ولكن حديث الشيخ يثير في نفس صبيح شوقا وحنانا، ورغبة في الاستطلاع وشغفا بالتزيد من هذا الحديث، وإذا صوته الفاتر يسترد شيئا من نشاط ويشيع فيه شيء من حرارة. وإذا وجهه الذي لم يكن يظهر عليه اكتراث أو احتفال تظهر فيه آيات العناية بما يسمع من الشيخ والرغبة في التزيد منه.
ويطول الحديث شيئا بين الشيخ والعبد، وقد شغل كل منهما بصاحبه فلم يذكر الشيخ حاجته، ولم يحفل العبد بواجبه. وتمضي لحظات غير قصار، ثم يتنبه صبيح فيعتذر إلى الشيخ من تقصيره وينسبه. فإذا انتسب الشيخ وجم العبد وجوما شديدا، وظهرت عليه آيات الذهول أو ما هو أكثر من الذهول. وامتلأت نفس الشيخ لذلك عجبا! فقد انتسب الشيخ إلى قريش، وتحدث مالئا فاه بأنه من أهل مكة وسكان الأباطح وجيران البيت الحرام، وأن سادته لا يسمعون اسمه، ولا يعرفون مكانه من قريش ومنزله من الحرم حتى يتلقوه لقاء لا يتلقونه أحدا آخر من غير هذا الحي من قريش، جيران الله، وسدنة بيته الكريم.
والشيخ يقول: هذا كله مزهوا به، ممعنا فيه، مالئا به ما بين شدقيه، كأنه يمتلئ عزة وأنفة كلما أجرى منه على لسانه لفظا. والعبد يسمع هذا مبهورا مسحورا قد ملك عليه أمره، وكاد يذهب عنه عقله. ويظن الشيخ أن العبد مفتون باسم قريش وموطنها؛ لكثرة ما سمع من ذكر قريش، ولكثرة ما عرف من تقديس العرب لهذا الموطن الحرام. ولكن العبد يفجؤه بهذا السؤال: فأنت إذا تعرف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟
قال الشيخ باسما معتزا: نعم! سيدنا وابن سيدنا. ومن ذا الذي لا يعرف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب! ولكن ما علمك به؟ وما ذكرك له وأنت عبد رومي لا علم لك بمثل هذه الشئون؟!
قال صبيح غير حافل بهذا السهم الذي وجهته إليه كبرياء هذا الشيخ العربي القرشي: متى آخر عهدك به؟
قال الشيخ ضاحكا: آخر عهدي به! آخر عهدي به ثلاثة أعوام وبعض عام. ولكن ما علمك بمحمد؟ وما سؤالك عنه؟
قال صبيح: ثلاثة أعوام وبعض عام! هذا كثير. ولعل كثيرا من الأحداث أن يكون قد طرأ في هذا الردح من الزمان.
قال الشيخ: أبن يا غلام، ما علمك بهذا السيد من سادة قريش؟ وما سؤالك عنه؟ وما إلحاحك في هذا السؤال؟
قال صبيح: فكيف تركته حين فارقته؟
قال الشيخ وقد أخذ يتميز غيظا: تركته سيد قومه، على خير ما يحبون له وعلى خير ما يحبون منه. ولكن ما أنت وذاك؟ امض بنا إلى سادتك فقد أخرتنا عن القصد، وصرفتنا عما نحن في حاجة إليه.
صفحة غير معروفة