لقد أصبح أرقم رمالا منذ فارق شيخه أبا السعود الجارحي مغضبا، ولم يجد في نفسه حرجا من احتراف هذه المهنة حين ضاقت به أسباب العيش، وعز عليه أن يحصل على الرزق الحلال! وماذا عليه في أن يكون رمالا كأبي النجم، يجفف دموع المحزونين، ويمسح على قلوب البائسين، ويهب لليائسين الصبر والأمل، وأي عمل أكثر مثوبة عند الله من ذاك؟! ليته يؤمن بمثل ما يؤمن به الناس؛ ليجد من يجفف دمعه، ويمسح على قلبه، ويهب له الصبر والأمل!
ورأى أرقم طومان وهو يهم أن يعتلي فرسه، فأتبعه عينيه حتى غاب، ونفذت صورته إلى خاطره ولم تره عيناه، ورأى أهل الحلقة أرقم وهو يرفع عينيه ويدور بهما نحو الطريق الذي سلكه طومان، فلم يظنوا إلا أنها سبحات روحية تتمثل في نظرة عينين، فأمسكوا عن القول حتى عاد إليهم من سبحته، ومضى فيما كان فيه من تخطيط وتخليط.
وبلغ طومان دار عمه وهو متعب مكدود الفكر والجسد، فأوى إلى فراشه ساعة لينام، وفي خياله صور شتى وخواطر متضاربة، ولكنه لم يلبث أن نام ...
وانتقلت خواطره في النوم إلى البعيد البعيد، وحضرته صورة أخرى لم تحضره منذ سنين، صورة امرأة تشبه نوركلدي شبها بعيدا، لولا ذبول في عينيها، ونحول في جسدها، وشحوب في وجنتيها، وشعرات بيض في رأسها تلوح وتخفى، كما يهتز الشعاع على سطح الماء في ليلة حالكة السواد ...
وكانت في ثياب الحداد، ملثمة لا يبدو من وجهها الشاحب إلا عينان تبصان، وإنها لتقتلع أقدامها اقتلاعا في بادية رملية سحيقة، ليس وراءها إلا الرمال، وليس أمامها إلا الرمال، وقد أصابها الكلال والظمأ في تلك الطريق الطويلة الشاقة، فإنها لتنظر حواليها فلا ترى أحدا، وتنظر أمامها فلا ترى أحدا، ولكنها لم تنظر وراءها قط، كأنما عاهدت نفسها أن تموت أو تبلغ آخر هذه الطريق.
وأحست بالضعف والوهن، فهتفت وإن حلقها ليكاد ينشق: ولدي طومان!
فدوى الصوت في أرجاء هذه المتاهة العمياء، ثم ارتد إليها الصدى، فكأنما سمعت في أطوائه جواب النداء، فاستمدت من عزمها قوة، واستمرت تمشي وهي تقتلع أقدامها اقتلاعا في رمال تلك البادية السحيقة ...
وهب طومان من نومه مذعورا يتلفت، كأنما أيقظه ذلك الصوت البعيد البعيد تهتف به امرأة غاب وحيدها، فلم تزل على الطريق إليه منذ بضع عشرة سنة!
وهتف طومان وهو يدير عينيه فيما حوله بين جدران أربعة: أمي نوركلدي!
فلم يتردد له صدى، ولكن صوته اخترق الأبعاد، واجتاز المسافات، وقطع الطريق من غرب الأرض إلى الشرق أسرع من الشعاع النافذ، فإذا أمه تسمعه هنالك، فتستأنف سيرها في ذلك الطريق الطويل الموحش، معتزمة مصممة؛ لتبلغ حيث أرادت، وتلقاه ...
صفحة غير معروفة