1 - بلا ندم
2 - التحذير
3 - محادثة قصيرة
4 - إنجلترا تنادي
5 - قطار الليل السريع
6 - غرفة الانتظار
7 - الركاب
8 - استراحة الشاي
9 - أبناء وطن واحد
10 - المقعد الخاوي
11 - إبرة في كومة قش
12 - الشهود
13 - حلم داخل الحلم
14 - أدلة جديدة
15 - مشهد التحول
16 - الشاهدة الرئيسية
17 - لم يكن ثمة آنسة فروي
18 - المفاجأة
19 - اليد الخفية
20 - غرباء يتدخلون
21 - أكاذيب
22 - إضاعة الوقت
23 - ضع رهانك
24 - وتدور عجلة الحظ
25 - اختفاء غريب
26 - توقيع
27 - اختبار الحمض
28 - ارفعي يدك
29 - ترييستي
30 - إنكار
31 - صحن حساء
32 - الحلم
33 - البشير
1 - بلا ندم
2 - التحذير
3 - محادثة قصيرة
4 - إنجلترا تنادي
5 - قطار الليل السريع
6 - غرفة الانتظار
7 - الركاب
8 - استراحة الشاي
9 - أبناء وطن واحد
10 - المقعد الخاوي
11 - إبرة في كومة قش
12 - الشهود
13 - حلم داخل الحلم
14 - أدلة جديدة
15 - مشهد التحول
16 - الشاهدة الرئيسية
17 - لم يكن ثمة آنسة فروي
18 - المفاجأة
19 - اليد الخفية
20 - غرباء يتدخلون
21 - أكاذيب
22 - إضاعة الوقت
23 - ضع رهانك
24 - وتدور عجلة الحظ
25 - اختفاء غريب
26 - توقيع
27 - اختبار الحمض
28 - ارفعي يدك
29 - ترييستي
30 - إنكار
31 - صحن حساء
32 - الحلم
33 - البشير
عجلة الحظ
عجلة الحظ
تأليف
إثيل لينا وايت
ترجمة
سارة ياقوت
مراجعة
هاني فتحي سليمان
الفصل الأول
بلا ندم
في اليوم الذي سبق وقوع الكارثة، انتاب آيريس كار للمرة الأولى في حياتها واجس خطر. كانت قد اعتادت أن تكون في كنف زمرة من الناس تدعوهم - في إطراء عفوي - «أصدقاءها». لكونها يتيمة ذات مال وجمال، دائما ما كان يحيط بها لفيف من الناس. كانوا يفكرون عوضا عنها - أو بالأحرى، كانت هي توافقهم في آرائهم وفي المقابل كانوا هم يصدحون نيابة عنها - إذ لم يكن صوتها مسموعا كفاية في المحافل الاجتماعية.
كان وجودهم الدائم حولها يعطي انطباعا وهميا بأن دائرة معارفها واسعة، لكن في الحقيقة، كانت الوجوه نفسها تتكرر برتابة متعاقبة. كما أنهم جعلوها تتذوق حلاوة الشهرة؛ فقد ظهرت صورتها في الصحف المصورة عندما عرض عليها أحد المصورين الشهرة، بعد إعلان خطبتها على أحد أفراد زمرتها في الصحف.
كان ذلك يعني ذيوع صيتها.
ثم بعد ذلك بوقت ليس بطويل، فسخت الخطبة برضا الطرفين، وقد كانت تلك فرصة ذهبية لالتقاط صورة أخرى؛ وهذا يعني مزيدا من الشهرة. كانت أمها، التي توفيت وهي تلدها ، لتبكي أو تبتسم لتلك الومضات المثيرة للشفقة من بهرج الحياة البشرية، الذي يتعالى فوق الظلمات من تحته كفقاعات غاز المستنقعات.
عندما شعرت آيريس بالخطر للمرة الأولى، حدث ذلك في خضم عافيتها وسعادتها بعد أن قضت عطلة استشفاء غير تقليدية. بفرحة انتصار المستكشفين الأوائل، نزلت الزمرة بقرية خلابة فقيرة لكن بديعة، متوارية في مكان متطرف بأحد أرجاء أوروبا، واحتلوها بتدوين أسمائهم في سجل النزلاء.
لقرابة الشهر، احتلوا الفندق الوحيد بها؛ مما تسبب في ارتباك لا يخلو من السعادة لصاحب الفندق وطاقم خدمته. تسلقوا الجبال، وسبحوا في البحيرة، ولم يتركوا منحدرا إلا وتشمسوا فوقه. وعندما كانوا يقضون أوقاتا داخل الفندق، كانوا يملئون الحانة، يعلو صخبهم على صوت المذياع، ويمنحون بقشيشا لقاء أي خدمة تافهة. كان المالك يبتسم لهم من وراء صندوق الدفع المكتظ بالنقود، وكان النوادل يمنحونهم معاملة مميزة، وهو ما كان يثير سخط النزلاء الإنجليزيين الآخرين المبرر.
في نظر هؤلاء الأشخاص الستة، كانت آيريس مجرد واحدة من الزمرة، فتاة من الطبقة شبه الراقية، مغرورة وأنانية وعديمة النفع. بطبيعة الحال، لم يكن لديهم أي دراية بنظام استرداد النقاط، وهي لفتة كرم كانت تجعلها تتحمل هي الفاتورة بحكم العادة عندما كانت تتغدى هي و«أصدقاؤها»، ولفتة شفقة حقيقية تجاه المآزق التي كانت تتعرض لها.
كانت تنتابها لحظات قليلة من التبرم وازدراء الذات، لكنها كانت تعي وجود نزعة من الأنفة لديها، دفعتها لأن تنأى بنفسها عن أي ميل للخوض في المجون. في تلك العطلة، سمعت آيريس نداءات الإغواء، إلا أنها لم تذعن لها.
بعد مدة وجيزة، تراخت قيود العرف المتساهلة بين أفراد الزمرة؛ إذ لفحت الشمس بشرتهم، واحتسوا الخمر فذابت الحدود بين المتزوجين منهم. كانت آيريس محاطة بأزواج وزوجاتهم من شتى الألوان؛ لذا كانت صدمتها قوية عندما استيقظ حس التملك فجأة بعد فوات الأوان لدى إحدى الزوجات - تدعى أولجا - واتهمتها بسرقة زوجها.
بجانب بشاعته، أغاظ ذلك المشهد حس العدالة فيها؛ فهي لم تفعل سوى أنها تحملت شكوى رجل أهملته زوجته، وبدا مجرد ترس احتياطي في آلة الزواج المفككة. ليس خطؤها أن الرجل فقد صوابه.
ومما زاد الطين بلة أنه في خضم تلك الأزمة، لم تر أي دليل على وفاء حقيقي من أصدقائها، الذين لم يخفوا استمتاعهم بما نتج عن ذلك من إثارة؛ لذا، كي تخفف من توترها، قررت ألا تعود إلى إنجلترا معهم، وأن تمكث يومين آخرين وحدها.
في اليوم التالي، كانت لا تزال تشعر بالإرهاق وهي ترافق زمرتها إلى محطة القطارات الصغيرة البدائية. كانوا قد تأقلموا بالفعل على فكرة العودة إلى المدنية، فعادوا لارتداء الملابس الفاخرة، وعاد كل زوج إلى زوجته الشرعية، كإجراء طبيعي لتسهيل التعرف على حقائب السفر والحجوزات.
كان القطار متجها إلى ترييستي، وهي مدينة موجودة على الخريطة بلا ريب. وكان مكتظا بالسياح، الذين كانوا هم أيضا في طريقهم إلى حيث الطرقات المرصوفة والمضاءة. بعد أن تركوا وراءهم التلال وضوء النجوم، بدأت الزمرة تتفاعل مع الضجيج والعجيج العام، وبدا أن وفاءهم القديم قد عاد إليهم وهم ملتفون حول آيريس. «أواثقة أنك لن تملي يا عزيزتي؟» «غيري رأيك واصعدي على متن القطار.» «يجب أن تأتي معنا.»
عندما انطلقت الصافرة، حاولوا أن يجذبوها إلى داخل المقطورة، على حالها ذاك؛ بسروالها القصير، وحذاء التسلق ذي النعل المدبب، ووجه تكسوه لمعة برونزية من لفحة الشمس وقد كان خاليا من مساحيق التجميل. جاهدت بكل ما أوتيت من قوة كي تتحرر من قبضتهم، وبالكاد نجحت في القفز من القطار بينما كان الرصيف قد بدأ يتحرك بمحاذاة النافذة.
وقفت تضحك وتلهث من الجهد الذي بذلته، ولوحت خلف القطار المبتعد، حتى اختفى وراء منعطف الخور.
كادت تشعر بالذنب عندما غمرها الارتياح لفراق أصدقائها، لكن مع أنها قضت عطلة سعيدة، كانت تستقي سعادتها تلك في الأغلب من المصادر البدائية؛ من الشمس والمياه ونسيم الجبل. وهي في أحضان الطبيعة، كانت تكره نوعا ما تطفل البشر.
كانوا جميعا يلازم أحدهم الآخر على نحو متقارب وحميمي. في بعض الأحيان كانت تسمع أصواتا ناشزة - ضحكة عالية حادة لامرأة - أو تلحظ هيئة رجل بدين يتأهب للقفز في الماء، مع الصيحة المتكررة الطائشة: «يا إلهي!»
صحيح أنها صارت تنظر إلى أصدقائها نظرة ناقدة، لكنها مع ذلك ظلت تسبح مع التيار. على غرار باقي رفقائها، كانت تطري بحماسة المناظر الطبيعية، فيما كانت تعتبرها أمرا عاديا؛ فازدياد المناظر الطبيعية حسنا في مقابل تدني معايير الصحة العامة هو نتيجة طبيعية للسفر إلى الأماكن النائية.
أخيرا، صارت وحدها في صحبة الجبال والسكون. بالأسفل منها، كانت هناك بحيرة زاهية الخضرة، تعكس صفحتها البريق المتلألئ لضوء الشمس. وكانت تظهر معالم قمم الجبال التي تغطيها الثلوج على مسافة بعيدة لقاء السماء بلونها الأزرق الزهري. على أحد التلال، وقف ركام قلعة قديمة داكنة، لها خمسة أبراج شامخة في السماء، كأصابع مبسوطة ليد شريرة.
كانت الألوان الصاخبة حولها في كل مكان، وكانت أزهار عجيبة تكسو حديقة المحطة، تجمع بين اللونين البرتقالي الناري والأصفر، ولها أوراق مدببة. وفي نقطة أعلى المنحدر، كان الفندق الخشبي الصغير مطليا باللونين البني المصفر والقرمزي الزاهي. لقاء الجدار الأخضر للخور، تصاعدت آخر حلقة دخان، فبدت مثل ريشات بيضاء تسبح في الهواء.
