على هامش السيرة

طه حسين ت. 1392 هجري
159

على هامش السيرة

تصانيف

صلى الله عليه وسلم

ونهى عنه وأمر بهؤلاء الشهداء فردوا إلى مصارعهم ودفنوا حيث أراد الله أن يدفنوا ورسول الله قائم يصلي عليهم ويشهد دفنهم، وكأنما كان يستودعهم هذه الأرض التي طهرتها دماؤهم الذكية حتى يكون اليوم الذي ينشرون فيه من قبورهم ليلقوا جزاء الشهداء الصديقين. فلو قد سئلنا في ذلك لأجبنا. ولو قد استشرنا في ذلك لرأينا لأمير المؤمنين غير ما رأى له هؤلاء الشباب من فتيان قريش. فإن من الخير أن يجري أمير المؤمنين لأهل المدينة هذه العين تحمل إليهم الري والخصب، ولكن مما يؤذي أهل المدينة أن تنبش قبور آبائهم وأجدادهم من الشهداء، وأن يحولوا عن أرض قسمها لهم الله ورسوله.»

قال الأمير: «فتراهم قد سخطوا على ذلك وضاقوا به وأنكروه؟»

قال صاحب الأمير: «ما أشك في ذلك. ولكن الله عز وجل قد أراد بهم وبأمير المؤمنين خيرا، فأظهر لهم هذه الآية التي صرفتهم عن الدنيا إلى الدين، وعن التفكير في اليوم والغد إلى التفكير في أمس وفي يوم يرونه بعيدا ويراه الله عز وجل قريبا.»

قال الأمير: «فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ الليلة!» قال صاحبه: «فإن أصحابك إذا لم ينبئوك بالحال التي وجدوا عليها أجسام الشهداء.» قال الأمير: «لم ينبئني أحد بشيء.» قال صاحبه: «فإن أجسام الشهداء قد وجدت رطابا كشأنها يوم دفنت. ولقد كانت تحمل من مكان إلى مكان فتنثني وتضطرب، رخصة كأنما هي مغرقة في النوم لم يلم بها الموت. وأكثر من ذلك أن المسحاة أصابت رجل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب فجرى منها دم زكي كما يجري دم أحدنا حين يصيبه الجرح اليسير، وقد مضى على مصرع هؤلاء الشهداء أكثر من أربعين عاما، وقد رأى الناس ذلك وأحسوه، وتأثرت به نفوسهم، واضطربت له قلوبهم، وازداد له إيمانهم، فهم بين الحزن لما كان من تحويل هؤلاء الشهداء عن قبورهم، والإعجاب بما كان من هذه الآية، وقد صرفهم هذا الإعجاب عن إظهار ما كان خليقا أن يملأ قلوبهم من سخط وإنكار. فلا تضق بما رأيت من وجومهم وذهولهم؛ فإن بعض هذا كان خليقا أن يضطرهم إلى الوجوم والذهول.»

وكان في القوم شيخ قد تقدمت به السن وظهرت عليه الكبرة والهرم، وقد جلس في آخر المجلس مطرقا ممعنا في الصمت والسكون كأنه قطعة من صخر. فلما انتهى سمر الأمين من حديثه إلى هذا الموضع، رفع هذا الشيخ رأسه وقال في صوت هادئ رزين يكاد يضطرب شيئا، وإن عينيه الغائرتين الضئيلتين لتبضان بوشل من الدمع شديد التأثير في النفوس - وأي شيء أبلغ من بكاء الشيوخ! - قال هذا الشيخ في صوته الهادئ الرزين: «رحم الله حمزة! إن كان لسيد الشهداء حقا، وإن كانت حياته لموضع العبرة الصادقة والموعظة البالغة. كان إسلامه عنيفا، وكان بلاؤه في الإسلام عنيفا، وكان مصرعه في الله عنيفا، وكان ما ترك من حزن عليه ووجد به وحب له عنيفا أيضا. وماذا تقولون في أنه لم يبلغ حزن من قلب رسول الله

صلى الله عليه وسلم

ما بلغه الحزن على حمزة حين رآه صريعا قد مثل به المشركون تلك المثلة المنكرة! لقد حدثنا من رآه قائما ينظر إلى هذا المشهد الفظيع. فيأخذ الحزن من قلبه الكريم الكبير كل مأخذ حتى يخرجه عن طوره ويدفعه إلى الثورة، وإن كان لأبعد الناس عن الثورة، وإن كان لألزم الناس للوقار. لقد ثارت لهذا المشهد البشع نفسه الهادئة الرضية، فإذا هو يوعد وينذر، وإذا هو يقسم لئن أظهره الله على قريش ليمثلن بقتلاهم كما مثلوا بعمه، وإذا غضب هذه النفس الهادئة الرضية يشيع في نفوس أصحابه كما تشيع النار في الحطب الجزل، فيقسمون لئن أظهرهم الله على قريش ليمثلن بقتلاهم مثلة لم تعرفها العرب قط. ولكن الله عز وجل كان يريد برسوله وبعباده غير ما أراد لهم الغضب، وإذا هو يؤدبهم بأدب غير هذا الأدب العتيق الذي يقوم على الحفيظة والحمية والثأر، وإذا هو ينزل على رسوله

صلى الله عليه وسلم

هذه الآيات الكريمة:

صفحة غير معروفة