كان الجيش الجديد أداة التوحيد والتوسيع والمركزية تحت قيادة ملك يحكم انطلاقا من بيلا، وكان ضروريا لاستقرار المملكة واستتباب سلطة الملوك الأرغيين على حد سواء؛ ومن ثم لزم أن يكون موجودا على الدوام. كانت وظيفته بالطبع صون سلامة أراضي المملكة مهما كانت مساحتها، ومع التوسع وإحلال السلام في المزيد من الأقاليم، دعت الحاجة إلى أهداف جديدة، وهكذا كانت استدامة الملك الفرص المناسبة لجيشه بندا بالغ الأهمية على أجندته.
كان تأمين السلطة الملكية أيضا مرتبطا بالابتكارات العسكرية إيجابيا وسلبيا على السواء؛ فغلمان الملك كانوا حرسه في بيلا، بل كان أيضا حراس الملك الشخصيون السبعة يمارسون وظيفة أشق بحماية ملكهم من الخطر، لكن أفراد كلتا الفئتين كان يمكن أن تحركهم أحقادهم الشخصية؛ إذ قتل فيليب على أيدي أحد «غلمانه»، ويزعم أن أحد حراس الإسكندر السبعة كان متورطا في مؤامرة ضده. كان كثير من جنود فيليب وضباطه من مناطق مقدونيا العليا، وقد أحسن هؤلاء، مثل بارمنيون، خدمته وارتقوا في المناصب القيادية الرفيعة. وكان شخص يدعى الإسكندر من المملكة اللنكستية من أول من أعلنوا تأييدهم الإسكندر الثالث لدى موت فيليب، ورافق الإسكندر في حملته في بلاد فارس، وأسندت إليه مناصب مهمة كقيادة الخيالة التيسالية، لكن اشتبه في تآمره على الإسكندر، فألقي القبض عليه وسجن وفي النهاية أعدم سنة 330. كان ممكنا لصغار الضباط أيضا أن يخونوا؛ إذ فر رجل يدعى أمينتاس بن أنطيوخوس من خدمة الإسكندر إلى داريوس، وقاد المرتزقة الإغريق في معركة إيسوس. ولو غضب الجنود النظاميون على قائدهم، فالتمرد ممكن دائما على الرغم من يمين الولاء الذي أدوه بمناسبة اعتلاء الملك العرش (بوليبيوس، الكتاب الخامس عشر، 25، 11؛ كورتيوس، الكتاب العاشر، 7، 9).
المغزى أن «الوحش» كان له ذيل قوي يضرب به الملك المقدوني ويضرب به أعداء الملك ومملكته، وكان الأحوط لقائده أن يبقي عينيه مفتوحتين على حركات هذا الذيل.
الفصل السادس
ملاقاة التهديد البعيد
كتب فرناند بروديل في تأريخه الواسع الذي يحمل عنوان «الذاكرة والبحر المتوسط» عن «خطأ الإسكندر»؛ بمعنى قيادته قواته شرقا لا غربا؛ إذ لو اتخذ قراره بالسير غربا، «أفليس من الجائز أنه كان سيحول دون المصير الذي لاقته روما؟» (الصفحة 250) ومع ذلك فإن معاصرين للإسكندر، بل أيضا ملك آخر يحمل اسم الإسكندر (صهره الذي كان يحكم إبيروس)، وجهوا اهتمامهم نحو إيطاليا، لكن لم يكتب النجاح إلا لقليلين. المدهش أن الإسكندر الثالث المقدوني حقق نجاحا غير عادي في مواجهة الإمبراطورية الفارسية المترامية الأطراف والثرية والقوية، وكل من اختيار الخصم والنجاح في مواجهته يستحق منا التأمل؛ فلماذا كانت بلاد فارس هدف الإسكندر؟ وماذا كانت حالة تلك الإمبراطورية سنة 336؟ بالإضافة إلى ذلك، توجد قضايا أخرى عديدة ستساعدنا على فهم الإسكندر نفسه: إلى أي مدى كانت معرفته عميقة بالإمبراطورية الأخمينية؟ وإلى أي مدى كان هيكلها وثقافتها أجنبيين عليه؟ وهل أثر فتح بلاد فارس على خططه التالية؟ (1) إنشاء الإمبراطورية الأخمينية
خرجت إلى الوجود في أواخر الألفية الرابعة في شرق البحر المتوسط ثقافات معقدة على هيئة دول-مدن فرادى، ومع توسيع دول منطقة ما بين النهرين رقعتها، برزت ممالك أكبر في أواخر الألفية الثالثة والألفية الثانية في مصر وفي الشرق الأدنى؛ كانت تلك الحضارات في الوقت نفسه بمنزلة مغانط تجتذب شعوبا جديدة إلى شبكات نشاطها. وبحلول أواخر الألفية الثانية كانت تهيمن على منطقة شرق البحر المتوسط قوتان كبيرتان؛ مصر في الجنوب والمملكة الحيثية في الشمال. فتت الانهيار الذي ما زال غامضا واعترى الحضارات في نهاية الألفية الثانية قواعد السلطة لقرون عديدة، لكن في القرن السادس اتحدت الشعوب التي وفدت متأخرا على المنطقة تحت حاكم واحد، وتوسعت توسعا انفجاريا، فصارت الإمبراطورية الوحيدة في عالم شرق البحر المتوسط. كانت هذه التوليفة هي الإمبراطورية الفارسية، التي كانت الدولة الأكبر في امتدادها في تاريخ منطقة البحر المتوسط والشرق الأدنى حتى إقامة الإمبراطورية الرومانية؛ إذ امتدت من تراقيا إلى نهر سيحون في الشمال، ومن الساحل الليبي إلى نهر السند في الجنوب. انعكس تنوع الشعوب التي وحدت بإنشاء هذه الدولة المترامية الأطراف في فلسفة الحكم؛ إذ شجع حكامها الحفاظ على التقاليد الثقافية المحلية تحت هيكل الإدارة الموحدة.