بعد أن تبددت، شعرت آيريس أن آخر خيط يربطها بزمرتها قد انقطع، فأرسلت قبلة مازحة في الهواء، ثم التفت ونزلت في المسار المنحدر الحجري. عندما وصلت إلى النهر الذي يصب فيه الجليد، ظلت واقفة على الجسر تلتمس الهواء المثلج الصاعد من مياهه المتلاطمة الخضراء المشوبة بالبياض.
عندما استرجعت المشهد الذي وقع أمس، أقسمت إنها لا تريد رؤية تلك الزمرة مرة أخرى؛ فقد ارتبطوا بواقعة تنافي فكرتها عن الصداقة. كانت تكن شيئا من الإعجاب لتلك المدعوة أولجا، التي قابلت وفاءها لها بإظهارها الفج للغيرة.
نفضت عن ذهنها تلك الذكرى؛ فهنا، تحت تلك السماء الزرقاء التي لا حدود لها، تتضاءل للغاية قيمة البشر، ولا يصبح لعواطفهم قيمة تذكر. فما هم إلا محطات عابرة في رحلة المرء من مهده إلى لحده، يتقاطع سبيله معهم ثم يتركهم ويمضي، بلا أسف.
لحظة تلو الأخرى، كانت الفجوة بينها وبينهم تتسع. كانوا يتبخرون من حياتها. أيقظت تلك الفكرة بداخلها شعورا بحرية كانت حديثة عهد بها، وكأن روحها تحررت على يد السكون والوحدة.
لكن بعد عدة ساعات ليست بالطويلة، كانت لتقايض جميع مباهج الطبيعة مقابل استعادتهم مرة أخرى.
الفصل الثاني
التحذير
بعد نحو أربع ساعات، استلقت آيريس باسطة ذراعيها وساقيها فوق أحد منحدرات الجبل على مسافة مرتفعة من القرية. بعد أن تركت وراءها الشفق البارد للخور، وعند ضريح تلتقي عنده الطرق، سلكت مسارا متعرجا شديد الانحدار صعودا لأعلى.
بعد أن خرجت من حيز الظل، لفحتها الشمس بضراوة، لكنها لم تبطئ وتيرة سيرها؛ فقد كانت أفكارها الحانقة تدفعها للمضي قدما؛ إذ لم تستطع طرد أولجا من فكرها.
كان الاسم يتردد بإلحاح في ذهنها. أولجا. أولجا التي أكلت خبزها، في صورة شرائح محمصة - حفاظا على رشاقتها - ورفضت أن تأكل ملحها، لاتباعها تقليعة غذائية ما. وكان ذلك يسبب العناء في المطبخ. أولجا التي استغلت هاتفها، وأساءت استخدام سيارتها. أولجا التي استعارت معطفها المصنوع من الفراء، وأعارتها زوجا لا حاجة لها به.
عندما تذكرت أوسكار زوج أولجا، انطلقت آيريس تركض بسرعة.
قالت حانقة: «وكأنما سأقع في حب رجل يشبه «ميكي ماوس».»
كانت تلهث عندما ألقت بنفسها أخيرا فوق العشب وقررت أن تكتفي بذلك القدر. كانت قمة الجبل الذي تحمست لصعوده تبتعد كلما تقدمت هي؛ لذا تخلت عن نيتها بلوغها.
وهي تستلقي مغمضة عينيها، تنصت لأزيز نسمات الهواء، عادت إليها سكينتها. نظرت إلى كومة من نبات الجريس تقف إزاء خط الأفق، فبدت لها وكأنما تعاظمت وصقلت حتى صارت كبرج جرس معدني، فيما شعرت بنفسها تتضاءل وتلتحم بالأرض وكأنما صارت جزءا منها، مثلها مثل الحجارة وجذور النباتات. وفي مخيلتها، كادت تسمع دقات قلب ضخم ينبض تحت رأسها.
لم تلبث تلك اللحظة أن مرت؛ إذ عادت تفكر في أولجا مرة أخرى. لكن تلك المرة، نظرت إليها من منظور مختلف؛ فقد منحها الارتفاع إيحاءه المعتاد بالأفضلية. تذكرت أن الوادي يرتفع أربعة آلاف قدم عن مستوى سطح البحر، بالإضافة إلى أنها صعدت لارتفاع يزيد على خمسة آلاف قدم أخرى.
وبناء على تلك الحسبة، يسعها أن تكون كريمة؛ إذ إنها الآن أطول من صديقتها السابقة بتسعة آلاف قدم. هذا بالطبع على افتراض أن أولجا كانت كريمة كفاية وظلت في مستوى سطح البحر.
قررت أن تنفض عنها تلك الذكرى باعتبارها لا تستحق أي غضب إضافي.
وقالت: «لكني لن أكررها ثانية قط. لن أمد يد العون لأي شخص بعدما حدث.»
حمل صوتها نبرة الانفعال الحماسي لمن تكرس نفسها لخدمة قضية ما. بالشعور الفاضل الذي ينتاب من تعلم درسا دفع مقابله ثمنا باهظا، دخنت سيجارة قبل أن تنطلق في رحلة العودة. كان الهواء صافيا حتى إن جبالا لم ترها من قبل بدأت تلوح في الأفق طافية في السماء، وسط درجات من اللون البنفسجي الشفاف. رأت إحدى أذرع البحيرة، التي لم تعد خضراء، بل عتم لونها إلى الأزرق الباهت بفعل المسافة.
نهضت على مضض؛ فقد حان وقت الرحيل.
لم تكن رحلة النزول رتيبة فحسب، بل كانت مؤلمة أيضا؛ إذ كانت إمالتها لجسدها للخلف باستمرار ترهق عضلاتها غير الممرنة. فبدأت ربلتاها تؤلمانها، وكانت أصابع قدميها ترتطم بالمسار الحجري.
نفد صبرها، فقررت أن تخرج عن المسار المتعرج لتسلك طريقا مختصرا في واجهة الجبل، متخذة من البحيرة بوصلة تهتدي بها، اندفعت تنزل المنحدر.
كانت تلك مخاطرة جريئة، لكنها ما لبثت أن وجدت أن الانحدار شديد للغاية. كانت تنزل بسرعة شديدة فلم تستطع التوقف، ولم يسعها إلا أن تنزل في وضع الجلوس وتتزحلق على العشب الزلق، متكلة على الحظ.
منذ تلك اللحظة، تداعت الأمور بسرعة. في كل لحظة تمر، كانت سرعة نزولها تزداد رغم محاولاتها كبحها بقدميها. وكانت تمر من جانبها بسرعة خاطفة رقع زرقاء وخضراء بينما كان الوادي يقترب مسرعا لملاقاتها، فتلاقى مع السماء الزرقاء. أثناء ارتطامها بالأرض الخشنة، جنحت ناحية صف من الأشجار في القاع، على أمل أن تحميها من السقوط الكامل.
لسوء الحظ، كانت الأشجار قديمة وعطنة، فتحطمت إثر ارتطامها بها لتسقط خلالها وترتطم بالأرض في وسط المسار الحجري.
خففت الأشجار من حدة سقطتها نوعا ما، لكنها أحست بألم وذعر شديدين بينما كانت تهب واقفة على قدميها. على الرغم من جروحها، لم تنس أن تضحك ضحكتها المفتعلة التي تعلمت في المدرسة أن تقابل بها أي إصابة في لعبة رياضية.
تمتمت وهي تنزع الشظايا من ساقيها: «كان هذا ممتعا نوعا ما.»
لكن تهللت أساريرها عندما لمحت الضريح على بعد بضع أقدام منها في المسار؛ إذ كان ذلك تكليلا لنجاح جنوحها. لم تكن بعيدة عن الفندق، فنزلت الوادي بخطى ثقيلة وهي تفكر في جميع وسائل الراحة التي تنتظرها هناك؛ مشروب بارد كبير، وحمام دافئ، وعشاء في السرير. عندما لمحت التماعة صفحة الماء عند انحناءة الخور، انطلقت تركض بخطوات عرجاء من فرط حماستها.
دارت حول المنعطف ثم توقفت تحملق أمامها في دهشة بالغة؛ إذ اختفت جميع المعالم المألوفة لها، وكأنما محا شخص متطفل التضاريس بممحاة هندية. لم يكن هناك أي أثر لبيوت خشبية صغيرة، ولا محطة القطارات، ولا المرفأ ولا الفندق.
أصابها الهلع إذ أدركت أن البوصلة التي استدلت بها على طريقها لم تكن صحيحة؛ فتلك ليست هي البحيرة الخضراء المألوفة، التي اعتادت أن تسبح فيها يوميا هي وأصدقاؤها؛ فهي ليست بحيرة عميقة وبيضاوية الشكل، بل بركة ملتوية لها لون أزرق باهت، وضفتان ضحلتان يكسوهما البوص.
في وضعها الحالي، لم يكن أمامها سوى حل واحد؛ أن تعود أدراجها إلى الضريح ثم تسلك المسار الآخر.
وجدت ذلك أمرا مسليا، فانطلقت منها ضحكة مجلجلة ثم بدأت تسير بخطى متثاقلة بطيئة صاعدة مرة أخرى.
حبسها مزاجها المعكر للغاية من الاستمتاع بروعة المنظر الخلاب. كان مشهدا يعكس وحشة مطلقة، صدعته الانزلاقات أرضية، وتجمعت فوقه أكوام عالية من الحجارة المحطمة. لم تر أي زروع خضراء وسط الصخور الملساء الضخمة أو تسمع زقزقة أي طائر. كانت الأصوات الوحيدة المسموعة هي خشخشة الأحجار التي تتزحزح تحت قدميها، وخرير تيار مائي ضعيف، يمر مزبدا في مجراه شبه الجاف، مثل خيط أبيض متشابك.
كانت آيريس معتادة على الرفقة الدائمة، فبدأت تشتاق إلى الوجوه والأصوات. في خضم وحدتها تلك، تضاءلت نفسها حتى لم يبق منها سوى قدر ضئيل من الشفقة على الذات. ذكرت نفسها أنها عندما تعود إلى إنجلترا، فإنها لن تعود إلى منزلها مثل الباقين، بل سترجع إلى وطنها فحسب.
في الوقت الحالي، كانت تسكن في فندق؛ فقد أجرت شقتها الصغيرة الفاخرة المستأجرة، مع أنها هي من اختارت أسلوب حياتها. في ذلك الوقت وذلك المكان، شعرت أنها دفعت ثمنا باهظا لقاء حريتها.
لم تدم حالتها المزاجية؛ ففي أعلى المسار، واجهت أمرا تطلب منها استدعاء رباطة جأشها. فعندما تلفتت حولها تتبين الاتجاهات، اكتشفت أن ذلك الضريح مختلف عن المعلم الأصلي الذي سلكت عنده المسار المتعرج.
