وصورة للوجه المبدع بموسيقاه السريالية المجنونة وفضاءات الأسئلة الكامنة فيه، فاكتناز الشفاه يحاور نجل المقلتين الحزينتين، وكما ينفرد النأي بتعبيره العاطفي في لوحة الحب، كان الأنف يشكل تواصله غير المتناهي في عبثية القبح، الجمال، الوجود والعدم، ثم دقق ما أمكن لكي يبرز مسحة الحزن الباهتة التي تنام بين ثنيات تفاصيل وجهها الملائكي، محتضنة الأسئلة الكبرى المقعية ما بين الجفن والرمش والتجاعيد الناعمة والناعسة في زوايا مقلتيها.
داوم دكتور محمد فتحي على التواصل إلى أن اعتادت عليه وكأنه أحد أفراد الأسرة، كثيرا من وقت زيارته كان يقضيه في حجرتها، ولو أنه قد بدأ بأخذ عينات دم وخلايا ومخرجات لإجراء الفحوصات المعملية عليها، إلا أنه اكتشف مجالا آخر في ذات «منى»، وأخذ يسبر غوره بكل دقة، صبر وأناة، وكان هذا المجال هو البعد النفسي فيها كإنسان، البعد الألفوي، فكانت نادرا ما تتحدث معه بعيدا عن دائرة أسئلته الطبية. - أتحسين بألم في هذا المفصل؟ - أحيانا ... لا ... سابقا. أو تهز رأسها سلبا أو إيجابا.
ولكنه عندما أخذ يحدثها عن نفسه، معاناته اليومية، مآسي مرضاه وموتهم في كثير من الأحايين؛ لعدم توافر العلاج، ولشح إمكانيات المستشفى من معدات لغرف عمليات إلى أبسط العقاقير، وعن مآسي العالم خارج هواء حجرتها، ثم أخذ يقرأ لها بعض الروايات العالمية مثل: غادة الكامليا، أو الرجل الضاحك أحدب نوتردام، آنا كارنينا، أو حتى فتاة من روما، أخذت تتجاوب معه أكثر وأكثر، ثم انفجرت تروي ما حفظته من حكاو عن جدتها بنت الوكيل وأمها، ثم تحدثت ولأول مرة في حياتها عن نفسها، حرمانها، تصورها للحياة الطبيعية خارج هواء حجرتها، شوارع الله الفسيحة، مدنه، أسواقه، المستشفيات، السينما، المدارس، إلى أبسط تفاهات أحاسيسها: كم أشتهي أن أرى حمارا ، فلقد سمعت صوته كثيرا، لا بد أن تكون له رأس ضخمة، أكبر من قلة المياه.
عشرين عاما قعيدة ذات الأمكنة، ولأنها تعاني مشقة بالغة عند المشي؛ فإنها تظل أياما رقيدة مضجعها، تحلم بالأمكنة الشاسعة الرحبة الخضراء، حيث الهواء، «الحرية»، الناس والحيوانات المرحة الجميلة، وفي منتصف بعض الليالي القمراء، وعندما يهدأ الليل، البشر، العالم كله ينام في ثباته العميق، تصحبها أمها في جولة صعبة مؤلمة في فناء الدار، وقد لا تستمر هذه الجولة أكثر من ربع الساعة لتعودا وهما مليئتان بالأسى ولعنة الحظ والميلاد إلى آخر الحزن والمأساة. - أرجو أن تقبلوا هذا التلفاز هدية مني، من أجل «منى».
وهكذا كان لها أفق جديد ومساحة للضوء صغيرة، ولكنها عميقة وبعيدة الأثر في نفسها ووعيها، كان عالم خيالاتها بحرا، وهذا بحر آخر.
ولكن كانت المفاجأة الكبرى المجنونة عندما جالس د. محمد حاج زكريا بعد يوم شاق قضاه في المستشفى بين المرضى وجرحى المظاهرات وأعضاء نقابة الأطباء في اجتماعهم الطارئ، وسافرا في بحور الكلام شرقا وغربا، ثم انفجر د. محمد قائلا: بصراحة يا حاج زكريا أنا أريد أن أناسبك. - خير يا بني، ولكن «أمل» صغيرة، و«سعادة» مخطوبة لابن خالتها، وزهرة ستزف في عيد الفطر القادم لابن عمتها «مجاهد». - إنني ... إنني أطلب يد ابنتك «منى».
بلا شك اعتبره الأب مجنونا أو في غير وعيه، أو أنه ظن نفسه يحلم حلما ملائكيا سعيدا، ولو أنه لا يخلو من الكوابيس الشيطانية. - لا إنها ليست بنتا، ولن أزوجها لأحد؛ فهي خليقة مشوهة ولا تصلح للزواج. - ولكني أريدها كما هي؟! فلقد أحببتها، إنني اكتشفتها كإنسان بعيدا ...
قال منفعلا مقاطعا: لا، ليست لي بنت تسمى منى، لا أريد فضائح، يمكنك أن تتزوج من تشاء من النساء، فأنت رجل مرغوب ونادر، بل يمكنني أن أزوجك أمل، ولكن منى لا، إطلاقا. - حرام عليك، فهي إنسانة كاملة، فقط ... - لا. - راجع نفسك؛ لأنه لا مجال أمامي لمراجعة نفسي؛ لأن ... لأن منى حبلى الآن؟!
أسرة الحاج زكريا من الأسر العريقة القديمة بالمدينة والغريبة أيضا ، وكان الناس دائما تنظر إليها كأسرة غامضة لها خصوصيتها التي لم يجرؤ أحد من الجيران، المعارف أو الأصدقاء على اختراقها أو محاولة الاقتراب منها أكثر مما تشاء الأسرة، وكأنهم لا يريدون أن يدنس أحد حرمة عالمهم الخاص، فكانوا لا يوسدون صدور فتياتهم غير رءوس أبناء العمومة والخئولة والإخوة، ولا يعشق أبناؤهم غيرهن، فكانوا مثل أشجار السرو تنمو رأسيا كافرة بحكمة الدوم والصبار، كما أن أصدقاءهم محدودون ومحددون، ولا مجال أمامهم لكسر أطواق محدوديتهم.
لم يدع أحدا لحفل الزفاف، بل لم يكن هنالك حفل، ربما غم صغير مر في رشاقة وتوارى خلف الأيام، لفت الفتاة في ملاءة وأودعت العربة لينطلق بها الدكتور نحو بيت قصي اتفق عليه قبل الزواج، وأتبعت بأختها الصغيرة «أمل» لخدمتها.
صفحة غير معروفة