخيرة في محاولة لتحرير الدول الإغريقية بآسيا الصغرى من السيطرة الفارسية؛ ومن ثم تقليص رقعة الإمبراطورية الفارسية، ولن يحتفي الإغريق وحدهم بنصرهم، بل سيشاركهم إياه أيضا المقدونيون، الذين كانوا قد جروا إلى محاولة التوسع الفارسية غربا.
على الرغم من أن هذه الخسائر لم تمزق أوصال الإمبراطورية، أو تستنزف خزانتها، فإنها برهنت على أن التوسع المستمر بعيدا عن قلب الإمبراطورية مجانب للحكمة؛ إذ انتفضت بابل ثائرة من جديد فنشرت تعزيزات عسكرية في آسيا الصغرى في سبعينيات القرن الخامس. وفي العقد التالي، بدأت انتفاضات أوسع انتشارا، وإن كان أحشويرش لم يعش للتصدي لها. غير أن وفاته تبرهن على عيبين خطيرين في هيكل الدولة الفارسية؛ إذ قتل على يد المسئول النبيل المهم أرتبانس بمساعدة أحد الخصيان حراس السرير، وكان هدف أرتبانس - الذي لم يتحقق - على ما يبدو الاستحواذ على الملك لنفسه. كان يوجد مرشحون آخرون لولاية العرش ممثلين في أبناء أحشويرش الشرعيين الثلاثة: داريوس وهستاسبس وأرتحششتا، مرتبين بحسب السن. كان العرف أن يخلف الملك أكبر أبنائه، لكن في حالتنا هذه عمد أرتحششتا إلى قتل داريوس، ثم حاول أرتبانس قتل أرتحششتا، لكنه هو الذي قتل. ولي العرش أرتحششتا، لكن لم يستتب له الملك إلا بعد أن واجه تحدي أخيه الموجود على قيد الحياة هستاسبس، الذي زحف على رأس قواته من مرزبته في باخترا لمنازعة أخيه على العرش، فلقي حتفه في المعركة. واستباقا للأحداث نقول إن قتل الملك الحاكم والصراع بين الخلفاء المرتقبين سيصيران سمة معظم ما تبقى من تاريخ السلالة الأخمينية. ومن نافلة القول أن انعدام الأمن على رأس السلطة المطلقة يحدث خللا في هيكل السيطرة بأكمله.
حكم أرتحششتا بعد رحلته الوعرة إلى العرش 40 سنة (465-424) انشغل خلالها بالاحتفاظ بالأقاليم التي ضمها أسلافه إلى الإمبراطورية بدلا من توسيعها. واصل الإغريق المزعجون هجماتهم على دولة الفرس بإرسال حملة كبيرة إلى مصر، التي كانت ذات يوم مملكة مستقلة، لانتزاع السيطرة عليها من أيدي الفرس. انطلقت الحملة سنة 461 وحققت بعض النجاح الأولي، ولم يهزم الإغريق إلا سنة 454. ثم أبرمت معاهدة سلام بين فارس وأثينا بعد ذلك بخمس سنوات. في تلك الأثناء، كان الإغريق ناشطين أيضا في إثارة المشكلات في آسيا الصغرى، ولمعالجة الوضع المتقلقل أرسل أرتحششتا ابنه قورش إلى المنطقة برتبة كارانوس، أو قائد أعلى. وفوق ذلك ثار رجل يدعى ميجابيزوس في سوريا بمعونة مرتزقة إغريق، ويبدو أن ثمة أعمالا عدائية جرت في يهوذا. برزت إلى السطح مشكلات أخرى على أطراف الإمبراطورية، فحدثت قلاقل في باخترا، وأما في قبرص فكان لدى الملك الأصلي إيفاجوراس طموحاته الخاصة لتوسيع الإقليم الذي تحت سيطرته، على الرغم من تبعيته الاسمية للشاه الفارسي.
كان تخلي ذلك الملك الأخميني عن اسمه الشخصي (الذي ربما كان «أرشو») مقابل اتخاذ لقب ملكي؛ أمارة على تغيرات أعمق داخل الهيكل الإمبراطوري، ويعني اسم أرتحششتا «السلطة من خلال الإله أرتا». يكشف هذا التطور عن تغير لطيف في طبيعة الملك؛ إذ بينما كان استخدام الملك اسمه الشخصي يؤكد على قدرته على الحكم من واقع سماته الذاتية، يؤكد اتخاذ لقب ملكي على الشرف الموروث الذي يجلبه هذا المنصب. ثمة تذكرة أخرى بالسلطة الملكية تجلت في صور الملوك التي صارت ترى آنذاك على المسكوكات النقدية الفارسية. ويوحي كلا هذين التطورين بإضفاء المزيد من الطابع المؤسسي على الحكم الفارسي.
صفحة غير معروفة