تلك المرة لم تضحك؛ إذ شعرت أن ذلك سيكون مبالغة في التندر. عوضا عن ذلك، شعرت بالحنق من نفسها. كانت تعتقد أنها تعرف تلك الجبال؛ لأنها جابت تلك الأخوار صعودا ونزولا مع أصدقائها، كقطيع من الماعز البري.
لكنها كانت مجرد تابعة يسوقها الآخرون، وهي وسط الجماعة كانت تتبع القائد الحتمي؛ ذلك الشاب الذي يحمل الخريطة.
لكن وحدها، لم يكن لديها أي فكرة عن اتجاهها. لم يكن أمامها سوى أن تتبع الخور صعودا حتى يتشعب مرة أخرى معتمدة على الحظ.
قالت مجادلة: «إن تابعت المسير فأصل حتما إلى مكان ما، كما أن من يسأل لا يتوه.»
كانت بحاجة لاستحضار جلدها؛ إذ كانت تشعر بإنهاك بالغ، بالإضافة إلى ألم كعبها الذي يعيق حركتها. عندما وصلت أخيرا إلى مفترق طرق خيرها بين عدة طرق، لم يكن لديها ثقة في حكمها كي تجرب. جلست على صخرة ملساء منتظرة الفرصة لأن تستوقف أي شخص يمر.
كانت لحظة فارقة في حياتها عندما أدركت أن استقلالها يتلخص فقط في قدرتها على توقيع الشيكات لصرف أموال جناها آخرون، وفي شعبيتها التي لم تكن سوى عائد لتلك الشيكات.
قالت في نفسها: «طوال حياتي كنت أنساق وراء الآخرين. حتى إن مر شخص من هنا، فأنا أسوأ خبيرة لغوية في العالم.»
كان في ذلك الوصف إطراء لها؛ إذ لا تملك أدنى حق في لقب خبيرة لغوية. كان جهلها باللغات الأجنبية هو نتيجة دراستها في باريس ودريسدن. خلال مدة دراستها بالمدرسة، لم تكن تخالط سوى الفتيات الإنجليزيات الأخريات، كما أن معلميها من أهل البلد كانوا يتقنون اللهجات الإنجليزية.
كان ذلك هو تفسيرها لمعنى البيت القائل: «امنحنا النصر.» في النشيد الوطني.
لكن الوطنية لم تعنها في الوقت الراهن؛ فقد ساورها القليل من الشك عندما أقبل رجل أسمر عريض المنكبين يرتدي سروالا قصيرا من الجلد وحمالات سروال ذات لون متسخ يسير متهاديا في المسار.
من بين أصدقاء آيريس، كان هناك شاب ماهر باللغات. من خلال معرفته بالجذور المشتركة بين اللغات، استطاع أن يستخدم اللغة الألمانية كلغة تواصل؛ لكنه كان يضطر لأن يستخدم مخيلته كي يفهم الآخرين ويجعلهم يفهمونه.
تذكرت آيريس بوضوح كيف كان أصدقاؤها يصيحون مستهزئين من محاولاته الفاشلة، عندما نادت على الرجل بالإنجليزية وطلبت منه أن يرشدها إلى القرية.
حملق بها، ثم رفع كتفيه وهز رأسه.
لم تلق محاولتها الثانية - التي تحدثت فيها بنبرة أعلى - نجاحا أكبر من سابقتها. شرع الفلاح الذي كان يبدو على عجلة من أمره في متابعة طريقه، لكن آيريس سدت طريقه.
أدركت عجزها الشديد، وشعرت كأنها كائن أعضب قطع لسانه، لكن كان عليها أن تجذب انتباهه، وأن تحمله على فهمها. شعرت أنها نزلت من مرتبة الإنسان العاقل، فاضطرت لأن تأتي بحركات إيمائية، مشيرة إلى الطرق البديلة واحدة تلو الأخرى، بينما تردد اسم القرية.
قالت في نفسها: «يجب أن يفهم ذلك، وإلا فهو غبي.»
بدا أن الرجل فهم مضمون ما تنشده؛ فقد أومأ برأسه عدة مرات، لكن عوضا عن الإشارة إلى اتجاه محدد، بدأ يتحدث بكلام غير مفهوم.
بينما كانت تصغي إلى سيل الأصوات الحنجرية، فقدت أعصابها فجأة، وشعرت أنها انقطعت عن جميع صور التواصل البشري، وكأنما محي خط حدودي، وانقطعت بها السبل في بقعة نائية من آسيا لا في أوروبا.
دون مال ودون لغة مشتركة، ربما تظل هائمة على وجهها للأبد. ربما هي الآن تسير مبتعدة عن القرية في طريقها إلى الأدغال. كان للخور العديد من الروافد الفرعية، مثل تعرجات بحر داخلي.
عندما بدأ الخوف يتملك منها بدأ وجه الفلاح يزيغ أمام عينيها وكأنها في كابوس. لاحظت أن جلده يلمع، وأن لديه حرقدة صغيرة؛ لكن أنفها التقطت رائحته الفائحة المشوبة برائحة الماعز؛ إذ كان يتعرق من أثر الصعود.
صاحت بهرع: «أنا لا أفهم كلمة واحدة مما تقول. توقف. أرجوك توقف. ستدفعني إلى الجنون.»
بدوره، لم يسمع الرجل سوى سلسلة من الكلمات غير المفهومة. كان يرى فتاة ترتدي ملابس الرجال، نحيلة على نحو غير جذاب - حسب معايير الجمال المحلية - ركبتاها متسختان ومجروحتان. وهي فتاة أجنبية، مع أنه لا يعرف جنسيتها. علاوة على ذلك، فهي منفعلة للغاية، وتتحدث بنبرة عالية عصبية، كما أنها شديدة الغباء.
إذ لم يبد أنها فهمت أن اسم القرية الذي تردده له لا يعدو حتى نصف الاسم، فيما هناك ثلاث قرى صغيرة مختلفة تبتدئ أسماؤها بالبادئة نفسها. شرح لها ذلك، وسألها عن الاسم كاملا.
حتى إن فهمت آيريس ما يقوله الرجل، لم تكن لتستطيع أن تخبره به؛ إذ إن اسم القرية كان ثقيلا للغاية على اللسان فلم تحاول أن تتبين نطقه كاملا، بل اكتفت بأول ثلاثة مقاطع منه كباقي رفقائها.
كان الوضع ميئوسا منه. للمرة الأخيرة قطب الفلاح وجهه وهز كتفيه، ثم مضى في طريقه تاركا آيريس وحدها وسط الجبال.
أحاطتها الجبال مثل خطر محدق. كانت قد اشترت بطاقات بريدية تحمل صورها وأرسلتها بعد أن كتبت عليها التعليق التقليدي: «منظر طبيعي خلاب.» حتى إنها كتبت على إحداها بعد أن رسمت صليبا هازئا فوق إحدى القمم: «تلك هي حجرتي.»
ها هي الجبال تأخذ ثأرها منها الآن. بينما انكمشت خوفا أسفل الأجراف الشاهقة، شعرت أن مجرد هزة في قممها الشامخة كفيلة بأن تسحقها إلى رماد تحت انهيار صخري. أشعرتها الجبال بالضآلة، ومحت تفردها، وأطفأت حماستها.
لكن أصواتا تتحدث بالإنجليزية جاءت لتكسر التعويذة. فمن وراء منحنى المسار، جاء الزوجان حديثا الزواج اللذان تعرفهما من الفندق.
كان هذان الحبيبان يحظيان باحترام الجميع حتى جماعة أصدقائها؛ لتحفظهما الشديد ومظهرهما البهي. كان الزوج طويلا ووسيما، وله مشية مهيبة، وصوت واثق، وكان يرفع رأسه لزاوية توحي بالفخر الزائد. كان النوادل يهرعون إليه عندما يومئ برأسه، وكان صاحب الفندق يخاطبه بلقب «سيدي» على الأرجح استنادا إلى تأجيره غرفة جلوس خاصة.
أما الزوجة فكانت تقترب منه في الطول، وكانت صاحبة قوام ممشوق ووجه لا تشوبه شائبة. كانت ترتدي ثيابا جميلة لا تناسب البرية على الإطلاق، لكن كان من الواضح أنها ترتديها بحكم العادة، وإرضاء لزوجها دون سواه.
كان لهما معاييرهما الخاصة، وكانا يتجاهلان النزلاء الآخرين، الذين سلموا بأنهما ينتميان إلى طبقة اجتماعية أعلى. كان يعتقد أن اسم «تودهانتر» المدون بسجل الفندق هو اسم مستعار استخدماه لإخفاء هويتهما الحقيقية.
مرا من أمام آيريس دون أن يلحظاها تقريبا. رفع الرجل قبعته بشرود، لكن لم يبد من نظرته أنه عرفها. أما زوجته فلم ترفع عينيها البنفسجيتين عن المسار الحجري؛ فقد كانت ترتدي حذاء ذا كعب عال.
كانت تتحدث بصوت خافت، لكنه مع خفوته حمل نبرة حادة. «لا يا عزيزي. لن أبقى يوما آخر، حتى إن كان من أجلك أنت. لقد مكثنا لوقت ...»
لم تسمع آيريس باقي العبارة. تأهبت للحاق بهما من مسافة بعيدة؛ إذ شعرت بخجل شديد من مظهرها المنهك.
أعاد إليها وصول العروسين شعورها بالقيمة؛ إذ كان وجودهما دليلا على أن الفندق ليس ببعيد، فهما لا يسيران قط لمسافات طويلة. تلك المعلومة جعلت الجبال تنكمش إلى حجمها بالصور، بينما عادت هي من شخص تائه إلى فتاة لندنية تعنى عناية شديدة بقصة سروالها القصيرة.
خلال وقت قصير تعرفت على الضريح الأصلي الذي تركت عنده المسار. نزلت في المسار بخطوات عرجاء، وعلى الفور لمحت التماعة البحيرة القاتمة وأضواء الفندق تتوهج من وراء صفحتها الخضراء القاتمة.
بدأت تفكر مرة أخرى في الحمام الدافئ والعشاء عندما تذكرت أنها مرهقة وجائعة.
كان واضحا أنه لم يتبق سوى الآثار الجسدية لمغامرتها، لكن حس الأمان لديها تلقى ضربة، في واقع الأمر، وكأن مغامرتها تلك كانت خطرا قادما من المستقبل ليكشف لها عن هول شعور العجز بعيدا عن كل ما هو مألوف.
الفصل الثالث
محادثة قصيرة
عندما عاد الزوجان حديثا الزواج إلى الفندق، كان النزلاء الأربعة الباقون يجلسون بالخارج في الساحة المرصوفة بالحجارة أمام الشرفة، يستمتعون بالزمن الفاصل المريح للأعصاب «بين الضوءين». كانت الأجواء معتمة بما لا يسمح بكتابة الخطابات أو المطالعة، لكن الوقت لا يزال مبكرا لارتداء ملابس العشاء. بدا من الأكواب الفارغة وبقايا الكعك على إحدى الطاولات أنهم احتسوا شاي ما بعد الظهيرة في الهواء الطلق ولم يتحركوا منذ ذلك الحين.
