7
وقد أقام الفتى في هذا الدير أياما طوالا، مضطربا بين شك يقسو عليه حتى يكاد يهلكه، واطمئنان يشيع في نفسه حتى يفتح له إلى الأمل أبوابا عراضا. يخلو إلى نفسه ويعرض أمره، فيظهر له مظلما قاتما وبشعا منكرا! يوئسه، أو يكاد يوئسه من كل شيء، ويسلط عليه من شياطين الحيرة ما ينغص عليه يقظته، ويذود عنه نومه، أو يفسد عليه أحلامه إن غلبه النوم.
وكان يفزع من هذا الشك أحيانا إلى كتب الفلاسفة، يطيل النظر فيها والوقوف عندها، فلا يبلغ من مصاحبتها ومعاشرة أصحابها شيئا. ومع ذلك فقد كانت هذه الكتب، فيما مضى من حياته، غذاء لنفسه وقلبه وعقله، يجد فيها من اللذة ونعمة البال ما لا يشبهه إلا ما كان يجده صاحباه من اللذة في عبادة أولئك الآلهة القدماء بما كانوا يحبون أن يعبدوا به من ألوان اللهو والعبث والمجون. وكان يفزع من هذا الشك أحيانا إلى الكتب المقدسة، يطيل النظر فيها، والوقوف عندها، فيفهم أحيانا، ويعجز عن الفهم أحيانا أخرى، ولا يطمئن قلبه في حال من الأحوال.
كانت نفسه تحدثه بأن وراء هذه المعجزات التي تمتلئ بها التوراة والإنجيل وقلوب الناس وأحاديثهم، حقا لا ينبغي أن يكون فيه شك. ولكن عقله كان عاجزا عن أن يسيغ هذه المعجزات، أو يحسن الإذعان لها والرضا عنها، فكان الفتى مقسما، إذا نظر في الكتب المقدسة، بين إيمان يشيع في قلبه ويدعوه إلى الرضا والاطمئنان، وشك يشيع في عقله ويدعوه إلى التمرد والجموح. وكان يجد في هذا التناقض بين قلبه وعقله ألما لاذعا عميقا عنيفا، زهده في كل شيء، ويكاد ينتهي به إلى الجنون أو ما يشبه الجنون.
هنالك كان يفزع من قلبه وعقله، ومن كتب الفلاسفة وأسفار الدين، إلى حنان ذلك الراهب الشيخ، فيجد عنده بعض ما كان يحتاج إليه من الراحة وهدوء البال، ويجد عنده هذا الحب الذي يشعره الشجاعة والصبر، ويذكي في نفسه جذوة الشوق إلى هذه البشائر التي كان يسمع عنها ولا يراها، ويتحرق شوقا إليها ولا يجد ما يخفف لوعته أو ينقع غلته.
وإنه لمع أستاذه الشيخ ذات يوم، وقد اصفر وجه النهار، وشاعت الكآبة فيما يحيط بهما من الحياة والأحياء، وهدأت لذلك نفوسهما، كأن هذا الحزن الشائع الهادئ قد مسهما بجناحه فأشاع فيهما شيئا من الكآبة والهدوء انخفضت له أصواتهما شيئا، فهما يتحدثان حديثا يشبه الهمس، ولو استطاعا لآثرا الصمت، ولبلغ كل منهما قلب صاحبه من طريق هذا الصمت العميق! ولكنهما كانا يتحاملان ويتكلفان الحديث، وقد كاد السأم يبلغ نفس الراهب الشيخ الذي كان لا يعرف سأما ولا مللا، والذي كان يذود عن صديقه الشاب كل سأم وكل ملل. ولكن انتظارهما قد طال وأسرف في الطول، ولم يأتهما النبأ الذي كانا ينتظرانه، ولم يزرهما بحيرى الذي كان خليقا أن يزورهما منذ عهد بعيد! فقد مرت القوافل إلى الشام، وليس من شك في أنها قد أمعنت في بلاد الروم، فباعت واشترت وعادت إلى أوطانها، ولم يأت «بحيرى» ولم يأت من نبئه قليل ولا كثير، أقول: إنهما ذات يوم لفي هذا الحديث الشاحب الكئيب، وقد كاد السأم وطول الانتظار ينتهيان بهما إلى اليأس، وإذا ضجيج يدنو منهما، وإذا هما ينصتان كأنما يريدان أن يتعرفا مصدره. ولكن الضجيج يدنو حتى يبلغ الدير! وينهض الشيخ وصاحبه الفتى ليعرفها من أمره ما يجهلانه! فما أسرع ما يمتلئ قلب الشيخ إيمانا ورضا! وما أسرع ما يضطرب قلب الفتى إشفاقا وخوفا!
هذا «بحيرى» قد أقبل، ولم يقبل وحده، وإنما أقبل معه عدد غير قليل من الناس، وقد أهمهم أمر ذو بال! فهم يلغطون في كثير من الدهش والحيرة، منهم من ينكر، ومنهم من يعرف، منهم من يرضى، ومنهم من يسخط، وأهل الدير يسألون ويستنبطون فلا يظفرون من الجواب إلا بهذا اللغط الذي تختلط فيه المعرفة والإنكار، والتصديق والتكذيب، والشك القاتم واليقين المشرق. فأما «بحيرى» نفسه فقد كان خارجا عن طوره، يأتي من الحركات بيده ووجهه وجسمه كله ما لم يتعود أهل الدير الإتيان به.
وكان كلما دنا من الراهب الشيخ ازداد هيامه وتولهه، حتى إذا رآه عدا إليه عدوا، ولم يكد يبلغه حتى ألقى نفسه بين ذراعيه، وجعل يضمه ويقبله ويقول في صوت يقطعه البكاء ويبلله الدمع الغزير: لقد رأيت! أقسم لقد رأيت! أشهد بالمسيح والصليب لقد رأيت! لقد رأيت واقتنعت. لن يبلغ نفسي الشك بعد اليوم. لقد رأيت! أقسم لقد رأيت!
والراهب الشيخ، يهدئه ويبارك عليه، ويسأله عما رأى، ويدعوه إلى أن يقلل من هذه الأيمان، ويخفف من هذه الحدة، ويرد نفسه إلى صوابها واطمئنانها شيئا، ويحدثه بجلية ما رأى وخلاصة ما اقتنع به، وما يزال الراهب الشيخ بهذا المتوله الهائم حتى يرد عليه بعض الهدوء، ويظفر منه وممن حوله بشيء من الأناة والوقار.
ثم يسأل الراهب الشيخ صاحبه «بحيرى»، وقد اطمأنت نفسه، أن يقص عليه بدء حديثه.
صفحة غير معروفة