الجبال هي ثاني الملامح المميزة لمقدونيا؛ فغالبية الأرض التي تتكون منها المملكة التي أنشأها فيليب الثاني يزيد ارتفاعها عن 1800 قدم (600 متر)، ويشمل هذا المنطقة المنخفضة الواقعة شرق نهر إكيودوروس (جاليكو حديثا). وكان مدى الأرض الواقعة أقصى الغرب التي ضمت في النهاية إلى مملكة مقدونيا، تحدده سلسلة جبال بيندوس الطويلة المارة عبر منطقة البلقان وصولا إلى خليج كورنثة. كثير من القمم الجبلية الفردية في مقدونيا شاهق الارتفاع، فينافس بعضها جبل الأوليمب البالغ 9461 قدما (2917 مترا) لكن لا يفوقه؛ إذ تصل إحدى قمم سلسلة جبال برنوس (كايماكتسالان) إلى 8203 أقدام (2524 مترا)، بينما تصل إحدى قمم سلسلة جبال بابونا إلى 8255 قدما (2540 مترا). ومع أن الفروج الطبيعية في الجبال بمنزلة بوابات إلى السهول المنخفضة، فإنها توفر أيضا وسيلة دفاع طبيعية قوية؛ لأن بعض هذه الفروج - كما سبق أن نوهنا - شديد الضيق على نحو تسهل معه السيطرة عليها. وفي أجزاء من المنطقة، تعمل السلاسل الجبلية كساتر؛ إذ توفر جبال مقدونيا الدنيا غرب أكسيوس «درعا متصلا» كما وصفها نيكولاس هاموند (1972: 162).
شكل 2-1: الضفة العليا من نهر هالياكمون. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون .
كانت الغابات هبة الجبال، وفي الزمن القديم كانت مقدونيا تحتوي على الكثير من غابات الأشجار الدائمة الخضرة والنفضية على السواء، ويقدر أن نحو خمس المنطقة تكسوه الغابات حتى في وقتنا هذا. تسود نظم جبال الألب الإيكولوجية بالقرب من القمم الجبلية، وكانت أشجار الصنوبر تنمو فوق المنحدرات، أما أسفل منها فكانت تسود فيه أشجار البلوط والشوح والأرز. لم يكن الخشب الذي توفره الغابات ثمينا للاستخدامات المنزلية فحسب، بل كان أيضا مرغوبا من جانب دول اليونان الفقيرة بالخشب. واستخدمت الأنهار لتعويم أشجار الخشب المقطوعة إلى السهول، وفي النهاية كان الساحل يسهل نقلها إلى قلب المملكة، الذي كان يشهد معظم نشاط التبادل التجاري مع الآخرين.
شكل 2-2: مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
توفر الأشجار أيضا الغذاء والمأوى للحيوانات، ولم تكن الأشجار المقدونية استثناء من هذا في الزمن القديم؛ إذ كانت تسكن الغابات طائفة واسعة من الحيوانات البرية. ويوجد في الآونة الأخيرة حوالي 32 جنسا من الثدييات و108 أجناس من الطيور تسكن الحديقة الوطنية فوق جبل الأوليمب، وتوجد تشكيلة كبيرة من بينها مشهود لها بالقدم أيضا، كان بعضها - من قبيل الأيل واليحمور - لا يشكل خطورة كبيرة على البشر، لكن كانت هناك حيوانات أخرى مخيفة بحق، كالخنازير البرية والدببة البنية والذئاب والأوشاق والفهود والنمور والأسود، وكلها كانت تسكن الغابات الجبلية. ويروي هيرودوت واقعة غريبة تعرض لها الفرس وهم في طريقهم إلى مقدونيا سنة 480 قبل الميلاد؛ حيث كانت الأسد «تترك عرنها وتنزل دوما أثناء الليل ... تقتل الإبل دون غيرها، فلا تهاجم أي حيوان آخر أو إنسان» (الكتاب السابع، 123، 3).