كان معتادا من اثنتين منهم، الآنستان فلود-بورتر، أن تستقرا في مكانهما. لم تكونا من النوع الكثير الحركة؛ كونهما قد بلغتا العقد الخامس من عمريهما، وتأقلمتا على قواميهما وكذلك عاداتهما. كان لكليهما شعر أشيب مموج منمق، احتفظ بشيء من لونه الأصلي كان كافيا ليمنح صاحبته لقب «شقراء» الشرفي. كانا يتشاركان أيضا بشرة صافية بطبيعتها وتعبيرات وجه حادة.
كانت ببشرة الأخت الكبرى الرقيقة - الآنسة إيفيلين - تجاعيد بسيطة؛ إذ إنها شارفت على الستين، بينما كانت الآنسة روز قد غادرت لتوها عقدها الرابع. كانت الأخت الصغرى أطول من أختها وأكثر امتلاء، وكان صوتها أعلى، ولون بشرتها أدكن. كانت في شخصيتها الممتازة مسحة تنمر ودية، جعلتها تميل إلى توبيخ أختها.
خلال زيارتهما، كونا فرقة رباعية مع القس كينيث بارنز وزوجته. كانوا قد جاءوا على القطار نفسه، وكانوا ينوون العودة إلى إنجلترا معا. كان القس وزوجته يتمتعان بهبة حسن العشرة، والتي أرجعتها الأختان - اللتان تفتقران إليها - إلى الأذواق والميول المشتركة.
كانت الساحة مفروشة بكراس وطاولات حديدية مطلية بألوان زاهية، وتزينها أحواض بها شجيرات دائمة الخضرة يكسوها الغبار. عندما تطلعت الآنسة فلود-بورتر حولها، تذكرت منزلها المبهج الذي يقع في مدينة ذات كاتدرائية.
حسبما تذكر الصحف، هطل المطر في إنجلترا؛ لذا ستكون الحديقة حتما في أبهى صورها، بعشبها الأخضر وسياجها الذي تغطيه أزهار الأسطر والأضاليا.
قالت: «أتطلع إلى رؤية حديقتي مجددا.»
قالت أختها فظة اللسان مصححة: «تقصدين حديقتنا.»
قال القس ضاحكا: «وأنا أتطلع إلى الجلوس في كرسي مريح. ها قد أتى الزوجان.»
على الرغم من اهتمامه العطوف برفقائه، لم يلق عليهما تحية ودية؛ إذ كان قد تعلم من محاولته الأولى - والأخيرة - أنهما يكرهان أي تدخل في خصوصياتهما؛ لذا استرخى في مقعده، ينفث دخان غليونه، وهو يراقبهما يصعدان سلالم الشرفة.
وقال بصوت يحمل استحسانا: «يا لهما من زوجين جميلين!»
قالت الآنسة فلود-بورتر معلقة: «أتساءل من هما حقا. وجه الرجل يبدو مألوفا بالنسبة لي. أنا واثقة أني رأيته من قبل في مكان ما.»
قالت أختها مقترحة: «ربما في فيلم سينمائي.»
قاطعتها السيدة بارنز بحماسة على أمل أن تجد اهتماما مشتركا آخر؛ إذ كانت تكن شغفا للسينما يشوبه الشعور بالذنب: «هل تذهبان إلى السينما؟»
ردت الآنسة فلود-بورتر مفسرة: «لا نذهب إلا لمشاهدة أفلام جورج آرليس وديانا وينيارد.»
قال القس: «هذا يحسم الأمر؛ فهو قطعا ليس جورج آرليس، ولا هي ديانا.» «لكني مع ذلك أشعر أن هناك أمرا غامضا يتعلق بهما.»
قالت السيدة بارنز موافقة: «وأنا كذلك. أتساءل، أتساءل إن كانا متزوجين حقا.»
سألها زوجها مباغتا: «ماذا عنك؟»
ثم ضحك ضحكة ودودة عندما احمر وجه زوجته خجلا. «آسف على مباغتتك يا عزيزتي، لكن أليس من الأسهل أن نفترض كوننا جميعا ما ندعيه؟ حتى القسيسين وزوجاتهم.» نفض الرماد من غليونه، ثم نهض من كرسيه. «أظن أنني سأتمشى حتى القرية لأتحدث قليلا إلى أصدقائي.»
سألت الآنسة روز بفظاظة بعد أن غادر القس الحديقة: «كيف سيتحدث إليهم وهو لا يعرف لغتهم؟»
أجابت زوجته بفخر: «هو يحملهم على فهمه. بالتعاطف كما تعرفين، وبالإنسانية المشتركة. لن يمانع ملامسة أنفه بأنف رجل بدائي تحية له.»
قالت الآنسة فلود-بورتر: «أخشى أننا دفعناه للمغادرة بحديثنا عن الفضائح.»
قالت السيدة بارنز: «كان ذلك خطئي. أعرف أن الناس يحسبونني فضولية، لكني في الواقع أضطر لأن أحمل نفسي على إبداء الاهتمام بشئون جيراني؛ فذلك بمثابة احتجاج مني على الخجل العارم لدى أبناء وطننا.»
قاطعتها الآنسة روز: «لكننا نعتز بذلك؛ فإنجلترا لا تحتاج إلى الدعاية لنفسها.» «بالطبع، لكننا لن نمر من هنا سوى مرة واحدة، ويجب أن أذكر نفسي أن الغريب الجالس بجواري ربما يكون واقعا في ورطة ما وربما أستطيع مساعدته.»
نظرت إليها الأختان نظرة استحسان. كانت امرأة نحيلة في منتصف الأربعين، ذات وجه بيضاوي شاحب، وشعر داكن، وملامح عذبة. كان الصدق والطيبة يطلان من عينيها البنيتين الواسعتين، وكانت مخلصة في أفعالها.
كان من المستحيل أن يرتبط اسمها إلا بالنزاهة المطلقة. كانتا تعرفان أنها تتكبد عناء الاسترسال في الشرح، خشية أن تخاطر بإعطاء انطباع خاطئ.
وهي بدورها، كانت معجبة بالأختين؛ فهما سيدتان ذواتا مكانة مرموقة ولا غبار على احترامهما. يشعر المرء أنهما ستؤديان دورهما في لجان المحلفين بتميز، وتؤديان واجبهما تجاه الرب وتجاه جيرانهما، دون أن تسمحا لأحد بإعطائهما توجيهات تخص طبيعة ذلك الدور.
كانتا أيضا تنعمان بحياة رغيدة؛ إذ تملكان منزلا رائعا بحديقة، ولديهما خادمات مدربات جيدا، وأصول مجمدة في البنك. كانت السيدة بارنز تعلم ذلك؛ لذا كونها بشرا، شعرت بالأفضلية عندما فكرت أن الرجل الوحيد في جمعهم هو زوجها.
كانت تقدر شعور التملك ذلك؛ لأنها وحتى عيد مولدها الأربعين، كانت تقضي عطلتها السنوية برفقة زمرة من النساء العزباوات الأخريات. منذ أن أنهت دراستها المدرسية، كانت تكسب عيشها من الاشتغال بالتدريس، حتى حدثت المعجزة التي لم تمنحها زوجا فحسب، بل منحتها ابنا أيضا.
كانت هي وزوجها مغرمين بطفلهما لدرجة كانت تجعل القس يخشى أحيانا أن حبهما الشديد له قد يطمع فيه القدر. في الليلة التي سبقت مغادرتهما لقضاء عطلتهما، عرض عليها اتفاقا.
قال موافقا، وهو ينظر إلى الطفل الغافي في مهده: «أجل، هو طفل جميل، لكني أشرف بقراءة الوصايا العشر للناس. وأتساءل أحيانا ...»
قاطعته زوجته قائلة: «أعرف ما تعنيه. الوثنية.»
أومأ برأسه.
وقال معترفا: «أنا مذنب مثلك؛ لذا أنوي أن أؤدب نفسي. مقامنا بين الناس يتيح لنا فرصا مميزة للتأثير على الآخرين. يجب ألا نحيد عن الطريق، بل علينا أن نرتقي بشتى جوانب طبيعتنا البشرية. إن كانت تلك الرحلة فستفيدنا بشيء ، فسيكون ذلك تغييرا ذهنيا تاما يا عزيزتي، ما رأيك أن نتفق على ألا نقتصر في حديثنا عن جابريال أثناء رحلتنا؟»
وافقته السيدة بارنز، لكن الوعد الذي قطعته لم يمنعها من التفكير فيه طوال الوقت. تركاه في رعاية جدته الكفء، لكنها مع ذلك كانت قلقة على صحته لدرجة جنونية.
فيما كانت تعد الساعات المتبقية على رجوعها لابنها، وفيما كانت الآنسة فلود-بورتر تبتسم متطلعة لرؤية حديقتها، كانت الآنسة روز تتابع تسلسل أفكارها الأصلي؛ فهي دائما ما تظل تفتش وراء الحقائق حتى تكشفها.
قالت: «أنا لا أفهم كيف يمكن للمرء أن يكذب، إلا إن كان شخصا مسكينا يخشى أن يطرد من عمله. لكن ... أمثالنا! نعرف امرأة ثرية تتباهى بتقديم إقرارات غير حقيقية في المراكز الجمركية. ذلك انعدام مطلق للأمانة.»
بينما هي تتحدث، ظهرت آيريس عند بوابة حديقة الفندق. بذلت قصارى جهدها كي تتفادى الجمع الجالس حول الطاولة، لكنها لم تستطع تفادي سماع ما يقال.
علقت السيدة بارنز بصوتها الواضح الواثق الذي يميز مدرسات الصفوف: «لم تراودني رغبة في الكذب يوما.»
قالت آيريس في نفسها: «كاذبة.»
كانت في حالة من الإنهاك البالغ تنذر بالانهيار. كانت قد استجمعت كل ذرة إرادة كي تحمل نفسها على الوصول إلى الفندق. أثارت تلك المحنة أعصابها حد الانهيار. ومع أنها كانت تتوق إلى سكون غرفتها، كانت تعرف أنها لا تقوى على صعود الدرج دون استراحة قصيرة. كانت كل عضلة في جسدها تئن عندما ألقت بنفسها على أحد الكراسي الحديدية وأغمضت عينيها.
قالت في نفسها: «إن تحدث أحد فسأنهار.»
تبادلت الأختان فلود-بورتر النظرات وبرمتا شفتيهما امتعاضا، حتى عينا السيدة بارنز الودودتان لم تحملا لها أي ترحيب؛ إذ إنها وقعت ضحية لسلوكيات جماعتها السيئة وأنانيتهم.
