ورضي خاير بك وسري عنه، وخيل إليه كأنما تعتذر إليه من بعض ما كان، فهدأت نفسه من قلق، وهم أن يجيب فأعجلته قائلة: وإنني - أيها الصديق - لم أزل أراك بتلك العين، كأنما لم تمض تلك السنون، فلم تزل أخي وجاري ومعقد أملي!
وخفق قلب الرجل وهزته قشعريرة الحب، وغشت عينيه دموع، واسترسلت المرأة في حديثها: وقد كنت أدخرك يا خاير لأمر عظيم، ولكن بيني وبينك اليوم حجابا، فليس يخفى علي أنك اليوم من أمراء ذلك السلطان ...
وسكتت برهة، ثم علا صوتها وزاد شدة وحدة، وأردفت: ولكن ذلك الغادر السفاك لا بد أن ينال جزاءه، ولا بد أن تطلبه المقادير بالثأر فتأخذه بدم الناصر وجانبلاط، ومن يدري ماذا يفعل غدا أو بعد غد بالظاهر قنصوه! ولكنك اليوم يا خاير أمير من أمراء ذلك السلطان.
قال خاير: مولاتي ...
فقاطعته قائلة في رقة: لست مولاتك يا خاير، إن مولاك هو ذلك السلطان، وإنما أنا مصرباي التي كنت تناديها باسمها ذات يوم في حلب منذ سنين!
قال خاير وقد غلبه وجدانه: نعم يا مصرباي ... ولكنك إلا تكوني مولاتي، فلن يكون مولاي هو الغادر السفاك طومان باي، وستعرفين من خبري وتسمعين عن بلائي!
فلمعت عينا مصرباي ببريق فاتن، وأقبلت على محدثها حتى أحس أنفاسها تتضوع في جوه عطرا مسكرا، وقالت وعيناها في عينيه: وإنك أهل لذلك يا خاير بك ... بل إنك لأهل لأكثر من ذلك.
وانضم إلى أعداء العادل طومان باي - منذ تلك الليلة المقرورة - أمير من أمراء المماليك له شدة وبأس وعنفوان!
على أن العادل وقد صعد إلى العرش وتحققت له كل أمانيه، لم يكن يفكر فيما يدبر وراءه، وما كان له أن يخشى غدرة وقد تفانى الأمراء العظام، فلم يبق ثمة من تنازعه نفسه إلى العرش، أو يطمع في الوثوب على السلطان! ومن ذا هنالك غير الظاهر قنصوه رهين محبسه في برج الإسكندرية يرسف في أغلاله، وليس وراءه من يهتم به، وغير قصروه وإنه لأوفى أصدقائه له، وبجهده وتدبيره ولي العرش ولو أراده قصروه لسبق إليه، ثم قنصوه الغوري ذلك الشيخ الذي جاوز سن الطموح وعزف عن مغريات المجد والجاه؟ ومن غير هؤلاء يخشاه العادل أو يحسب حسابه؟
واطمأن إلى حظه راضيا آمنا غدرة الأيام.
صفحة غير معروفة