قال الراهب: إني يا بني لم أختلف إلى مجالس الفلاسفة كما اختلفت إليها، ولم أقرأ من كتبهم مثل ما قرأت أو بعض ما قرأت، وإنما أنفقت حياتي في التجارة ومعالجة المنافع العاجلة، ومع ذلك فقد يخيل إلي أنك تريد أن تحمل نفسك شططا! فإنا لم نمنح العقل لنفر به من الشر، بل لنواجه به الشر ونقهره ونظهر عليه. وما أظن أنا منحنا العقل لنتخذه وسيلة إلى الأثرة، وطريقا إلى الراحة والنعيم. كذلك يفكر كثير من الناس! ولكنهم، فيما أعتقد، يخدعون أنفسهم ويضللون عقولهم، ويخفون ما يملأ قلوبهم من الضعف وحب النفس والعجز عن احتمال تبعات العقل. إن العقل يا بني فيما أرى نور؛ ومن طبيعة النور أن يهزم الظلمة لا أن ينهزم لها. وإن العقل يا بني فيما أرى سلاح ماض حديد! ومن طبيعة السلاح أن يهزم العدو ويظهر صاحبه عليه، ويحمله على المقاومة والجهاد في أقل تقدير، لا على الهرب والفرار لأول بادرة تبدر أو شر يخاف.
قال «كلكراتيس»: فإن استيقنت أن هذه الظلمة التي تحيط بي أشد كثافة وصفاقة، وأكثر تراكما وتلاحقا من أن يبددها هذا النور الضئيل الذي يضطرب في رأسي، وإن استيقنت بأن العدو الذي يهاجمني ويأخذني من كل وجه أضخم قوة وأعظم بأسا وأكثر عددا من أن أهزمه بهذا السلاح الذي في يدي.
قال الراهب: فإن الواجب عليك مع هذا أن تثبت لهذه الظلمات الكثيفة الصفيقة المتراكمة المتلاحقة؛ فإنها مهما تبلغ من الكثافة والصفاقة فلن تمحق هذا النور الضئيل الذي يضطرب في رأسك. وإن الواجب عليك أن تثبت لهذا العدو الذي يسعى إليك من كل وجه، ويريد أن يأخذك من كل نحو، فإنه مهما تضخم قوته ويعظم بأسه، فلن يستطيع أن يفل سلاحك هذا الماضي الحديد، ولا أن ينتزعه من يدك انتزاعا.
وقد ضربت لك الأمثال من قبل: ضربها لك أبو الفلاسفة إن كنت فيلسوفا، وضربها لك صاحب الدين إن كنت ديانا. فإن سقراط لم يفر بعقله من الأثينيين فيما أعلم، ولكنه قبل منهم السجن، وتلقى منهم الموت، ثم لم يلبث أن ظهر عليهم آخر الأمر. وإن المسيح لم يفر بدينه من اليهود ولا من الرومان، وإنما قبل منهم ما صبوا عليه من عذاب، وتلقى منهم ما أعدوا له من شر، ثم انتصر عليهم آخر الأمر.
كلا! إنك لا تريد أن تفر بعقلك يا بني! فالعقل أشجع وأرفع وأمضى من أن ينهزم للسلطان أو يتقيه بالفرار؛ وإنما تريد أن تفر براحتك ولذاتك وبما لك في الحياة من أرب. إنما تريد أن تفر لأنك تستشعر الضعف عن المقاومة، وتحس العجز عن الثبات لهذه المحنة التي تدبر لك وتسلط عليك. إن العقل خير كله فيما أرى، ولست أعتقد أنه يغري بالأثرة أو يحرض على الفرار. إن الدوافع التي تدفعنا إلى الشر لا تأتينا من عقولنا، لأن عنصر العقل خير كله، وإنما تأتينا من شهواتنا وغرائزنا. فانظر بأي شهوة أو بأي غريزة تريد أن تفر. ولكن إياك أن تظن أنك تؤثر عقلك بالعافية أو تحسن إليه بالهرب!
قال «كلكراتيس»: فأنت إذا تغريني بانتظار الموت؟!
قال الراهب: فإنك منتظر للموت في كل لحظة، وفي كل مكان، وفي كل طور من أطوار حياتك.
قال «كلكراتيس»: أرى أنك تريد لي أن أتعرض للفتنة وما يتبعها من الشر والنكر وألوان المكروه.
قال الراهب: لا أريد شيئا، وإنما أستنبط النتائج من مقدماتها. فإن كنت حريصا على عقلك مؤثرا له مؤمنا به، فإن العقل لا يعرف الهزيمة ولا يحبها، ولن تكون أول من تعرض للفتنة وألوان المكروه في سبيل الرأي والعقل، ولن تكون آخرهم. وإن كنت حريصا على الراحة والعافية مؤثرا لهما فسواء علي وسواء على الرأي والعقل، أسلكت إلى هذه الراحة والعافية سبيل صديقيك فخادعت الناس ونافقت معهم، أم سبيل الفرار والهجرة فخادعت نفسك وآثرت مخادعتها على مخادعة الناس؛ لأن ذلك أيسر لك وأهون عليك.
قال «كلكراتيس»: لم أكن مترددا ولا مضطربا قبل لقائك، فأما الآن فإنك قد أفسدت علي أمري كله.
صفحة غير معروفة