كانوا يتصرفون كأنهم أصحاب الفندق، وكأن النزلاء الآخرين مجرد متطفلين، وكانوا يصرون على تلقي معاملة خاصة يحصلون عليها بالرشوة. أثار ذلك التمييز في المعاملة حنق السائحين الآخرين؛ لأنهم كانوا قد التزموا ببنود التكاليف التي دفعوها لوكالة سفر، والتي تتضمن الخدمة.
استأثرت الزمرة بطاولة البليارد وكانوا يحتلون أفضل مقاعد، وكانوا أول من يأتيهم الطعام أثناء الوجبات، وتقدم لهم الأصناف، يحظون بمياه دافئة للاستحمام.
حتى القس شعر أن حلمه قد نفد. كان يبذل قصارى جهده كي يلتمس العذر للشباب الطائش، مع أنه كان يدرك أن عدة أشخاص من ذلك الجمع لا يصنفون شبابا.
مع الأسف، كانت جماعة أصدقاء آيريس المزعومين تتضمن شخصين يسيئان إلى صورة الشعب الإنجليزي. ولأنه يصعب تمييز فتاة عن أخرى وهن يرتدين ملابس السباحة، كانت السيدة بارنز ترى أنهن جميعا يفعلن الشيء نفسه؛ يثملن ويزنين.
كن يخللن جميعا بمعاييرها للأدب بتشمسهن، ويقلقون مضجعها بصخبهن؛ لذا كانت ممتنة للغاية لقضاء يومين هادئين، وسط الطبيعة الخلابة والرفقة الودودة.
لكن على ما يبدو، لم يغادر الجمع كله؛ إذ تبقى بعض منهم، فها هي تلك الفتاة لا تزال هنا، وربما هناك غيرها. كانت السيدة بارنز تتذكر آيريس بإبهام؛ لجمالها، ولأن رجلا بدينا ممن يسبحون كان يسعى خلفها.
كان الرجل متزوجا؛ لذا كان اختياره لها في غير صالحها، لكنها بدت مرهقة لدرجة جعلت قلب السيدة بارنز الحنون يؤنبها على عدم إشفاقها عليها.
نادتها قائلة بنبرة مبتهجة للغاية: «هل تركت بمفردك تماما؟»
جلعت محاولة التقرب غير المتوقعة تلك آيريس ترتعد. في تلك اللحظة، كان آخر ما تحتاج إليه هو أن تحظى باهتمام شخص بالغ، والذي حسب خبرتها يخفي وراءه فضولا.
أجابت: «أجل.» «يا إلهي، يا له من أمر مؤسف! ألا تشعرين بالوحدة؟» «كلا.» «لكنك صغيرة جدا على السفر دون رفقاء. ألم يكن بوسع أحد من أهلك مرافقتك؟» «ليس لي أهل.» «ليس لديك أي عائلة على الإطلاق؟» «كلا، وليس لي أقارب. أولست محظوظة؟»
لم تكن آيريس قريبة بما يكفي لسماع شهقة الاندهاش التي صدرت من الأختين فلود-بورتر، لكن صمت السيدة بارنز أخبرها بأن فظاظتها آتت بثمارها. تجنبا لأي محاولات استجواب إضافية، بذلت جهدا عظيما للنهوض؛ إذ كانت جميع مفاصلها متيبسة، ونجحت في أن تجر نفسها إلى داخل الفندق ثم إلى غرفتها بالطابق العلوي.
حاولت السيدة بارنز أن تتخطى تلك الواقعة بالضحك.
قالت: «أخشى أن أكون قد ارتكبت حماقة أخرى. من الواضح أنها كرهتني، لكني شعرت أن ليس من الإنسانية أن نجلس كالتماثيل دون أن نبدي أي اهتمام بها.»
سألتها الآنسة روز: «وهل أبدت هي أي اهتمام بك؟ أو بنا؟ هذا النوع من الفتيات شديد الأنانية. لن تحرك ساكنا أو تحيد عن طريقها قيد أنملة لمساعدة أي شخص.»
لم يكن لذلك السؤال سوى إجابة واحدة، لم تسمح طيبة قلب السيدة بارنز لها بالإفصاح عنها؛ لذا كتمتها بداخلها؛ إذ ليس بوسعها أن تكذب.
لم يكن بوسعها هي أو غيرها التبصر بأحداث الأربع والعشرين ساعة القادمة، التي ستكابد خلالها تلك الفتاة - التي ستقف وحدها في وجه حشد من الشهود - عذابا نفسيا يهدد سلامة قواها العقلية من أجل امرأة غريبة لا تكن لها أي مشاعر شخصية.
هذا إن كان هناك وجود للآنسة فروي.
الفصل الرابع
إنجلترا تنادي
لأن لديها مربعا على راحة يدها، وهو دلالة على الحماية حسبما قالت لها عرافة، كانت آيريس تعتقد أنها تنعم بمساحة من الأمان، مع أنها ضحكت عندما أخبرتها بذلك. كانت تشعر بالانبهار خفية، لأنها كانت تحيا حياة مصونة من الخطر.
في تلك الأزمة، شعرت أن النجوم تتبارى من أجلها كالعادة. كانت الجبال قد أرسلت لها إنذارا أوليا. أثناء تلك الأمسية أيضا، تلقت بضع مفاتحات للرفقة التي ربما كانت لتنتشلها من عزلتها الذهنية.
لكنها قطعت عن عمد كل خيط يربطها ببر الأمان؛ بدافع وفائها المغلوط لأصدقائها.
فور أن دلفت إلى الردهة الساكنة الخاوية، شعرت بأنها تفتقدهم. أثناء سيرها في الرواق، مرت بغرف نوم خاوية، بسرائرها العارية وأرضياتها التي بعثرت فوقها المهملات. كانت المراتب تتدلى من كل نافذة، والوسائد مكومة في الشرفات الصغيرة.
لم تكن الرفقة وحدها هي ما ينقصها، بل افتقدت الدعم المعنوي كذلك. لم يتكبد أصدقاؤها عناء تغيير ملابسهم أثناء السهرة، إلا إن دعت الراحة إلى ارتداء السراويل الصوفية. في إحدى المرات، حققوا انتصارا بأن قدمت ضدهم شكوى، عندما حضرت سيدة إلى طاولة العشاء وهي ترتدي سروال السباحة.
كان مقدما الشكوى هما الأختان فلود-بورتر، اللتان كانتا دوما ترتديان فساتين سهرة باهظة الثمن، لكن وقورة، أثناء العشاء. تذكرت آيريس تلك الواقعة بعد أن فرغت من الاستحمام. شعرت بشيء من الخجل لإذعانها للرأي العام، لكنها بحثت في حقيبة سفرها عن ثوب سهرة من قماش الكريب المجعد لم تكن قد أخرجته منها.
جدد الحمام الدافئ والراحة نشاطها، لكنها شعرت بالوحدة وهي تقف مستندة إلى سور الشرفة. لفتت وقفتها المتأملة وثنايا ثوبها الانسيابية انتباه الزوج - المدعو تودهانتر حسب سجل زوار الفندق - بينما كان يسير خارجا من غرفة نومه.
لم يكن لديه أدنى فكرة عن هويتها، أو أنه كان بمثابة نجم استرشدت به في الوادي. كان يتناول هو وزجته وجباتهما في غرفة جلوسهما الخاصة، ولم يخالطا عامة النزلاء قط؛ لذا استنتج أنها نزيلة وحيدة فاته أن يراها وسط التجمعات العامة.
استحسنتها عيناه الخبيرتان فتوقف.
وقال معلقا: «الأجواء هادئة الليلة. وهو تغيير جيد بعد صخب جماعة الغوغاء المريعة تلك.»
لدهشته، نظرت إليه الفتاة ببرود.
وقالت: «الأجواء هادئة حقا، لكني أفتقد أصدقائي.»
بينما كانت في طريقها إلى الأسفل، شعرت بالسعادة لأنها جعلته يدرك خطأه؛ فمناصرتها لأصدقائها كانت أهم من غياب الاجتماعيات. لكن مع انتصارها، كانت تلك الواقعة بغيضة نوعا ما.
كان عدم شعبية الجماعة مصدر زهو لها؛ إذ كان دلالة على الأفضلية نوعا ما. كانوا كثيرا ما يرددون بنبرة عجب بالذات: «نحن لا نروق لهؤلاء القوم.» أو «هؤلاء الناس يبغضوننا حقا.» حين كانت آيريس واقعة تحت تأثير التنويم الإيحائي الجماعي وسطهم، لم ترغب في أن تنعت بأي وصف آخر. لكن الآن وقد صارت بمفردها، لم يكن من المبهج أن تدرك أن النزلاء الآخرين، الذين من المفترض أنهم محترمون ودمثو الأخلاق، يعتبرونها دخيلة.
كانت في مزاج كئيب ومتمرد عندما دلفت إلى المطعم. كان غرفة مكشوفة كبيرة كسيت جدرانها بورق حائط ذي لون أزرق داكن منقوش بالنجوم المذهبة التقليدية. كانت المصابيح الكهربائية مثبتة في ثريات رديئة مصنوعة من الحديد المطاوع؛ مما كان يعطي إيحاء بأنه موقع تصوير لفيلم هوليوودي تقع أحداثه داخل قلعة من العصور الوسطى. لم تكن هناك سوى طاولات قليلة معدة، ولم يكن هناك سوى نادل واحد وقف منزويا عند الباب.
في غضون أيام قلائل، سيغلق الفندق أبوابه استعدادا لموسم الشتاء. فبعد مغادرة الحشد الإنجليزي الضخم، صار معظم أفراد طاقم خدمة موسم العطلات زائدين عن الحاجة، وكانوا بالفعل قد عادوا إلى منازلهم في المقاطعة.
لا يبدو أن النزلاء الباقين تأثروا بأجواء الإهمال والعزلة التي تلازم نهاية الموسم. تشاركت الأختان فلود-بورتر مائدة مع القس وزوجته. كانوا في مزاج رائع، وبدا أن علاقتهم توطدت؛ إذ كانوا ينهي أحدهم نكات الآخر المنتقاة من مجلة «بانش».
اختارت آيريس متأففة طاولة صغيرة في ركن بعيد، وجلست تدخن سيجارة فيما كانت تنتظر أن يقدم إليها الطعام. كان الآخرون قد بدءوا بالفعل تناول طعامهم، وكان شعور مستجد على أحد أفراد الحشد أن يكون ضمن المتأخرين.
نظرت إليها السيدة بارنز، التي لم يسمح لها كرم أخلاقها بأن تضمر لها البغض لفظاظتها، نظرة إعجاب، وقالت: «كم تبدو تلك الفتاة جميلة وهي ترتدي ثوبا!»
