قال حاكم المدينة: بل أنا مشفق من جواسيس قيصر الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، والذين يندسون في كل بيئة وينسلون إلى كل مكان، ويتلطفون حتى يعرفوا أسرار البيوت ويظهروا على دخائل النفوس، ثم يرفعون ذلك إلى قسطنطينية فتصدر فيه الأوامر بما تعلمون. وما صرفت الحاشية والندماء حين انتصف الليل، وما صرفت هذه المغنية آنفا، وما تعجلت الخلوة إليكما قبل إبانها لنفرغ لما تعودنا أن نفرغ له من عبادة آلهتنا الذين نحبهم ونؤثرهم على النحو الذين يحبون أن يعبدوا عليه، وإنما أردت بما تعجلت من هذه الخلوة أن أحذركما وأحذر نفسي، وأن أذكركما وأذكر نفسي، وأن أستشيركما في حدث طارئ وخطب ملم. فقد ارتفعت الأنباء إلى قسطنطينية بأن شيئا من التهاون في الدين قد أخذ يشيع في هذا الوجه الذي يلينا من وجوه الدولة، وبأن جماعة من المعلمين والفلاسفة قد أخذوا يظهرون إنكارهم؛ لما كان من اضطهاد المعلمين والفلاسفة الوثنيين في بلاد اليونان، وقد أخذوا يجهرون بشيء من الدعوة للدين القديم، يظهر الآن يسيرا لا يكاد يحس، ولكنه يوشك أن يقوى ويشيع وينبث في أطراف الأرض، فيعظم الشر، ويكثر الفساد، وينقبض دين المسيح عن أرض قد استقر فيها سلطان المسيح.
وقد انتهى إلي، اليوم، أمر قسطنطينية أن أتنبه لذلك، وأنهض لمراقبته ومقاومته، وآخذ الذين يظهر في سيرتهم إلحاد أو شيء يشبه الإلحاد بأقصى ما أملك من الشدة والعنف.
قال «أندروكليس»: فهذا سعي القسيسين وكيد الرهبان.
قال الحاكم: أو سعي المنافسين وكيد الخصوم. ومهما يكن من شيء فالحذر أيسر ما يجب علينا، والاحتياط أولى ما يجمل بنا.
قال «كلكراتيس»: إني قد ضقت بحياتكم هذه البغيضة التي لا سماحة فيها ولا يسر، ولا راحة فيها ولا لين. تضييق على الناس في حياتهم حين يغدون وحين يروحون، وفي سيرتهم حين يجتمعون وحين يتفرقون، وفي أحاديثهم حين يلقى بعضهم بعضا، وفي نجوى ضمائرهم حين يخلو أحدهم إلى نفسه أو يدير في رأسه بعض ما يدير من الرأي.
من الذي فرض لكم على الناس هذا السلطان؟! ومن ذا الذي أباح لكم أن تنفذوا إلى نفوس الناس وضمائرهم، ولا تسألوهم عما يعملون حتى تسألوهم عما يرون؟! وما ينبغي لكم مع ذلك أن تسيطروا من أعمال الناس على شيء ما لم يبدوا لكم صفحتهم أو يظهروا لكم مقاومة وعصيانا.
فكيف بسؤالهم عن رأي العقل وحديث الضمير؟! أليس قد قال المسيح الذي يفرض قيصر على الناس طاعته ودينه: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»؟ فما بال قيصر يتجاوز حدوده، ويغير على ما ليس له، ويدخل بيننا وبين نفوسنا، ويندس بيننا وبين آلهتنا! أليس يكفيه أن هدم المعابد، ودمر الهياكل، وألغى الديانات ومزق أصحابها كل ممزق، وثأر للذين استشهدوا في سبيل المسيح، فجعل للأوثان شهداء امتحنوا في أنفسهم وأهلهم وأموالهم حتى محوا من الأرض محوا؟! أليس يكفيه أن يبلغ هذا كله حتى يدخل بين المرء وضميره، ويندس بين المرء ونفسه؟! أليس يكفيه أن يبسط سلطانه على الأجسام حتى يحاول أن يبسط سلطانه على القلوب والعقول؟! وكيف السبيل له إلى استذلال القلوب والعقول؟! إني لألقى أعوانه وعماله بما يرضيهم ويرضيه، فأكف عن نفسي أذاهم وأذاه، ولكني أكتم فيما بيني وبين نفسي ما أشاء من الأمر، وأدير في رأسي ما أحب من الرأي، وأتقدم بالدين والطاعة والحب في قلبي لمن أوثر من الآلهة. والأمر يستطيع أن يستقيم بين قيصر وبيني على هذا النحو من النفاق الذي تستقيم عليه أمور الناس كلهم فيما بينهم من علاقة أو صلة. فما بال قيصر يكلف نفسه ما لا يطيق، ويحمل الناس من الأمر ما لا يحبون ويريد أن تخلص له قلوبهم وسرائرهم، كما تذعن له أجسامهم وظواهرهم!
إنه لا يبلغ من ذلك شيئا، ولكنه يضيع قوته عبثا ويفني جهده في غير طائل، ويحرج الناس ويرهقهم من أمرهم عسرا، وينتهي آخر الأمر إلى أن يصرفهم عن حبه، ويزهدهم في طاعته، ويملأ قلوبهم بغضا له وإنكارا عليه؛ وقد يدفعهم إلى أن يعصوه ويثوروا بسلطانه حين يجدون إلى العصيان والثورة سبيلا.
قال حاكم المدينة: على رسلك! هدئ من هذه الحدة، وهون من هذه الشدة، واخفض من هذا الصوت! فإني قد صرفت الحاشية والخدم والحجاب، ولكني لا آمن أن يكون قد تخلف منهم وراء الأستار أو دون الأبواب من يتسمع علينا. وما أرى بعد ذلك إلا أنك تريد قيصر على ما لا يلائم أخلاق القياصرة. فمتى رأيت صاحب السلطان الواسع العريض يرضى من الناس بأيسر الطاعة، ويقبل منهم ظاهرا من الخضوع، ولا يكلفهم أن يخلصوا له الحب ويصفوه مودة قلوبهم وخاصة نفوسهم، فإن ظفر منهم بما يريد فذاك وإلا حملهم عليه كرها، وخيل إلى نفسه بل أقنع نفسه بأنه يستطيع أن يصل إلى القلوب من نفس الطريق وبنفس الوسائل التي يصل بها إلى الأجسام؟! والسلطان بطبعه طاغية، لا يقره في حدوده، ولا يرده عن الظلم والجور إلا سلطان مثله يعدله ويوازنه ويحول بينه وبين الجموح.
فهل تعرف سلطانا يعدل سلطان قيصر؟ وهل تعرف قوة توازن قوة قيصر؟ وهل تعرف في الأرض فردا أو جماعة أو مظهرا من مظاهر الطبيعة يستطيع أن يرد قيصر إلى الحد إن هم قيصر أن يتجاوز الحد؟!
صفحة غير معروفة