قال الفتى: «فإني لا أحب أن أعرض قومي لشيء ولا أن يعرضني قومي لشيء، وإنما أريد أن أترك الناس وما يحبون. ولست أكره إن شق عليكم أمري أن تخلعوني، فما أكثر الخلعاء الذين يعيشون في مكة من قبائل العرب! وما أكثر ما أغبطهم على ما ينعمون به من حرية القلب واليد واللسان!»
قال الشيخ وهو يبتسم ابتسامة غامضة فيها الإعجاب بشجاعة ابن أخيه والإشفاق من جرائره: «دون هذا وتستقيم الأمور بابن أخي. ولكن ما الذي يعجبك من نسطاس ومن ورقة وقد رأيتهما وتحدثت إليهما فلم أر عندها خيرا ولا شرا؟»
قال الفتى: «فإني أجد عندهما الراحة من اللذة والألم جميعا.»
قال الشيخ: «إني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم. الراحة من اللذة! ما هي؟ وكيف تكون؟»
قال الفتى: «رح معي إلى نسطاس أو اغد معي إلى ورقة، ثم أطل عندهما المقام كما أطيله، وتصرف معهما في فنون القول كما أتصرف، فستجد عندهما مثل ما أجد، وسترضى من أمرهما عن مثل ما أرضى عنه، وستغدو على أحدهما وتروح على الآخر، وستؤثر داريهما على أندية قريش.»
قال الشيخ وقد تضاحك: «وكذلك أريد أن أنهاك عما يكره قومك فإذا أنت تغريني به وتحثني عليه «لقد شب عمرو على الطوق»، انصرف راشدا يابن أخي وأحسن سياسة قومك، وكف عن نفسك وعنا غائلتهم.»
قال الفتى وقد نهض: «فإني منصرف الآن راشدا كما تقول إلى نسطاس فشارب عنده ومستمتع بحديثه وغناء جواريه، ثم إني غاد إذا كان الضحى على ورقة بن نوفل فمستمع له ومتحدث إليه، ثم ملم بعد ذلك بأندية قريش فمتحدث بما كان من أمري، فأيهم عرض لي بما لا أحب فلن يرى مني إلا ما يكره.»
قال الشيخ: «إني لأعرف فيك أنفة مخزوم وكبرياءها، ولو عرفت أنك تسمع لي ...»
قال الفتى مقاطعا في رفق: «لنصحت لي بأن أرحل مع القافلة بعد أيام فأبيع وأشتري وأربح كثيرا من المال، وأرى كثيرا من البلاد وألوانا مختلفة من أجيال الناس، وأصبح فتى شريفا من فتيان قريش أصنع ما يصنعون وأضطرب فيما يضطربون فيه، وأنافس صخر بن حرب فيما يكسب لنفسه من السؤدد والثراء.» قال الشيخ: «هو ذاك.»
قال الفتى: «فإني لا أحب من هذا كله شيئا، وإنما أوثر أن أنفق هذا المال الكثير الذي لا أحصيه ناعم النفس قرير العين رضي البال مترددا بين نسطاس وورقة، وأن أستأجر صخر بن حرب وأمثاله ليعملوا لي في مالي وليعينوني على ما أنا فيه من نعيم.» ثم استرد الفتى كبرياءه وخيلاءه وانصرف عن عمه كما أقبل عليه راضيا عن نفسه وساخطا عليها، مدلا بمكانته ومزدريا لها.
صفحة غير معروفة