قالت الآنسة فلود-بورتر محددة: «ثوب ما بعد الظهيرة. نحن نحرص دائما على ارتداء ثوب سهرة على العشاء عندما نكون في أي مكان داخل أوروبا.»
قالت الأخت الصغرى مفسرة: «إن لم نتأنق في ملابسنا، فسنشعر أننا خذلنا إنجلترا.»
مع أن آيريس تناولت وجبتها على مهل شديد، اضطرت لأن تعود في النهاية إلى الردهة. كانت منهكة بما لا يسمح لها بالتنزه سيرا على الأقدام، وكان الوقت مبكرا على النوم. عندما نظرت حولها، كادت لا تصدق أنه منذ ليلة واحدة فحسب، كان المكان يعمه التألق والبهجة الأوروبيان. مع أن تلك الصفة الأخيرة جاءت معهم من إنجلترا. أما الآن وهي تخلو من الأصدقاء، فقد أثار دهشتها أن لاحظت زينتها التصنعية الرديئة. كانت الكراسي المذهبة المصنوعة من الخيزران قد فقدت بريقها، وكان البلى قد أصاب المفروشات والستائر المخملية القرمزية.
شعرت بغصة في حلقها عندما رأت كومة من أعقاب السجائر وأعواد الثقاب المستهلكة داخل أصص النخيل. كان ذلك هو كل ما تركته زمرة أصدقائها من أثر.
فيما جلست بعيدة، راقبها القس وهو يضع غليونه في فمه قاطبا حاجبيه بتأمل. كان وجهه ذو الملامح المميزة ينم عن القوة ورهافة الحس، ومزيج مثالي من المادية والروحانية. كان يشارك شباب أبرشيته لعب كرة القدم الخشنة، وبعدها يأسر نفوسهم، وكان لديه تفهم حقيقي لمشكلات نساء أبرشيته.
عندما أخبرته زوجته عن رغبة آيريس في العزلة، استطاع أن يتفهم شعورها؛ إذ كان يتوق في بعض الأحيان إلى الهروب من الناس جميعا حتى زوجته. كان يميل إلى تركها لعزلتها المضجرة، لكن قلبه رق لحالها عندما رأى الهالات السوداء تحت عينيها، والحزن الذي ارتسم على شفتيها.
في نهاية المطاف، قرر أن يكابد صدها الجافي له في سبيل إراحة ضميره. كان يعلم أنه سيلقاه؛ إذ رفعت بصرها إليه بسرعة تأهبا عندما رأته يقطع الردهة.
قالت في نفسها: «ها هو واحد آخر.»
من بعيد، كانت معجبة بروحانية تعبيرات وجهه، لكنها الليلة كانت تعده ضمن ناقديها العدائيين. «جماعة من الغوغاء المريعين.» حضرت تلك الكلمات في ذاكرتها فيما كان يتحدث إليها. «إن كنت ستعودين إلى إنجلترا وحدك، فهل تودين مرافقتنا؟»
سألته: «متى سترحلون؟» «بعد غد، قبل أن ينطلق القطار المباشر الأخير لهذا الموسم.» «لكني راحلة غدا. شكرا جزيلا لك.» «إذن، أتمنى لك رحلة سعيدة.»
ابتسم القس من قرارها السريع وهو يقطع الردهة ليجلس إلى طاولة ويبدأ في عنونة ملصقات أمتعة السفر.
استغلت زوجته فرصة غيابه. رغبة منها في الوفاء بوعدها، ذهبت إلى النقيض فلم تأت على ذكر طفلها لصديقتيها إلا مرة واحدة عندما ذكرت في معرض كلامها: «ولدنا الصغير». لكن الآن وقد قاربت العطلة على نهايتها، لم تستطع مقاومة إغراء عرض صورة فوتوغرافية له كانت قد فازت في مسابقة أطفال محلية.
نظرت لزوجها الذي يجلس موليها ظهره وهي تشعر بالذنب، وأخرجت من حقيبتها حافظة من الجلد المرن.
وقالت وهي تحاول إخفاء فخرها: «هذا هو ابني الضخم.»
كانت الأختان فلود-بورتر من محبي الحيوانات فقط، ولم تكونا تحبان الأطفال كثيرا، لكنهما ردتا بكل العبارات اللائقة وبأسلوب مقنع مهذب جعل قلب السيدة بارنز يمتلئ زهوا.
لكن الآنسة روز تطرقت إلى موضوع آخر على إثر عودة القس من طاولة الكتابة.
سألته: «هل تؤمن بالأحلام التحذيرية يا سيد بارنز؟ فقد رأيت أمس في الحلم حادث قطار.»
جذب السؤال اهتمام آيريس وحاولت جاهدة سماع رد القس.
قال: «سأجيب عن سؤالك إن أجبت أنت عن سؤالي. ما هو الحلم؟ هل هو توجس مكبوت؟»
سمعت آيريس صوتا مبتهجا يقول في أذنيها: «ترى، هل تودين رؤية صورة ولدي الصغير جابريال؟»
أدركت آيريس ساهية أن السيدة بارنز - التي كانت تحافظ على المظاهر الإنجليزية بارتدائها فستانا من الدانتيل البني الناعم - كانت قد جلست إلى جوارها وأظهرت لها صورة لطفل رضيع عار.
تظاهرت بالنظر إليها فيما حاولت الاستماع لما يقوله القس.
كررت ساهية: «جابريال.» «أجل على اسم كبير الملائكة. لقد أسميناه تيمنا به.» «كم هذا لطيف! هل أرسل لكما طفلا أخرق؟»
اتسعت عينا السيدة بارنز باستنكار، واحمر وجهها المرهف. ظنت أن الفتاة أساءت إلى الدين وأهانت صغيرها العزيز متعمدة بدافع الثأر من الملل، فزمت شفتيها المرتعشتين غيظا وانضمت لصديقتيها.
شعرت آيريس بالامتنان عندما توقفت الهمهمة في أذنيها. لم تدرك زلة لسانها؛ فهي لم تسمع سوى جزء صغير من شرح السيدة بارنز. كان اهتمامها لا يزال منصبا على النقاش الدائر حول الهواجس.
قالت الآنسة روز طارحة وجهة نظر القس جانبا: «قل ما شئت، فالمنطق إلى جانبي. هم يحاولون عادة حشر عدد زائد من الركاب في آخر قطار فاخر في الموسم. أعلم أني سأكون سعيدة للغاية عندما أصل سالمة إلى إنجلترا.»
فور أن نطقت بتلك الكلمات، حامت روح التوجس في الأجواء من حولهم.
صاحت السيدة بارنز وهي تحكم قبضتها على صورة جابريال: «هل تخشين بالفعل وقوع حادث؟»
أجابت الآنسة فلود-بورتر نيابة عن أختها: «كلا بالطبع، لكننا ربما نشعر أننا في مكان منعزل عن العالم هنا، وأننا نبعد كثيرا عن أرض الوطن. والمشكلة أننا لا نعرف كلمة واحدة من اللغة المحلية.»
قاطعتها الآنسة روز قائلة: «نحن لا نواجه أي مشكلة في الحجوزات وقسائم الشراء ما دمنا نلزم الفنادق والقطارات، لكن إن وقع حادث اضطرنا لأن نقطع رحلتنا، أو فاتتنا وسيلة مواصلات، أو شردنا في مكان صغير، فسنشعر بالتيه. علاوة على أن الأمور المالية ستكون مربكة؛ إذ لم نحضر معنا أي شيكات مسافرين.»
اقتربت الأخت الكبرى من القس.
سألته قائلة: «هل تنصحنا باعتبار حلم أختي تحذيرا من السفر غدا.»
تمتمت آيريس بصوت خافت: «لا، لا تفعلا ذلك.»
انتظرت إجابة القس باهتمام مشوب بالألم؛ إذ لم تكن تتطلع للسفر على متن القطار نفسه مع هؤلاء الأشخاص المختلفين عنها، والذين قد يشعرون أن من واجبهم مصادقتها.
قال القس: «افعلا ما تميلان له. لكن إن غادرتما قبل الميعاد، فسيكون ذلك انتصارا للخرافات، كما أنكما ستحرمان نفسيكما من يوم آخر في ذلك المكان البديع.»
قالت الآنسة روز معلقة: «كما أن حجوزاتنا بتاريخ بعد غد. من الأفضل ألا نخاطر بحدوث أي تعقيدات. والآن سأذهب لأحزم أمتعتي لرحلة العودة إلى وطني العزيز إنجلترا.»
لدهشة الجميع، طغت نبرة انفعال فجأة على صوتها المتسلط. تريثت الآنسة فلود-بورتر حتى غادرت أختها الردهة، ثم قالت مفسرة: «إنه التوتر. لقد تعرضنا لتجربة مرهقة للغاية قبل أن نأتي إلى هنا. أمر الطبيب بتغيير كامل، فجئنا إلى هنا بدلا من سويسرا.»
بعد ذلك أتى صاحب الفندق، وقلب محطات المذياع حتى نجح في التقاط محطة لندن على الموجة الترددية العالية في مجاملة لنزلائه. وسط التشويش الإذاعي، أخبرهم صوت عذب مألوف: «كنتم تستمعون إلى ...»
لكنهم لم يكونوا يستمعون إلى شيء.
كانت الآنسة فلود-بورتر تتخيل حديقتها تحت بريق قمر الحصاد الفضي. تساءلت إذا ما كانت براعم الأقحوان التي زرعت منها ثلاثة في كل أصيص قد تفتحت، وإذا ما نجت زهرات الميرمية من الحلزونات.
بينما كانت الآنسة روز تضع أحذيتها بسرعة في قاع إحدى الحقائب، سرت في جسدها قشعريرة عندما تذكرت أمرا؛ إذ رأت مرة أخرى حفرة واسعة في أحد مراقد الأزهار بالحديقة، كانت تستقر فيها كومة من أزهار الدلفينيون العزيزة عليها منذ ليلة. لم تكمن المشكلة في خسارة كنزهما فحسب، بل أيضا في عدم معرفة أين سيضرب العدو المرة القادمة، وهو أمر مرهق للأعصاب.
وكان القس وزوجته يفكران في طفلهما النائم في مهده. عليهما أن يقررا إذا ما كانا سيسترقان النظر إليه فحسب، أم سيخاطران بإيقاظه بقبلة.
أما آيريس فتذكرت أصدقاءها وهم يغادرون في القطار السريع الهادر، وفجأة لطمتها موجة من الحنين إلى الوطن.
كانت إنجلترا تنادي.
الفصل الخامس
قطار الليل السريع
استيقظت آيريس تلك الليلة كالعادة، على هدير القطار وسط العتمة. قفزت من سريرها، وبلغت النافذة في الوقت المناسب لرؤيته يلف منحنى البحيرة بشريط ناري. بينما كان يمر مقعقعا من أمام الفندق، تمددت اللطخة الذهبية لتصير سلسلة من النوافذ المضاءة، التي التحمت مجددا مثل حلقات سوار بمجرد أن مر.
