وكان قنصوه الأشرفي هذا فتى في عنفوانه، ذكي القلب، واسع الذرع، بعيد الحيلة، فسيح مطارح الآمال، وعلى أنه كان شابا لم يبلغ الثلاثين، فقد كان له في القصر جاه ومنزلة، ولولا أنه أخو أصل باي حظية السلطان وأم ولده المرتجى لما بلغ هذه المنزلة، ولظل مملوكا بين مئات المماليك الذين تزخر بهم طباق القلعة، ليس له شأن ولا يحس مكانه أحد، وقد كان ذلك شأنه منذ قريب، ثم وقعت عليه عين أخته ذات يوم فعرفته ولم تكد، فهتفت: أخي قنصوه!
فالتفت إليه السلطان منذ ذلك اليوم وأغدق عليه نعماءه ؛ فلم تمض إلا سنوات حتى كان ذلك المملوك المغمور بين مئات المماليك، أميرا من أمراء البلاط يشار إليه بالبنان، وله في القصر سياسة وتدبير!
واجتمع على الإعجاب بمصرباي الجركسية الولد والخال، وزاد الغيظ بأصل باي حين اكتشفت ذلك السر الفظيع، فودت لو تستطيع أن تحول بين تلك الوصيفة الفاتنة وبين ولدها وأخيها، ولكن من أين لها القدرة على ذلك وإنها لجارية في القصر، وإن كانت أم ولد السلطان وولي عهده!
على أن إقامة مصرباي لم تطل في القصر منذ اليوم الذي اكتشفت فيه أصل باي ذلك السر، فقد عقد لها على خطيبها المفتون كرت باي أخي أقبردي الدوادار وانتقلت إلى داره ...
ثم لم تطل بهما الإقامة في القاهرة بعد، فقد عقد لزوجها اللواء نائبا على صفد، فخرج إليها تصحبه عروسه الفاتنة، وخلفت وراءها في القاهرة قلوبا تحترق.
الفصل السادس
عودة الماضي
عاش طومان في قلعة حلب سيدا صغيرا، ليس لأحد عليه سلطان، وقد اجتمعت له كل أسباب الرفاهية والنعمة، ولكنه مع ذلك لم يكن سعيدا؛ فإن ذكريات عزيزة من ماضيه كانت تلم به حينا بعد حين، فتسلبه الطمأنينة والقرار، فلا يزال يذكر أيامه في بلاد الغور، حيث تنبسط الأرض حواليه على مد البصر وقد تناثرت فيها الخيام، يذهب فيها حيث يشاء ويعود حين يشاء، ليس عليه رقيب يعد خطاه ويحصي عليه أنفاسه هناك في أرض الحرية، حيث السماء والماء والهواء، كان ذلك ملك خالص له هو وحده على ما يخيل إليه، ليس بينه وبين شيء يريد أن يبلغه قيود ولا سدود، ولا حد للحرية التي يستمتع بها عابثا لاهيا بين خيام القبيلة، وعلى شواطئ الغدران، وبين الغنم السائمة في المراعي النضرة. أين منه كل أولئك في هذه القلعة المنيعة، في هذه المدينة المحوطة بالأسوار وبالأسرار!
بلى، إن هنا الطعام والشراب، وهنا الفراش الوثير كأنه حين يسلم إليه جسده ينام على جناح النسيم، وهنا من وسائل النعيم ما لا رأت عينه ولا سمعت أذنه، ولا خطر له على قلب، ولكن ما نفع ذلك كله وهو وحيد فريد، ليس له أم تحنو عليه، ولا صاحب يأوي إليه، ولا رفيق يحمل بعض همه، وإنه مع ذلك كله عبد سيده، لا يخطو خطوة إلا بإرادته، ولا يفتح شفتيه بكلمة إلا أن يأذن له. أكان يهجس بخاطر أمه نوركلدي أن ينتهي ولدها العزيز طومان إلى هذا المصير؟! وحضرته ذكرى أمه، يا لها من بعده، تلك الأرملة التي وهبت له شبابها النضر، واعتبرته كل حظها من دنياها، فليس لها وراءه أمل تأمله ... كيف هي الساعة وأين ذهبت بها الظنون لبعده، وماذا فعلت بها من بعده الأيام!
واستجابت له عيناه فأرسل دموعه على خديه!
صفحة غير معروفة