وما أكثر الذين ينزلون بهذا الحي من كلب بن وبرة من أفراد الناس وشذاذ الآفاق! فيدنو منهم هذا الكهل الرومي، ويتصل بهم، ويتوسل إليهم بالوسائل، ويسألهم عن الحجاز، فينبئونه عنه بما يعلمون وما لا يعلمون. ويسألهم عن هذا الفتى القرشي ويسميه لهم، فينكرونه ولا يعرفون من أمره شيئا، ولكنهم يثنون على قريش ويعجبون بمفاخرها ومآثرها، ويثنون على رهطه الأدنين ويذكرون ما لهم من المآثر والمكرمات، ثم ينصرفون إلى غير وجه من هذه الأرض البعيدة العريضة التي لا يعرف الطرف لها مدى، ولا تنتهي العين منها إلى حد.
من لهذا الكهل الرومي بشيء من أنباء السماء؟ فقد كانت الأحاديث متصلة مستفيضة في أديار الرهبان وصوامع الأحبار بأن أنباء السماء قريبة. أفتراها قد بلغت إلى الناس؟ أفتراها تبلغه يوما من الأيام؟ أفتراه يستطيع أن يسعى إليها يوما من الأيام؟ ما إقامته بين هؤلاء القوم الكرام من كلب بن وبرة في ناحية من نواحي الصحراء غير بعيد من الشام، وإن همه لفي واد من أودية الحجاز ، وإن شفاءه لعند فتى من قريش يقال له محمد بن عبد الله؟!
ما أكثر ما كانت تخطر هذه الخواطر على «كلكراتيس» فتملأ نفسه، وتفعم قلبه، وتشيع فيه شوقا جديدا وحنانا عظيما، وترسل من عينيه دموعا غزارا، وتصعد من جوفه زفرات تكاد تحرق قلبه تحريقا، وتغريه من حين إلى حين ببعض الأمر، ولكنه لا يلبث أن يثوب إلى نفسه، ويثوب إلى رشده، ويذكر ذلك العهد الذي أشهدا الله وضميره عليه حين كان موثقا إلى تلك المطية التي كانت تسرع به في الصحراء إسراعا رفيقا.
ليصبرن على المحنة، وليثبتن للخطب، وليقيمن على الوفاء لظالميه والباغين عليه حتى يبلغ الكتاب أجله! فإن الله لم يصب عليه هذه التجارب، ولم يمتحنه بهذه الخطوب إلا وله في ذلك أرب وحكمة.
فليصبر على المحنة إذا، وليثبت للخطب حتى يبلغ الكتاب أجله. ولكن ألم يأن للكتاب أن يبلغ أجله بعد؟!
15
بلى! قد أنى للكتاب أن يبلغ أجله، وأن يبلغه في وقت أقصر جدا مما كان يقدر هذا الكهل الرومي الذي ما نزال نحتفظ له باسمه الرومي القديم «كلكراتيس»، وإن كان سادته لا يعرفون له هذا الاسم، وإن كان هو نفسه قد كاد ينسى هذا الاسم وما يتصل به من الذكرى، وأصبح لا يذكر إلا اسمه العربي الجديد الذي اشتق من الساعة التي أسر فيها، وهي مطلع الصبح فسمي «صبيحا».
أنى للكتاب أن يبلغ أجله في وقت أقصر جدا مما كان يقدر صبيح، وعلى نحو أغرب جدا مما كان يقدر أيضا. وهل جرى أمر من أموره على نحو ما فكر أو قدر! ألم تكن حياته كلها ألوانا من الخطوب يتبع بعضها بعضا على غير انتظار منه لها ولا ترقب منه لوقوعها؟! من كان يستطيع أن يتكهن له بأن سيأوي مع صديقه الشيخ إلى الدير، أو سيرحل مع رفيقه «بحيرى» إلى العراق، أو سيقع أسيرا في أيدي هذا الحي من أحياء العرب، أو سيقضي أعواما طوالا لا يسمع فيها صوتا روميا، ولا يتحدث فيها إلى رجل رومي، ولا يقرأ فيها كتابا من كتب الروم، ولا يحاور فيها راهبا من رهبانهم، ولا حبرا من أحبارهم، ولا فيلسوفا من فلاسفتهم، وإنما يلتحف شملة الأعرابي، ويتكلم لغة الأعراب، ويروي أشعارهم كأحسن ما يرويها الأعراب الفصحاء، ويدعى بهذا الاسم الغريب فيجيب؟!
ومن كان يستطيع أن يتكهن له بذلك أو ببعض ذلك؟! ولكنه على بعده وغرابته قد وقع له وجرى عليه! وهو جالس ذات يوم في أعقاب النهار وقد امتلأت نفسه بهذه الخواطر التي صورناها آنفا، وهو مقسم بين الاستسلام لها والاسترسال فيها، وبين النهوض إلى إبله هذه المتفرقة ليجمعها وليدفعها أمامه إلى حظائر الحي. فقد تولى أكثر النهار ومنزل الحي بعيد. إنه لفي ذلك وإذ هو يسمع كلبه ينبح عن بعد، فينبهه ذلك بعض الشيء، وإذا أشخاص ترفع له لا يكاد يحققها أول الأمر، ثم تدنو منه شيئا فشيئا، فينظر فيرى رجلا شيخا نبيل المنظر مهيبا، قد أقبل على راحلته، ومن حوله غلمان ثلاثة كأنهم أتباعه في السفر وأعوانه على جهد الطريق.
فلما رأى «صبيح» ذلك نهض متثاقلا، وسعى حتى دنا منه، فيسأله الشيخ عن حيه من هم؟ فيجيب صبيح. ثم يسأله الشيخ عن اسمه وعن موطنه الأول، فيجيب صبيح في أناة ووقار يشبهان الإعراض والفتور. ولكن الشيخ لا يكره ذلك ولا ينكره، وكأنه استعذب صوت العبد واستلذ لغته؛ فهو يطيل معه الحديث، ويلح عليه في السؤال. فإذا عرف أنه رومي الموطن، تحدث إليه عن بلاد الروم حديث العالم بها، الملم ببعض شئونها وأخبارها. على نحو ما كان العرب في ذلك الوقت يعرفون بلاد الروم ويفهمون ما يبلغهم من أنبائها.
صفحة غير معروفة