بعد أن اختفى وراء منعطف الوادي، تتبعت مساره عن طريق سحابة الدخان الأحمر الكثيف المتراقص المتصاعد منه. ورأته في مخيلتها يمرق عبر أوروبا، وكأنه مكوك سريع يخترق نسيج الخريطة الملتهب، يلتقط المدن ويسلكها في خيط متوهج مارق. مرت أمام عينيها في لمح البصر أسماء مدن مضاءة ثم اختفت؛ بوخارست، ذاغرب، ترييستي، ميلان، بازل، كالييه.
اجتاحتها مجددا موجة من الحنين إلى الوطن، مع أن عنوانها المستقبلي سيكون فندقا، جالبة معها عاصفة من التشاؤم؛ ذلك الإرث الذي تركته لها الجبال. «ماذا إن وقع أمر ما ولم أتمكن من العودة أبدا؟»
في تلك اللحظة، شعرت أن أي شكل من أشكال الشر قد يعوق طريق عودتها. حادث قطار أو مرض أو جريمة كلها احتمالات قائمة من المنتظر بالفعل أن تقع لآخرين. كانت تحدث حولها في كل مكان، وربما ينقطع خط في مربع الحماية المرسوم على راحة يدها في أي وقت.
فيما كانت مستلقية تتقلب في فراشها، سلت نفسها بتذكر أن تلك ستكون آخر مرة تبيت في ذلك الفراش غير المستوي المصنوع من الريش. وخلال الليلتين القادمتين، ستنطلق هي أيضا وسط الطبيعة المظلمة، وسيبطل أي تعويذة خاطفة للنوم وميض الأضواء كلما مر القطار السريع بمحطة.
لازمتها الفكرة عندما استيقظت في الصباح التالي كي تتطلع إلى ظل قمم الجبال المكسوة بالثلوج لقاء ضوء الشروق الأحمر.
قالت لنفسها بابتهاج: «اليوم، أرحل إلى وطني.»
كان الهواء باردا نديا عندما تطلعت من نافذة غرفتها، وكان الضباب يرتفع من البحيرة التي التمعت صفحتها الخضراء من وراء أوراق أشجار الكستناء المصفرة التي يحركها الهواء، لكنها لم تكترث إلى جمال اللونين الأزرق والذهبي البديع للخريف اللذين كسوا الطبيعة.
ولم تبال أيضا بنواقص غرفتها التي كانت عادة تكدر ذوقها الانتقادي. كانت جدرانها الخشبية مطلية بدرجة رديئة من اللون الأحمر المائل إلى الاصفرار. وعوضا عن المياه الجارية، كان هناك حوض عليه علبة من القصدير تغطيها منشفة رقيقة.
معنويا، كانت آيريس قد غادرت الفندق بالفعل، وابتدأت رحلتها قبل أن تنطلق فيها. عندما نزلت إلى المطعم، كانت تكاد لا تشعر بوجود النزلاء الآخرين، الذين شعرت بالنفور تجاههم منذ بضع ساعات فقط.
كانت الأختان فلود-بورتر، اللتان ارتديتا ملابس تناسب كتابة الخطابات في الهواء الطلق، تتناولان طعام الإفطار على طاولة بجوار النافذة. لم تتحدثا إليها، مع أنهما كانتا لتومئان برأسيهما تحية لها إن التقت عيناهما بعينيها من باب الكياسة.
لم تلاحظ آيريس أنهما لم يفعلا؛ فقد خرجتا من حياتها تماما. احتست قهوتها في صمت لا يقطعه سوى تعليقات الأختين من حين لآخر، متسائلتين إذا ما كان الطقس في إنجلترا قد ترفق بحفل زفاف عسكري محلي.
ظل الحظ ملازما لها؛ إذ أعفاها من التواصل مع النزلاء الآخرين، الذين كانوا منهمكين في شئونهم الخاصة. أثناء مرورها من أمام مكتب الاستقبال، كانت السيدة بارنز تلفت انتباه نادل إلى خطاب موضوع في أحد كوات الرسائل. كانت حلتها الرمادية المصنوعة من القماش الناعم وكذلك رزمة الشطائر التي تحملها تدلان على ذهابها في نزهة.
كان القس الذي كان يملأ غليونه في الشرفة يرتدي ملابس غير تقليدية أيضا؛ سروالا قصيرا، وسترة، وحذاء تسلق، وقبعة محلية مصنوعة من اللباد تزينها ريشة زرقاء صغيرة كان قد اشتراها تذكارا لعطلته .
كانت تعلو وجهه ابتسامة سعيدة للغاية، حتى إن آيريس شعرت أنه يبدو مبتهجا وصالحا في آن واحد، مثل قديس اعوجت هالته وهو يترك ضريحه ليكسب جلده الشاحب لونا برونزيا من الشمس.
تلاشى تسامحها عندما آل إلى مسامعها حوار كان مقدرا له أن يؤثر على مصيرها.
قال القس مناديا: «هل هذا خطاب من الوطن؟»
ردت زوجته بعد برهة من الصمت: «أجل.» «اعتقدت أن الجدة أخبرتنا ألا ننتظر منها خطابات أخرى. ماذا تقول في خطابها؟» «تريدني أن أشتري لها بعض الأشياء من لندن في طريق عودتنا؛ بعض الحرير من نوع «مارجريت روز». الأميرة الصغيرة كما تعلم.» «لكنك ستكونين مرهقة. ذلك طلب لا مراعاة فيه.»
قالت السيدة بارنز بنبرة حادة للغاية: «كلا، بل هو كذلك. لماذا لم تفكر في ذلك؟»
تغاضت آيريس عن سلوكها الفظ ليلة أمس، وتركتهما يتابعان نقاشهما. أخبرت نفسها أنه محق في محاولة إعفائها من المهام المنزلية المملة التافهة.
فيما كانت تمر من أمام الفندق، اضطرت لأن تتراجع كي تتجنب التعدي على خصوصية الزوجين الحديثين، اللذين كانت غرفة جلوسهما مفتوحة على الشرفة. كانا يتناولان إفطارهما المكون من الخبز والفاكهة في الهواء الطلق. كان الرجل يبدو متألقا في ثوب منزلي صيني، وكانت زوجته ترتدي دثارا أنيقا فوق منامة من الحرير.
كان الزوجان تودهانتر يثيران حنق آيريس؛ لأنهما يجعلانها تشعر بسخط غير مفهوم. كانت تشعر بالفراغ نفسه الذي تحاول تجاهله عندما تشاهد مشهدا عاطفيا بين ممثل وممثلة في فيلم ما. كان حبهما يطل في أبهى ثيابه منقحا بحصافة، ولا يظهر أمام الكاميرا إلا أفضل جوانبه.
شعرت بحماسة عندما نظر الرجل في عيني زوجته باهتمام شخصي بالغ وسألها: «هل كانت العطلة مثالية؟»
كانت السيدة تودهانتر تعلم بالضبط لكم من الوقت يجب أن تظل صامتة قبل أن تجيب عن سؤاله. «أجل.»
كان توقيت ردها مثاليا؛ إذ استشف منه ما لم تقله صراحة.
قال معقبا: «لم تكن مثالية إذن. حبيبتي، لكن هل ...»
غاب صوتهما عن أذني آيريس، فيما كانت لا تزال تشعر بشيء من الحسد . كانت تجربتها مع الحب مجرد سلسلة من المواقف التي انتهت إلى تمثيلية خطبتها.
شعرت أن النهار لن ينتهي، لكنه أخيرا أخذ في التلاشي. لم يكن معها الكثير من المتاع لتحزمه، فاتباعا للعرف، أخذ أصدقاؤها معهم الجزء الأكبر من أمتعتها تيسيرا عليها. أضاعت أو بالأحرى أغرقت بضع ساعات من وقتها في البحيرة، لكنها كانت متعجلة فلم تستلق في الشمس.
بعد أن بدلت ملابسها استعدادا لرحلة السفر، نزلت إلى المطعم. كان طبق اليوم مغطى بالهلام بطريقة جذابة ومزينا بأعواد الطرخون والسرفيل والبيض المفروم، لكنها ظنت أنه مكون من سمك الإنقليس المسلوق. أشاحت بوجهها متقززة، وذهبت لتجلس على طاولة صغيرة مطلية باللون الأصفر الباهت في الحديقة المرصوفة بالأحجار، وهناك تناولت غداء مكونا من حساء البطاطس وحبات العنب الصغيرة.
كان ضوء الشمس يتلألأ من خلال المظلة الكثيفة التي كونتها أشجار الكستناء، لكن الكرسي الحديدي كان باردا وغير مريح. كان لا يزال أمامها أكثر من ساعة على موعد وصول القطار السريع، لكنها قررت أن تنتظره في المحطة حيث بإمكانها الاستمتاع بجمال المنظر.
كانت قد أرهقت نفسها حد القلق؛ لذا كانت مغادرتها الفندق بمثابة خطوة في طريق رحلتها. شعرت بسعادة غامرة وهي تسدد فاتورتها وتمنح بقشيشا لمن تبقى من طاقم الخدمة بالفندق. لم تر أيا من النزلاء الآخرين، لكنها قطعت الحديقة مسرعة، كطالبة تتسلل من مدرستها، وكأنما تخشى أن يحدث ما يحول بينها وبين المغادرة في اللحظة الأخيرة.
بينما كانت تقطع الممر الوعر يتبعها حاجب الفندق حاملا أمتعتها، كان غريبا عليها أن تعود لارتداء حلة سفر أنيقة وحذاء ذي كعب عال مرة أخرى؛ إذ لم يكن بالشعور المريح بعد أسابيع من الحرية، لكنها تقبلته بصدر رحب باعتباره جزءا من عودتها إلى الحياة المتمدنة. عندما جلست على رصيف المحطة واضعة حقيبة سفرها عند قدميها، ترى بالأسفل التماع صفحة البحيرة، أدركت أنها بلغت قمة سرورها.
كان الهواء خاليا من الرطوبة، وكان به لذعة البرودة التي تميز الارتفاعات. كان وهج الشمس يلفحها، فشعرت بدفئها وضوئها يغمرانها. نزعت قبعتها وحدقت في عمود الإشارة تترقب بحماسة لحظة هبوطه التي يعقبها ظهور محرك يبدو صغيرا عند طرف القضبان.
كان هناك آخرون على الرصيف؛ فقد كان وصول القطار السريع هو الحدث الرئيسي لذلك اليوم. كان الوقت مبكرا للغاية بالنسبة للمسافرين الفعليين، لكن كان هناك جماعات من زوار القرية وساكنيها يتسكعون حول أكشاك الصحف والفاكهة. كان حشدا مرحا وصاخبا اختلطت فيه لغات عدة. لم تسمع آيريس أحدا منهم يتحدث بالإنجليزية حتى أتى رجلان من الطريق المؤدي للقرية.