شكلت الإمبراطورية سريعا في القرن السادس قبل الميلاد حينما كانت دول عديدة تتنافس على السيادة في أعقاب انهيار الإمبراطورية الآشورية في الشرق الأدنى سنة 612. كان أهم المتنافسين مملكتي بابل ومصر القديمتين اللتين تحررتا آنذاك من السيطرة الأجنبية، والميديين الهنود-الأوروبيين الذين وفدوا على المنطقة متأخرا وكانت أرضهم تمتد جنوبا من غرب أعالي دجلة إلى الخليج الفارسي. كلل مسعى الميديين بالنجاح، فبسطوا سيادتهم على شعب هندي-أوروبي آخر وهو الفرس الذين كانوا أقل اتحادا من أقاربهم في اللغة؛ ومن ثم كانوا عرضة للاختراق من جانب جيرانهم الأقوى منهم. تمخض زواج ابنة الملك الميدي بقمبيز الأول ملك فارس عن انعكاس أدوار الشعبين؛ إذ تآمر ابن جاء ثمرة هذا الزواج يسمى قورش ضد جده الميدي، الذي استسلم استسلاما مشروطا سنة 559. كان قورش أول ملوك السلالة الأخمينية - سميت تيمنا بأخمينس الذي يزعم أنه الجد الأكبر للسلالة - التي استمرت حتى حكم الإسكندر المقدوني.
ظفر قورش بلقب «الشاه» من خلال مشوار عاصف وطد خلاله الحدود الأساسية لإمبراطوريته. وإذ ورث النزاع بين ميديا ومملكة ليديا الأناضولية، زحف بجيشه فألحق هزيمة ماحقة بالجيش الليدي سنة 546، ثم سار إلى ساحل الأناضول، ضاما بذلك دول-مدن آسيا الصغرى الإغريقية إلى ملكه المتسع. وفي بلاد ما بين النهرين دعي إلى تولي إدارة بابل فتولاها سنة 538 ليكتسب بذلك أرضا غرب نهر الفرات. كان الجنود الفرس ناشطين في الشرق أيضا، وتحديدا في أفغانستان الحديثة وأطراف إيران وما وراء حدود الهند الحديثة. لم يبسط قورش سيادته على ثالث المتنافسين على السلطة؛ إذ ترك مهمة ضم مصر إلى الإمبراطورية إلى ابنه وخليفته قمبيز الثاني (530-522) بعد مقتله في الحرب ضد الماساجيتاي في الجزء الشمالي الشرقي من إمبراطوريته. كان قورش قد عين قبل ذلك قمبيز ملكا على مدينة بابل، التي يبدو أنه مكث فيها طوال معظم حكمه، وفي 526 أعد العدة لغزو مصر فأخضعها للسيطرة الفارسية بحلول صيف 525. وبالإضافة إلى توسيعه الإمبراطورية، تتسم سمعته بالولع بالوحشية في الروايات المصرية والإغريقية والفارسية على السواء، وقد مات سنة 522، إما انتحارا وإما قتلا.
بضم مصر بلغت الإمبراطورية أقصى اتساع لها تقريبا. كان واضحا أن الحكم المباشر على يد ملك مستقر في قلب فارس القديم لن يكفل السيطرة الفعالة. علاوة على ذلك، كان الكثير من الأقاليم التي ضمت إلى الإمبراطورية ذا حدود واضحة المعالم ونظم حكم مستقرة منذ زمن بعيد؛ فاستفاد الأخمينيون من المناطق المعلومة الحدود ومن هياكلها في استحداث هيكلهم الإداري الخاص بهم. كانت الأقاليم مرزبات (ساترابيات)، على رأس كل منها مرزبان (ساتراب، والكلمة أصلها فارسي قديم بمعنى حامي الإقليم)، وكان تعيين هؤلاء من لدن الملك يرمز إلى حقيقة أن السلطة النهائية منوطة به. وجد رابط آخر في الآصرة الشخصية بين المرازبة والملك، ويبدو أن أهمية أواصر الولاء الشخصية بين الأفراد، الشائعة جدا في المجتمعات القبلية، كانت تشكل أساس سلطة المرزبان. كان المرازبة في البداية من أبناء العائلات أو العشائر الفارسية المهمة الذين كان دعمهم ضروريا لاستقرار الحكم الأخميني، لا من أبناء الأسرة الحاكمة ذاتها. وفي بعض أجزاء الإمبراطورية ظل الحكام المحليون في السلطة، مؤدين مسئوليات المرازبة؛ وكان هذا هو الحال في الممالك الجزرية التي ضمت إلى الإمبراطورية، وفي إيفاجوراس ملك قبرص مثال على استمرار أشكال الحكم المحلية، لكنها باتت آنئذ تحت إشراف الهيكل الإمبراطوري.
صفحة غير معروفة