137

على باب زويلة

تصانيف

وأيقن المصريون يقينا لا شبه فيه أن دولتهم قد دالت، وأن خيل الروم ستطؤهم مصبحة أو ممسية، وستحصدهم مدافع البارود وقذائف النار حصدا، فلا تبقي منهم ولا تذر، ومن ذا يثبت للبارود والنار ذلك السلاح الجديد الذي يصفه من يصف ممن شهد موقعة مرج دابق، فكأنما يصف معركة قد نشبت في طبقة من طبقات الجحيم تتهاوى كرات النار فيها عن اليمين وعن الشمال، فتحصد الفرسان والرجالة وهيهات منها السلامة!

وضعفت نفوس المصريين وأصابها الوهن، حتى لو أن صيحة أخذتهم من جانب الوادي لمضوا على وجوهم فارين لا يردهم إلا البحر.

وفعلت الدعاية العثمانية بهم ما لا يفعل السيف والنار ... وكان الذي تولى كبر هذه الفتنة منهم طائفة من أصحاب خاير بك، وجان بردي الغزالي، وخشقدم الرومي، إلى طوائف من أبناء الروم قد اجتازوا الحدود متنكرين في زي الأعراب، فانبثوا في الأسواق والمساجد ومجتمعات السمر، يتحدثون فيسرفون في الحديث، والمصريون يستمعون إليهم فتنخلع قلوبهم من الرعب والفزع.

وكان النواح على القتلى والأسرى والمفقودين في كل درب من دروب القاهرة، كأنه تأكيد لما يتحدث به هؤلاء من الأنباء المروعة ...

رجل واحد لم يهن ولم يضعف ولم تنل منه تلك الأنباء، فراح يعد عدته للدفاع عن مصر والشام، ويستنفر المصريين والعرب والمماليك ليذودوا عن حرماتهم وأعراضهم وذراريهم، ويقفوا صفا في وجه ذلك العدو الزاحف بخيله ورجله، وبسيفه وناره ... ذلك هو الأمير طومان باي.

ولم يكن لمصر يومئذ سلطان، فاجتمع أمراء المماليك في القاهرة على مبايعة الأمير طومان باي؛ ليجلس على عرش مصر خلفا لعمه قنصوه الغوري، الذي غاب أثره بين رمم القتلى في البادية، فلم يعرف أحد أين كان مثواه الأخير.

ولكن من ذا يبايعه، والخليفة العباسي أسير عند ابن عثمان، وقضاة القضاة ومشايخ الإسلام قد خلا مكانهم في مصر منذ خرجوا في ركب السلطان فلم يعودوا، والأمراء العظام قد وقع منهم من وقع في الأسر، وسقط على الغبراء قتيلا من سقط، ولا تزال طائفة منهم على الطريق بلا زاد ولا راحلة.

وماذا يدفع طومان باي للجند من أعطيات البيعة وقد أفرغ الغوري خزائنه واحتمل ما فيها لتكون معه في رحلته تلك المشئومة، حتى اللواء السلطاني والتاج والحلة والخاتم ليس في القاهرة منها شيء.

ثم ماذا يغريه بالسلطنة اليوم وقد ذهب عزها، فلم يبق من معناها إلا تكاليف لعل أهونها أن يبذل دمه.

قالت زوجته شهددار: لمثل هذه التكاليف يا أمير تفتقد الملوك، ولست أهلا لحبك إن لم تحمل أعباءها راضيا موقنا أن أول الواجب أن تموت، وأن تذبح امرأتك وابنتك بين يديك فلا تهن ...

صفحة غير معروفة