فلما أغلق من دونه ومن دونهن الباب لم يلبثن إلا قليلا حتى نظر الفتى فإذا فاطمة وحدها قائمة أمامه، ترسل إليه من عينيها الحادتين نارا محرقة عذبة، فيها حب لا حد له، ورغبة لا حد لها، وحنان لا حد له أيضا قال: يا هذه غضي جفونك عني، فإني أجد للحظك مسا لاذعا. قالت وأنت، فامدد إلي عينيك؛ فإني أجد فيهما شفاء لما يعذبني من سقم، وريا لما يحرق فؤادي من صدى، قال: ما لهذا أقبلت، فأين صاحبتاك؟ قالت: ما أنت وصاحبتاي! إنما كانتا صديقتين أعانتا على أمر، ثم مضت كل واحدة منهما إلى وجهها. أقم معي ساعة أو بعض ساعة، فقد طالما تمنيت هذا اللقاء، واشتقت إلى هذه الخلوة، وسمت نفسي إلى أن يتصل بينك وبيني الحديث. قال يا هذه، ما أحب هذا إلي وآثره عندي! إن في وجهك لإشراقا حلوا، وإن في طرفك لسحرا فاتنا، وإن في صوتك لعذوبة تخلب العقول وتستهوي الألباب؛ ولكني عن هذا كله عجل. قالت: فما يعجلك عنه، وإلى أين كنت تريد؟ قال: يعجلني عنه شغل شاغل وهم طارئ. ولقد كنت أريد إلى أبي قبيس حيث يقيم أهلي. قالت: أقم يا زين قريش! إن أبا قبيس لن يريم،
3
وإن أهلك لن يبرحوه، وإن خير ما في الأمكنة والدور أنها ثابتة باقية لا تتحول ولا تزول إلا في بطء، وإن شر ما في الزمان أنه لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار ولا يحب السكون والاطمئنان، إنما هو انتقال دائم وحركة متصلة لا تستطيع الجمع بين أطرافه بل لا تستطيع الجمع بين أجزائه. أقم! فستبلغ أبا قبيس في أي وقت شئت، وستلقى أهلك في أي لحظة أحببت، ولكن هذه الساعة إن تفلت منك فلن تعود إليك، ولعلك لا تحرص عليها ولا تحفل باستدراكها، فاعلم أني عليها حريصة ولها محبة.
واعلم أني مشفقة أن تضيع، فقد تعلقت نفسي بها منذ يوم الفداء. لقد رأيتك مقبلا إلى المسجد، ورأيتك منصرفا عنه، ورأيت على وجهك ابتسامة واحدة للموت وللحياة جميعا. لم يكن وجهك مظلما حين كنت تنتظر الموت، ولم يزدد وجهك إشراقا حين ردت إليك الحياة. ولقد ارتسمت في نفسي ابتسامتك هذه فلم تفارقها، ولم أرك منذ ذلك اليوم ولن أراك إلا مبتسما. أقم يا فتى! إن وجهك لوضيء وإن جبينك لمضيء، وإن عينيك لتسرعان إلى القلب، وإن صوتك ليسبغ علي حنانا حلوا يدنيني منك ويدفعني إليك. أقم! وليكن بيني وبينك طرف من حديث. فمن يدري! لعل هذا الحديث أن ينتهي بك وبي إلى شيء. قال: وما عسى أن يكون هذا الشيء؟ إن شخصك ليثبتني في هذا المكان، وإني لأجد في قلبي شيئا يدفعني عنه، وإن نفسي لمضطربة بين هذين الداعيين الملحين: يهيب بي أحدهما أن أقم، ويهيب الآخر أن أنصرف قالت: أقم يا فتى، وخلاك ذم، فما ينبغي وقد دخلت دارنا أن تخرج منها ولما تصب عندنا شيئا من القرى. قال: لست ضيفا ولا طارقا، وليست الساعة ساعة قرى، دعيني أنصرف الآن كارها، وما أظن إلا أني عائد إليك إذا كان المساء. ثم هم أن ينصرف ولكنها أقبلت عليه ورنت إليه بطرف ساحر فاتر أثبته في مكانه، فمسته بيدها مسا رفيقا وقالت: وكذلك يذهب عبثا ما أنفقت من جهد، ويمضي سدى ما بذلت من حيلة، وتنصرف ولما يتصل بينك وبيني الحديث، ولما تتصل بين قلبي وقلبك الأسباب! أقم فلا بد من أن أسألك، ولا بد من أن تجيب. انظر إلى هذه الوسائد، لقد هيئت لك منذ اليوم فاجلس. وانظر إلى هذه الجارية! لقد أقبلت تحمل شيئا من شراب.
