وكانت الأعوام التي تلت عهد قايتباي - بما ثار فيها من الفتن، وما سفك من الدم، وما كان بين الأمراء من الحرب - سببا إلى انتعاش آمال المصريين في حكومة مصرية خالصة تنقذهم من جور هذه الأسرة المالكة التي لا يجمعها نسب، ولا تربطها أبوة، وليس بينها إلا آصرة المملوكية التي نزحت بهم راضين أو كارهين من بلادهم وراء جبال القبج؛ ليتوارثوا عرش مصر.
وكان السلطان الغوري سعيدا بما بلغ من آماله حين رأى نفسه سلطانا على العرش، وقد تفانى الأمراء العظام فأمن غدرتهم، ولكن المصريين - على ما بهم من الضيق والضجر - كانوا أسعد منه بهذه الحال، فقد انكسرت شوكة الجركس وانحلت عروتهم، فلم يبق منهم ذو قوة إلا السلطان الشيخ وإنه لهامة اليوم أو غد!
وفي دار بدر الدين بن مزهر في بركة الرطلي، كانت تتوالى اجتماعات المصريين ليدبروا أمرهم ، وكان يشهد اجتماعهم أحيانا أمراء من المماليك الطامحين أو الساخطين، يأملون أن يكون لهم نصيب من غنائم المعركة حين تنشب المعركة، أو يطمعون في إدراك ثأر ... لا يكادون يدركون أنهم يعينون على أنفسهم حين يعينون على إخوانهم من الجركس!
كان ذلك في القاهرة، أما في مضارب الأعراب بين الشرقية وقليوب، فكانت تتوالى اجتماعات أخرى في دار ابن أبي الشوارب، يشهدها زعماء القبائل العربية الضاربة في الشرقية والبحيرة وبوادي الصعيد ... وإن لهم - كأولئك - أصدقاءهم من أمراء المماليك.
والغوري مشغول عن كل أولئك بما يجمع من المال بالمصادرة والتعذيب وكبس البيوت، وبما يحشد من المماليك الجلبان في طباق القلعة، وبما اجتمع له من أسباب الرفاهية والنعمة، التي لم ينعم بمثلها سلطان من سلاطين الجركس، حتى كانت أدوات المطبخ تصاغ من خالص الذهب والفضة ...
والأمير طومان باي يرى ويسمع ما يجري من الأحداث والأحاديث في المدينة، ويشارك فيما يتمتع به السلطان من ألوان النعيم في قصر القلعة، ولكن له مع ذلك همومه الخاصة قد أقفل عليها صدره وأمسك لسانه، فلم يطلع على غيبة أحد؛ فهو موزع القلب بين أسباب الهوى وتقاليد الإمارة وفضول الشباب ...
إنه ليود أن يجلس إلى عمه فيتحدث إليه حديثا صريحا ويفضي بما يحتقب من أسرار، لعله أن يطأطئ رأسه فيرى تلك الهاوية تحت قدميه ... ولكن من أين له؟! إنه متهم عند عمه بحب شهددار بنت أقبردي فلن يستمع إليه، وهل يفرغ العاشق لغير حديث الهوى والشباب؟ هل يحسن شيئا من أسباب السياسة وتدبير شئون الملك، وإن العشق لمذلة وهوان! كذلك يراه عمه السلطان!
وابتسم طومان باي ساخرا على ما به من الألم والضيق، أفيمتنع أن يكون الفتى عاشقا وطالب مجد؟ وماذا يمنع؟ إن العاشق ليرقى أحيانا إلى أسباب المجد على معراج من شعاع عيني معشوقته، بل إنه ليمتنع أن يعشق الفتى النبيل، ولا يطلب أسباب العلاء والمجد. ولكن من أين للغوري الشيخ أن يدرك هذه الحقيقة؟! من أين له وهو أبو جان سكر التي يريد أن تكون هي لا غيرها معشوقة طومان باي؟!
وابتسم طومان باي ابتسامة أخرى ساخرة ... ولكن من نفسه، إنه هو الذي رضي لنفسه أن يكون من عمه بهذا المكان، لو شاء لأبى وأسرع عجلان إلى بيت صاحبته شهددار ليقول لها: إنك أنت وحدك لي ولو غضب السلطان.
ما هذا؟ ... فيم يفكر الساعة وإن الأمر لأجل وأخطر من أن يشتغل عنه بمثل هذه الخواطر، إن لحديث الحب ساعة أخرى، أما الآن ... أما الآن فإن عليه فرضا آخر؛ ليدرك هذا العرش قبل أن ينهار ... - عمي! - ماذا يا طومان؟ - إن لي إليك حديثا، فهلا فسحت صدرك لي! - حديث جد يا طومان أم حديث دعابة؟
صفحة غير معروفة