3
وجمع فيها الحطب والخشب، وألقى فيها الزيت، وأضرمت فيها النار، ودفع أهل نجران إليها دفعا . وهنالك أطلق ذو نواس أيدي حمير في أهل نجران، ينالونهم بالقتل والمثلة،
4
ويحتازون من أموالهم ونسائهم ما يشاءون. وهنالك جرت الدماء أنهارا، وانتثرت الأشلاء انتثارا، وارتفع اللهب إلى السماء، بنفوس الشهداء.
وفي أثناء هذا كله كان شيخ فان ضعيف قد خرج من خيمته وأشرف من مكان مرتفع، فأخذ ينظر إلى النار ترتفع في السماء، وإلى الدماء تجري على الأرض، وأخذ يسمع أصوات المصلين وهم يقبلون إلى الموت، وأصوات المعتدين وهم يدفعونهم إليه، وأخذ يذكر عهدا بعيدا، بعيدا جدا، ويستحضر صورة منكرة جدا، رآها أثناء الشباب في مدينة من مدن البحر، جرت فيها الدماء، وانتثرت فيها الأشلاء، واضطرمت فيها النار، وصلى فيها الشهداء، وسخر فيها المعتدون. وأخذ الشيخ ينظر إلى هذه الصورة البشعة أمامه، ويرى تلك الصورة البشعة وراءه، ويقارن صورة إلى صورة، ثم تحدث إلى نفسه في صوت هادئ رقيق: لقد ضاقت نفسي الشابة بتلك الصورة ففررت من المدينة وخرجت إلى الله عن أهلي ومالي، وما كانت الحياة قد هيأت لي من لذة وأعدت لي من نعيم، وإني لأنظر إلى هذه الصورة فأحبها وأشتهيها وأفتن بها وأدفع إليها ... ماذا! لقد انحسرت عني الشيخوخة انحسارا، وارتفع عني الضعف ارتفاعا، وأصبحت شابا قويا شديد النشاط كما كنت منذ أكثر من خمسين عاما ... ماذا! إن هذه النار المضطرمة لتعجبني، وإن هؤلاء الذين يقبلون إليها ليدعونني ... ماذا! أرى هذه النار ولا أسرع إليها، وأرى هؤلاء الناس ولا أدخل فيهم. إني لأجيل طرفي في السماء من أمام ومن وراء ... ماذا ألتمس! لن أرى آلهة اليونان كما رأيتهم من قبل ينظرون ثم ينكرون ثم يرتحلون. إنما كان آلهة اليونان باطلا كلهم، وقد مات الباطل وما ينبغي له أن يبعث من جديد. ثم يسعى «كيمون» هادئا متئدا، حتى إذا دنا من النار استحال سعيه عدوا واتئاده حركة عنيفة، وإذا هو ينضم إلى الناس، وإذا صوته يمتزج بأصواتهم، وإذا هو يدخل معهم في هذا الموت، ليصل معهم بعد ذلك إلى دار الخلود.
قلت لمحدثي: وكم كان عدد الشهداء من أهل نجران؟ قال: تحدث الناس أن ذا نواس أفنى منهم قريبا من عشرين ألفا، وأن رجلا واحدا جد في الهرب حتى أعجز الطالبين، فنجا ومعه إنجيل قد مسته النار، فانطلق به إلى النجاشي يستعينه على الثأر. وكانت هذه القصة آخرة الملك الحميري، بل آخرة الملك العربي في بلاد اليمن.
الفصل العاشر
راهب الإسكندرية
أقبل أهل الدير على راهبهم الجديد يحدثونه ويسمعون منه، وكان شيخا قد تقدمت به السن، ولكنه احتفظ بقوة ونضرة قلما يحتفظ بهما الشيوخ إذا قاربوا السبعين. وكان وضيء الوجه، مشرق الجبين، منطلق اللسان، عذب الحديث في يونانيته الإسكندرية. وكانت تظهر على وجهه وفي حديثه آثار النعمة والغنى، وحياة الرجل الذي لم يذق بؤسا ولا فقرا ولا هوانا. وكان قد أقبل على هذا الدير الصغير الذي كان يقوم في طرف من أطراف الصحراء مما يلي الشام، حيث تمر القوافل الآتية من بلاد العرب والذاهبة إليها. وكان مقدمه على الدير حديثا لم تمض عليه إلا أيام قليلة.
وكان قد أقبل يحمل مالا كثيرا فيه ذهب وفضة، وفيه جوهر وعروض فلما بلغ الدير استأذن على رئيسه فأذن له. وهنالك قدم إليه ما كان يحمل من المال وقال: اتخذ من هذا المال ما تصلح به أمر الدير وأهله، فإن بقي منه فضل فأنفقه في وجوه الخير والمعروف؛ فإني قد خرجت لك عنه كما خرجت لله عن لذات الحياة كلها، ووقفت ما بقي لي من العمر على الطاعة والعبادة والتفكير في الدير، ولست أسألك إلا أن تئويني في هذا الدير؛ لأنقطع إلى عبادة الله وانتظار أمره. قال رئيس الدير: أما أنت فقد قبلناك على الرحب والسعة، وما ينبغي لنا أن نرد طارقا يريد أن يشاركنا فيما نحن فيه من ذكر الله والإحسان إلى الناس. وأما مالك فإنا نقبله شاكرين لله أن ساقه إلينا؛ فإن حاجتنا إلى المال في هذا المكان المنقطع الذي نحن فيه لا تنقضي. وسترى أن أيامنا وليالينا لا تخلو من هؤلاء الطارقين الذين تنقطع بهم سبل الصحراء فنئويهم ، ونعينهم ونحملهم، ونبذل ما نملك من الجهد لنبلغهم مأمنهم. والناس يعينوننا على هذا المعروف بالقليل والكثير، فنقبل منهم ما يبذلون وننفقه فيما ترى. ثم أوصى به أهل الدير من علمه ما للجماعة من نظام. فلم يكد يمضي بينهم أياما حتى ألفوه وكلفوا بحديثه، وعلموا أن عنده شيئا، وأنه ليس كغيره من هؤلاء الذين تدفعهم قوة إيمانهم أو يدفعهم يأسهم مما كانوا يبتغون من المنافع والآمال أو اللذات إلى الدير. إنما كان رجلا فذا تدل مظاهره وأحاديثه على أن له نبأ لا كالأنباء وأملا لا كالآمال. فأخذوا كلما فرغوا من أعمالهم وطعامهم وصلاتهم حين يقبل الليل، يطيفون به، ويسمرون معه، فيتحدثون إليه ويستمعون له. وهم في هذه الليلة يسألونه عن أمره: كيف انتهت به الحياة إلى الدير، وكيف طابت نفسه عن هذا المال العريض والثراء الضخم فنزل عنه كما ينزل عن أيسر الأشياء؟ قال: إن قصتي لا تخلو من عجب، وقد تسمعونها فتنكرون منها الشيء الكثير، ولكني مع ذلك سأحدثكم بها لا رغبة في أن أثير العجب في نفوسكم، ولا في أن أعينكم على إنفاق الوقت، ولكن نصحا لكم وإشفاقا عليكم؛ فقد أرى أن أمري يثير في نفوسكم حبا للاستطلاع قويا متصلا، يوشك أن يصرفكم عن بعض ما ينبغي أن تفرغوا له. وما أريد أن أكون مصدر خطيئة مهما يكن أمرها يسيرا.
صفحة غير معروفة