هنالك وقع في نفسي أن هذه العاقبة ليست من عمل الإنسان ولا من المصادفة، وإنما هي شيء قضاه الله لأمر يراد، فتشتد في نفسي الرغبة في أن أطيل البقاء بهذه الأرض لأشهد الصراع المحتوم بين المسيحية من ناحية، واليهودية والوثنية من ناحية أخرى.
وكنت مع ذلك أنازع نفسي نزاعا شديدا، ولكني لم أكد أتحدث إلى أبرهة حتى استقر رأيي على البقاء، فأرسلت رفيقا لي إلى سفينة القائد ليقدم بالأسطول على مصر، وقد أوصيته، وأحكمت أمري له إحكاما. ثم أبقى لأرى ما كان الله قد قدر لي أن أراه.
وهنا أذن مؤذن أن قد آن لأهل الدير أن يأووا إلى حجراتهم، فتفرقوا، وكم كانوا يودون لو مدت لهم أسباب السمر والحديث.
وأنفق أهل الدير بقية ليلهم بين جاهد في العبادة، ومغرق في النوم وأنفق أهل الدير بياض نهارهم بين مصل لله، ومحسن إلى الناس. فلما جنهم الليل وهدأت من حولهم الأشياء واتخذت الصحراء جلالها الرهيب، عادوا إلى مجلسهم يسمرون، وسألوا صاحبهم أن يتم عليهم ما بدأه أمس من الحديث. فقال: تمت عزيمتي بعد طول التردد والتفكير على الأوبة إلى مصر، وانتصر في نفسي حب الوطن على حب هذه الأرض الجديدة، وظهر في نفسي حب اللذة والغنى على هذا الميل الجديد إلى النسك والجهاد في سبيل المسيح. فأقبلت على أبرهة من الغد أودعه قبل الرحيل. ولكني لم أر قائدا ظافرا، ولا ملكا منتصرا، ولا رجلا يزدهيه الفوز ويحيي نفسه الأمل، وإنما رأيت رجلا متهدما محزونا كئيبا، قد فكر حتى عجز عن التفكير، وقدر حتى أعياه التقدير، فأسلم نفسه لقضاء الله فيه، كأنه الغريق أعيته مكافحة الموج، فاستسلم له وانتظر الموت. ولم أكد أتحدث إليه حتى عرفت مصدر ما هو فيه من هم وغم، ومن كآبة وبؤس فقد كان مستيقنا أنه أغضب الله، وأحفظ الملك، وأساء إلى الناس. ألم يكن قد بغى على قائده واعتدى عليه في غير حق ولا إذعان لما تقدم به الملك إلى الجند من الطاعة لقائده والنصح لخليفته فيه؟ فكيف استباح لنفسه أن ينتصف لرأيه بيده، وأن يفرض هذا الرأي على الجند فرضا، لا يرجع في ذلك إلى أمر من الملك، ولا ينتظر في ذلك رأي الملك بعد أن يرفعه إليه! وكيف استباح لنفسه أن يقتل رجلا من النصارى ويسفك دمه ظلما وبغيا، لا لشيء إلا لأنه لم يوافقه في الرأي، ولم يشاركه في الهوى! وقد كان هذا الرجل مع ذلك نصرانيا مثله يؤمن بالمسيح ويصلي لله، وقد ثأر للدين من عدوه، ورد المطرودين من النصارى إلى وطنهم، فآمنهم وأظلهم بسلطان واسع رفيق من الرحمة والعدل والإنصاف!
ثم هو لم يقف من العدوان والإثم عند هذا الحد، ولكنه ابتهج بما أتيح له من الانتصار والظفر، فلم يكد يرى خصمه صريعا تحت قدميه حتى التفت إلى عبده الذي قتل أرياط شاكرا له، مغرقا في الثناء عليه، قائلا له: احتكم فأنا زعيم لك بكل ما تريد. وقد احتكم العبد، فأسرف على نفسه وعلى مولاه، وطلب إلى سيده أمرا عظيما: طلب إليه أن يحكمه في أبكار اليمن كافة، فلا تزف واحدة منهن إلى عروسها حتى تمر به قبل الزفاف. ولم يشعر أبرهة بعظم هذا الأمر الذي طلبه إليه العبد؛ لأن نفسه كانت ثملة بهذا الفوز، معرضة عن كل شيء غيره، فأجاب العبد إلى ما أراد، ولم يقدر أنه عصى الله بهذا الإثم الذي اقترفه، وأقدم على إذلال أمة لم تعرف الذل، وما كان لها أن تعرفه. ولكن أمر هذا العبد لم يكد يعرف في الناس حتى انتهى إلى نتيجته المحتومة، فلم يحي العبد بعده يوما كاملا: لم يكد يلقاه أول من عرف هذا النبأ من حمير حتى عدا عليه فقتله. فكان أبرهة إذا حين لقيته متعبا مكدودا، مضطرب النفس، حائرا غارقا في ندم عميق. وجعلت أرده إلى نفسه قليلا قليلا، أجد لا في تهوين الأمر عليه فلم يكن أمره هينا ولا يسيرا، بل في التقريب بينه وبين الرشد والصواب، لعله يعود إلى التفكير والتقدير، ولعلي أستطيع أن أعينه على أن يجد لنفسه مخرجا من هذا المأزق الذي اضطر إليه.
