قال أبي بن خلف: «أمهلوا أبا الحكم فوالله إن له لشأنا، وما علمناه عيابا ولا مشتطا على قومه، وما أرى إلا أنه في حاجة إلى أن يقيل.»
قال الوليد بن المغيرة وهو يكظم غيظه ويتكلف الابتسام والدعابة: «دعوه، فوالله ما علمته إلا ولد سوء، وما أرى إلا أن خمر نسطاس وهراء ورقة بن نوفل قد أفسدا عليه أمره. ولقد نهيته عن هذين الرجلين فلم ينته وإني أحلف باللات والعزى ليكفن عما هو فيه أو ليكونن له معي شأن كشأن زيد بن عمرو مع عمه الخطاب.» وهم عمرو بن هشام أن يرد على عمه القول، ولكن شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية قاما إليه فرفقا به حتى انصرفا به من المجلس.
وعاد شيوخ قريش إلى ما كانوا فيه من النجوى. فقال أمية بن خلف: «قد علمتم يا معشر قريش أن للأمين فيكم مكانة ما تعدلها مكانة، وأنكم لم تنكروا من أمره شيئا، وما زلت أراكم تحتكمون إليه وترضون حكمه في أمر هذا الركن. وقد علمتم أن لعبد المطلب وبنيه في الدين شأنا غير شأنكم ومذهبا غير مذهبكم: تيسرون على أنفسكم، ويشقون على أنفسهم، وتعلم ذلك منهم العرب كلها. فما زاد الأمين على أن مضى على سنة أبيه عبد المطلب فتكلف من شئون الحج ما لا تحبون أن تتكلفوا، فخلوا بينه وبين ذلك ولا تراجعوه في شيء منه فتسوءوه وتسوءوا بني هاشم، ولكم بعد في تحرج الأمين وتكلفه ما لا تتكلفون منفعة؛ فسيرى العرب أن سيدا من ساداتكم وشريفا من أشرافكم لا يكره أن يسير سيرتهم، ويحتمل من المئونة ما يحتملون، ويفيض معهم من حيث يفيضون. فإذا رأوا ذلك عرفوا لقريش السؤدد والتواضع جميعا.» قال الوليد بن المغيرة: «إن رأيك لهو الرأي يا أبا علي.» وتفرق القوم إلى دورهم.
فأما عمرو بن هشام فقد انصرف مع صاحبيه شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية كارها وهما يرفقان به ويلطفان له، يأخذانه بالجد حينا وبالدعابة والمزاح حينا آخر، حتى ثابت إليه نفسه وسكت عنه الغضب. يقول له شيبة بن ربيعة متضاحكا: «لقد قمت يا أبا الحكم عن الأمين مقاما سيعلمه وسيحمده لك.» قال عمرو بن هشام: «وأقسم ما أبغضت إنسانا قط كما أبغضت الأمين، وما آذاني شيء قط كما تؤذيني قريش حين تكرمه وتعظم من أمره ومن أمر بني عبد المطلب ما تعظم.» وكان القوم قد انتهوا إلى دار شيبة بن ربيعة، فعزم عليهم ليدخلن ولينالن عنده شيئا من طعام وشراب. فلما استقر بهم المجلس وأخذ الغلمان يهيئون لهم غداءهم ، قال شيبة: «ما ظننت قط أن أحدا يبغض الأمين، وما عرفته إلا محمدا كاسمه بين قومه محببا إلى النفوس جميعا. فهلا حدثتنا يا أبا الحكم ببدء هذا الشنآن الذي تضمره له!»
قال عمرو بن هشام: «إن بدء ذلك لقديم جدا، وإن عهدي به لفي أول أيام الشباب؛ أقبلنا على وليمة في دار عبد الله بن جدعان، فلما دعينا إلى الطعام ازدحمنا، وزاحمني محمد فزحمني، فزلت قدمي فسقطت على الأرض.»
قال شيبة: «أذكر ذلك، وأذكر أنك لم تشاركنا في طعامنا فقد أصاب إحدى ركبتيك بأس.»
قال عمرو بن هشام: «بأس! أي بأس! ما زال أثره باقيا إلى الآن، وما أرى أنه سيزول، وما أرى إلا أن بغضي لمحمد سيبقى ما بقي هذا الأثر.»
قال شيبة: «هون عليك أبا الحكم؛ أمر يكون بين الشباب لا عاقبة له.»
قال علي متضاحكا: «فإن محمدا قد فوت عليه طعام ابن جدعان وطعام ابن جدعان يؤسي عليه.»
قال عمرو بن هشام: «كان ذلك بدء بغضي له، ولكني ما زلت أسمع عنه وعن قومه الأعاجيب، يتحدث بها الناس عنه فتسمعون أنتم وتنسون، وأسمع أنا وأحفظ، ثم يغيظني من ذلك ما لا يغيظكم. أتذكرون تلك الأحاديث التي أذيعت عنه وملئت بها مكة حين سافر إلى الشام في مال خديجة بنت خويلد؟!»
صفحة غير معروفة