فجلس الفتى وجلست منه غير بعيد. وأقبلت جارية سوداء تحمل إبريقا وأقداحا فوضعت ما في يدها وملأت قدحين وقدمت إليه أحدهما وهي تقول: دونك شيئا من زبيب الطائف يا زين قريش، ثم قدمت إلى مولاتها قدحا آخر وانصرفت قالت فاطمة: أنبئت منذ حين أنك قد خطبت آمنة بنت وهب وأنها قد زفت إليك. أسعيد أنت منذ أعرست؟ أناعم البال أنت منذ استأنفت حياتك الجديدة؟ قال: وما يمنعني أن أكون سعيدا ناعم البال، وإني لأجد عند آمنة أكثر مما كنت أريد؟! قالت: ولكنك لا تجد عندها المال والثراء ولين العيش. قال: فإن ذلك شيء يكسبه الرجال وينفقون حياتهم في السعي إليه، وإني لآخذ في أسباب ذلك، فقد كنت حين رأيتني رائحا قبل أن يأتي لي أن أروح، ذاهبا إلى حيث أهيئ للرحلة. قالت وقد ظهر عليها الخوف: أمرتحل أنت؟ وإلى أين؟ قال: إلى حيث ترتحل قريش. قالت: فإن مثلك لم يخلق لهذا العناء. أقم يا فتى: فإن المال كثير، والثراء موفور، وإن لك من ذلك ما أحببت، وأن لك من ذلك لفوق ما تحب. إنك لتعرف لمر الخثعمي إبلا ترعى خارج مكة لا يكاد يحصيها العد. وإنك لتعلم أن لمر الخثعمي عند تجار قريش وصيارفهم من الذهب والفضة والعروض شيئا كثيرا. وإنك لتعلم أن يد فاطمة بنت مر في هذا كله مطلقة، فليس لي أخ وليست لي أخت، فثروة أبي خالصة لي لا يشاركني فيها أحد، وهي لمن سأختاره بعلا. أفترضى أن تكون هذا البعل؟ قال: هذا شيء تتحدث به إلي النفس منذ رأيتك وقبل أن تذكري لي مالك الضخم وثراءك الموفور. وإن فيما أرى من جمالك وعقلك وكمال خلقك وحسن منزلك من خثعم، لما يحببك إلي ويغريني بما تعرضين علي، فهل لك في أن تمنحيني سعة من وقت وشيئا من مهلة، لا لأفكر ولا لأروي فقد فكرت ورويت، ولكن لأتحدث في ذلك إلى أبي، ولأنظر كيف يقع ذلك من آمنة، فإن عهدها بالعرس حديث، وعزيز علي أن أسوأها ولما يمض على زواجنا إلا أمد قليل. قالت: لك ما شئت من سعة، ولك ما شئت من مهلة. وعزيز علي أن أروع آمنة أو أن أسوءها، فما جنت علي شرا، ولا قدمت إلي سوءا. ولكني أحببتك وآثرتك وكرهت لك ما يذهب بنضرة كثير من فتيان قريش من هذا الرحيل المتصل الذي يضيع عليهم الصيف والشتاء. ولتعلمن آمنة أني لا أريد لكما إلا خيرا، ولا أوثركما إلا بأحسن ما تحبان، ولن أكون لآمنة علة،
4
ولأكونن أقرب إليها وأعطف عليها من هالة بنت وهيب. فكر إذا ما وسعك التفكير، ورو إذا ما وسعتك التروية، وتحدث إلى أهلك وإلى أبيك، وانتظر بالخطبة والزفاف ما شئت أن تنتظر. ولكن أقم عندي هذا اليوم؛ فإني أجد في جوارك لذة وفي حديثك متاعا، وإني أحس أنك تجد مثل ما أجد وتحب مثل ما أحب.
ثم دنت منه وأقبلت عليه بوجهها المشرق الجميل، وهي تقول في صوت هادئ عذب أدنى إلى الهمس منه إلى الجهر: هلم، فقد خلت لنا الدار ونأى عنا الرقيب، وقد وهبت لك نفسي فهب لي نفسك، ولنقضه يوما حلوا سعيدا. هنالك ارتد الفتى عنها وقد أخذه خوف رفيق وإشفاق هادئ وهو يقول:
أما الحرام فالممات دونه
والحل لا حل فأستبينه
صفحة غير معروفة