فقد كان عظيما حقا أن تذهب كل تلك الآمال والأماني التي ملأت نفس هذا الرجل وأصحابه من قواد الجند، ودفعتهم إلى ما دفعتهم إليه لينشروا كلمة الله، وليديلوا
3
للنصرانية من وثنية الوثنيين، ويهودية اليهود. وما زلت به ألاينه حينا وأخاشنه حينا آخر، حتى هدأت نفسه بعض الشيء، واستطعنا أن ننظر إلى الأمر في روية وتبصر، وأقنعته بأن يبدأ بما لا بد من الابتداء به، فيرضي هؤلاء الناس الذين أحفظهم وأثار في نفوسهم الحمية حين حكم عبدا من عبيده في أعراضهم وكرامتهم. وما هي إلا أن يسمع لي ويقبل رأيي، وإذا هو يدعو إليه من حضره من أشراف حمير، فيعتذر إليهم ويثني عليهم، ويهنئهم بما أظهروا من عزة وإباء للضيم، ويقسم لو قد عرف نية العبد لما حكمه، بل لاكتفى بما يكتفي به الناس في مثل هذه الحال، فأعتق العبد وأغناه ورده إلى بلاد الحبشة راضيا مسرورا. فأما وقد قتل هذا العبد نفسه فلا عليكم ولا علي؛ فقد ظهر لي أنكم أحرار كرام، وسيظهر لكم أني حر كريم، وأن المودة بينكم وبيني لن تسوء، ولكنها ستسركم وتقر أعينكم، وستشعرون بأني لا أملك بلادكم لنفسي ولا للنجاشي مولاي، وإنما أملكها لكم قبل كل شيء، أصلح من أمرها وأمركم مستعينا بكم على هذا الإصلاح، فمن رأى منكم أن يشير علي بشيء فليفعل مشكورا واثقا بأني سأقدر نصحه، وأسمع لمشورته ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
وكان لهذا الكلام اللين الرفيق موقعه في نفوس هؤلاء الأشراف من حمير، الذين كانوا ينتظرون غضب أبرهة عليهم وانتقامه منهم. فلما رأوه ملاينا محاسنا، لاينوه وحاسنوه، وأظهروا ثقة ورضا واطمئنانا، ووعدوا بالنصح له والطاعة لأمره، كما كانوا يفعلون مع ملوكهم من أبناء تبع. وبالغ أبرهة في استرضائهم، فأجزل لهم العطاء، ونظم الصلة بينهم وبينه على خير ما يحبون، ثم خلا إلي فقال: لقد جئتني مودعا فيما أذكر؛ لأنك تريد العودة إلى بلادك؟ قلت: نعم، فقد طالت غيبتي عن الوطن والأهل والمال قال: فإني مع ذلك لن آذن لك في الرحيل. قلت: وما ذاك؟ قال: ذلك أنك رددتني إلى نفسي وأشرت علي فأحسنت المشورة، وما أرى أني أستطيع فراقك منذ اليوم؛ فأنا في حاجة إلى رأيك وتدبيرك ومعونتك لي على ما سيعرض من الخطوب والأحداث، وقد رفعت عني بعض الثقل، وفرجت عني بعض الحرج، وأصلحت ما بيني وبين أهل هذه الأرض. ولكن الملك واجد علي وناقم مني، ليس في ذلك شك ولا ريب ولا بد من أن يصلح ما بيني وبينه على أي نحو من الأنحاء، وليس لي غنى عن نصيحتك قبل أن تستقيم بينه وبيني الأمور. وهبها استقامت على ما أحب وأهوى، فإن بيني وبين نفسي خصومة عنيفة لا أقوى على حملها وحدي؛ فأعفي على نفسي ببقائك معي، فلعلك إن فعلت، أن تعينني على أن أنفق حياتي في إصلاح ما بيني وبين الله، بعد أن أثمت فأسرفت في الإثم، وعدوت فأسرفت في العدوان.
وكنت كلما هممت أن أجيبه مضى في حديثه ملحا فيه، ولم يمكني من الكلام. وكان يقول: لقد أقدمت على ما أقدمت عليه من الأمر وإن في نفسي لآمالا كبارا؛ فلم أكن أريد أن أكسب هذه الأرض وحدها لدين المسيح، وإنما كنت أريد أن أنشر هذا الدين في جميع هذه الأقطار التي لا تصل إليها أيدي الملوك، ولا ينبسط عليها سلطان قيصر وكسرى والنجاشي. فما يمنعك أن تعينني على ذلك، وتشاركني فيما سأبذل فيه من جهد، وما سأحتمل فيه من عناء، وما سألقى عليه من أجر وجزاء؟! وكان يقول: ولست أرى على تجارتك بأسا، وإنما أرى لها الربح كل الربح والنمو كل النمو؛ فما يمنعك أن تقيم هنا حتى تنظم الصلة بين بلادنا وبلادك، فتكسب أنت، ونكسب نحن، ويستفيد الناس جميعا!
صفحة غير معروفة