شكل 2-3: ما زالت الأيائل تستوطن مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
استفادت الحيوانات المستأنسة أيضا من السلاسل الجبلية، التي كانت توفر مراعي صيفية من الطراز الأول لقطعان الضأن والمعز. كان معظم سكان مقدونيا العليا - بمعنى المناطق الشمالية والغربية من البلاد - يشتغلون بالرعي منذ أزمنة ما قبل التاريخ وحتى القرن الرابع، وعندما وقف الإسكندر خطيبا في محاربيه القدامى الغاضبين بعد العودة إلى بلاد ما بين النهرين، وبخهم لنكرانهم نعمة التغيرات الهائلة التي أحدثها أبوه في حياة كثير من المقدونيين. لقد ورثهم رعاة رحلا أغلبهم لا تكسو أجسامهم إلا جلود الحيوانات، يرعون بضع شياه على الجبال، وبعد أن أنزلهم فيليب من الجبال إلى السهول، أبدلهم أردية كاسية بجلودهم وجعلهم خصوما أندادا لجيرانهم البرابرة (آريانوس، الكتاب السابع، 9، 2). وعلى الرغم من احتمال مبالغة الإسكندر في وصف الحالة السابقة، تعضد الشواهد الآثارية الحقيقة الأساسية لصفة حياة الكثيرين من ساكني الجبال، لا في الأزمنة القديمة فحسب، بل في الأزمنة الحديثة أيضا نوعا ما. وعندما نتذكر أن الغالبية العظمى من مقدونيا، وخصوصا المناطق العليا أو الغربية، يزيد ارتفاعها عن 1800 قدم (600 متر)، يزداد إدراكنا دور الجبال في الحياة المقدونية.
كانت الثروة المعدنية أيضا موجودة بوفرة، والمنطقة في الأزمنة الحديثة مصدر للذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس وركاز الحديد وكربونات المغنسيوم والزنك والأسبستوس والكروم والبيريت والموليبدنوم الذي يستخدم في صنع سبائك الفولاذ. ومن غير المؤكد أنه كان يجري استخراج كل هذه المعادن في الأزمنة القديمة، لكن كلا من الذهب والفضة كان ينتج بنشاط في عهدي فيليب والإسكندر، وأيضا على أيدي خلفائهما. وتدل كمية ونوعية المشغولات التي كشفت عنها أعمال التنقيب والتي صنعت من معادن أقل قيمة؛ على أن سكان مقدونيا كانوا يعرفون هذه الموارد وطوروا مهارات لاستغلالها. ومن الجائز تماما أن المعادن كانت عاملا في الاتصال بين الميسينيين في يونان العصر البرونزي والشعوب المقدونية. علاوة على ذلك، تظهر الكشوفات الحديثة في مدينة بدنا أن المستوطنين الإغريق اكتشفوا هذه الموارد المعدنية في أواخر العصرين المظلم والعتيق. ومن مكونات الجبال الأخرى التي كانت لها قيمة كبيرة في الإنشاء الرخام الفاخر والحجر الجيري اللذان كانا يستخدمان في إقامة التحصينات والطرق والأبنية.
يتناثر بين السلاسل الجبلية الكثير من السهول الواسعة التي حبيت بنعمة الأنهار والأمطار مع التربة الخصيبة، وعندما يتجه المسافر غربا من بحر إيجة، يصادف طبقات من الوديان التي تدعم - على الرغم من تفاوت أنواعها النباتية - الرعي وتربية المواشي أسهل مما تدعمه السهول الجبلية الواقعة في جنوب اليونان. وتبين أن مقدونيا شديدة الانفتاح على جهود المزارعين المستقبليين في زمن مبكر يعود إلى تاريخ نشأة الزراعة. والحقيقة أنه توجد مواقع في مقدونيا وفي جزيرة كريت من بين أولى مناطق القرى المستقرة في غرب بحر إيجة، وقد وثقت زراعة نوعين من القمح فضلا عن الشعير والعدس والحمص والدخن منذ العصر الحجري الحديث. ويقينا كانت الأعناب منذ زمن فيليب والإسكندر، إن لم يكن قبلهما، أيضا عنصرا مهما من عناصر الزراعة المقدونية. وتمكنت بعض أشجار الزيتون، إن لم يكن الكثير منها، من البقاء في المناطق الأقرب إلى الساحل من ذلك الإقليم. وتوجد في الأزمنة الحديثة أحواض معينة يمكنها زراعة ثلاثة محاصيل سنويا. تضمنت سبل عيش الفلاحين المقدونيين في السهول، ومن يعيشون في الأعالي، تربية الحيوانات كالمعز والضأن والخنازير والأبقار والخيول، وتوفر السهول الساحلية مراعي ممتازة للأبقار والخيول ومراعي شتوية للمعز والضأن. وتمكنت الخيول التي تركها الجيش الألماني في الأيام الأخيرة من احتلاله اليونان، من البقاء دون رعاية بشرية حتى يومنا هذا على ضفاف نهري أكسيوس وهالياكمون.
شكل 2-4: النظر غربا عبر جبال بيندوس. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
صفحة غير معروفة