وقفا مستندين إلى السياج خلفها، يتابعان جدالا ما. في البداية، لم يثيرا اهتمامها بما يكفي لكي تلتفت لترى وجهيهما، لكن صوتيهما كانا مميزين لدرجة جعلتها تتخيلهما على الفور.
كان للذي خمنت أنه الأصغر سنا بينهما صوت شغوف غير منمق. كانت واثقة من أنه يملك ذهنا متقدا تتدافع فيه الأفكار. كان يتحدث بسرعة، وكثيرا ما كان يتلعثم محاولا إيجاد كلمة مناسبة، لا لقصر مفرداته، بل لكثرة الاختيارات أمامه على الأرجح.
شيئا فشيئا حاز تعاطفها؛ لأنها أحست أن ذهنه متناغم مع ذهنها - أو بالأحرى ناشز مثله - ولأنها أيضا نفرت من المتحدث الآخر غريزيا. كانت لهجته متحذلقة تعمد أن تكون راقية، وكان يتحدث على مهل بنبرة سلطوية مثيرة للحنق فشلت في إخفاء جمود عقله. «لا يا عزيزي هير.» شعرت آيريس أنه كان من الأحرى به أن يقول «واطسون.» «أنت مخطئ لدرجة كبيرة؛ فقد ثبت قطعا أن أعدل وأفضل نظام قضائي هو نظام المحاكمة بواسطة هيئة محلفين.»
غمغم صاحب الصوت الأصغر سنا: «بل قل المحاكمة بواسطة هيئة من الخرقى. نحن نتحدث عن مواطنين عاديين. صحيح أنه لا يوجد شخص عادي، لكن كل شخص لديه تراكماته الخاصة من الأحكام المسبقة، ربما تكون امرأة ضغينة لبنات جنسها، أو كانت أخلاق رجل متزعزعة، جميعهم يلعنون السجين لأسباب مختلفة، وجميعهم لديهم أعمال ومنازل يتلهفون للعودة إليها، فيعدون الساعات ويتمسكون بظواهر الأمور.» «هم يتلقون إرشادات من القاضي.» «وكم يتذكرون من تلك الإرشادات؟ أنت أدرى كيف يشرد ذهنك وأنت تستمع إلى سلسلة من الكلمات المرسلة. علاوة على ذلك، حتى بعد أن يضع لهم النقاط على الحروف، يهرعون ثم يخرجون إليه بحكم خاطئ.» «ولم تفترض أنه خاطئ؟ لقد توصلوا إلى استنتاجهم الخاص بناء على شهادات الشهود.»
في خضم انفعاله، ضرب الشاب السياج بيده وقال: «الشهود! الشاهد هو الجزء الأسوأ من ذلك النظام؛ فربما كان غبيا لدرجة تجعل منه عجينا يشكله محام مراوغ، أو ربما يتمتع بقدر من الذكاء فيكذب ويضيع مستقبل رجل بائس، لا لسبب سوى أن يقرأ عن ذاكرته المدهشة وقوة ملاحظته ويرى صورته في الصحف. جميعهم ينشدون الشهرة.»
ضحك الرجل الأكبر سنا ضحكة استعلائية ضايقت رفيقه وأخذها على محمل شخصي. «عندما أتهم بقتلك يا بروفيسور، أفضل أن يحاكمني فريق من القضاة الذين يبحثون الحقائق بعقول قضائية مدربة وعدالة نزيهة.»
قال البروفسور: «أنت متحيز، دعني أقنعك. هيئة المحلفين لديها ذكاء جمعي، يمكنها من الحكم على الأشخاص. بعض الشهود يعول عليهم، وبعضهم الآخر يجب أن ينظر إليهم بعين الشك. على سبيل المثال، كيف تصف تلك المرأة السمراء التي تضع رموشا مزيفة؟» «جذابة.» «مم! أما أنا فسأقول إن زينتها مبهرجة، وكذلك سيقول أي رجل عادي في العالم. الآن لنفترض أن شهادتها تتعارض مع شهادة تلك السيدة الإنجليزية التي ترتدي معطفا ماركة «بيربري»، إحداهما ستكون كاذبة قطعا.» «لا أتفق معك؛ فربما يعتمد ذلك على وجهة النظر. الرجل العادي الذي يمتلك حديقة خلفية، إن رأى زهرة بنفسج فهو على أتم استعداد لأن يقسم على أن ما يراه هو زهرة بنفسج، في حين أنه إن ذهب إلى بستان نباتات فسيجد مكتوبا تحتها «سيرينجا».» «الاسم النوعي ...» «أعلم، أعلم. لكن إن أقسم مواطن عادي نزيه أن زهرة السيرينجا بيضاء اللون، وأقسم آخر أنها بنفسجية اللون، فستكون هناك حتما فرصة لوقوع لبس. شهادات الشهود قد تكون كذلك.»
سأل صاحب الصوت الجامد: «ألا ترى أنك حدت عن النقطة الأساسية؟ إن اعتلت كل من هاتين المرأتين منصة الشهود على نحو منفصل، فأيا منهما ستصدق؟»
بدورها، قارنت آيريس الشاهدتين الافتراضيتين. كانت إحداهما امرأة إنجليزية مميزة من سكان المقاطعات ، لها قوام ممشوق ووجه عذب نبيه. إن كانت تعبر المحطة وكأنها تملك حق المرور، فهي بالنسبة لها مجرد طريق مختصر لغايتها النهائية.
أما الحسناء السمراء، فكان من الواضح أنها متسكعة. ربما تكون تنورتها الملاصقة لجسدها وقميصها القروي المطرز هما ما ترتديه أي سيدة أوروبية أثناء عطلتها، لكن شفتيها الحمراوين الجذابتين وعينيها المعبرتين لم يمنعوا آيريس من أن تراها كغجرية سرقت للتو دجاجة لطهيها.
رغما عنها، كانت مضطرة لأن توافق البروفيسور في رأيه، لكنها مع ذلك شعرت بالحيرة تجاه الشاب عندما توقف عن الجدال؛ لأنها كانت تدعم الجانب الخاسر.
قال: «أفهم ما تعنيه. معاطف الحماية من المطر البريطانية تفوز في كل مرة، لكن مطاط الكونجو كان قضية دموية، وإن ساد الاعتقاد بقدرة المطاط على الحماية فقد يثير ذلك بلبلة مريعة. تعال لنحتسي مشروبا.» «شكرا لك، اسمح لي أن أطلبه أنا؛ فأنا أريد الاستفادة من كل فرصة ممكنة للحديث باللغة المحلية.» «أتمنى أن تنمحي من ذاكرتي؛ فهي لغة مثيرة للاشمئزاز، ومليئة بأصوات تشبه البصق والعطس. أنت تدرس اللغات الحديثة، أليس كذلك؟ هل تحضر الكثير من الطالبات محاضراتك؟» «أجل، لسوء الحظ.»
شعرت آيريس بالأسف عندما ابتعدا عنها؛ فقد أثار جدالهما اهتمامها بعض الشيء. تزايدت أعداد الحشد على الرصيف، مع أن القطار لن يصل إلا بعد خمس وعشرين دقيقة، حتى إن وصل في موعده. اضطرت لأن تتشارك مقعدها مع آخرين، بينما جلس طفل القرفصاء فوق حقيبة سفرها.
مع أن ذلك أتلف الحقيبة، لم تمانع تطفله. لم يستطع الارتباك أن ينال منها لأنها كانت مستغرقة في اللحظة الحالية؛ فقد استحوذ عليها ضوء الشمس وأوراق الشجر المترقرقة والتماعة البحيرة مجتمعين ليأسروها في حالة من السكون الهنيء.
دون سابق إنذار، أتى الهجوم. وقع الأمر على حين غفلة.
فجأة، شعرت بألم حاد في مؤخرة عنقها. وقبل أن تستوعب الأمر، اهتزت الجبال ذات القمم البيضاء، وتحولت السماء الزرقاء إلى اللون الأسود، واكتنفها الظلام.
الفصل السادس
غرفة الانتظار
عندما استردت آيريس وعيها، عادت إليها رقع من بصرها في بادئ الأمر . كانت ترى وجوها غير مكتملة تطفو في الهواء. كان يبدو أنه الوجه نفسه؛ ذو البشرة الباهتة، والعينين السوداوين، والأسنان النخرة.
شيئا فشيئا، أدركت أنها ممددة على دكة فيما يشبه السقيفة تلتف حولها مجموعة من النساء. كن من الفلاحات، تتشابه ملامحهن العرقية، وعزز من تشابههن مصاهرتهن لأقاربهن.
كن يحدقن فيها بفتور ولا مبالاة، وكأنها مشهد لافت للنظر في الشارع؛ حيوان يحتضر أو رجل يعاني نوبة ما. لم يكن في وجوههم الخالية من التعبير أي ذرة تعاطف، ولم تحمل نظراتهم المتبلدة أي لمحة فضول. بلا مبالاتهن التامة تلك، بدون وكأنما يفتقرن إلى الغرائز الفطرية الإنسانية.
سألت بحدة: «أين أنا؟»
بدأت امرأة ترتدي ثياب عمل سوداء تتحدث بلغة حنجرية لم تحمل مقدار ذرة من معنى بالنسبة لآيريس. أصغت إليها بالهلع والعجز نفسيهما اللذين تملكا منها أمس في الخور. في الواقع، كان وجه المرأة قريبا جدا منها حتى إنها تبينت تجاويف بشرتها، والشعيرات النابتة في فتحتي أنفها، لكن الفلقة بينهما كانت كبيرة لدرجة جعلتهما يبدوان وكأنهما يقفان على كوكبين مختلفين.
كانت تتمنى أن ينير أحد ما عتمتها؛ أن يزيح الستار الذي يربكها ويعميها. لقد وقع لها أمر ما لا تعرفه.
كان احتياجها يتخطى قدرة الإيماءات على الشرح؛ فلن يذهب ارتباك حواسها سوى تفسير واضح. في تلك اللحظة، فكرت في نزلاء الفندق الآخرين الذين فرت منهم فعليا. كانت مستعدة الآن أن تتخلى عن سنوات من عمرها كي ترى وجه القس القوي الروحاني، أو تنظر في عيني زوجته الطيبتين.
في محاولة منها لاستيعاب الواقع، نظرت حولها. كان المكان مألوفا نوعا ما بحوائطه الخشبية الداكنة وأرضيته المغطاة بالرمال التي كانت بمثابة مبصقة عامة. كان هناك شريط من ضوء الشمس المشوب بالغبار يسقط على أكواب سميكة مرصوصة على رف، وعلى رزمة من إعلانات ورقية يرفرفها الهواء.
رفعت رأسها أكثر فشعرت بنبضة من الألم الخفيف تبعه هجمة من الدوار. لوهلة شعرت أنها ستتقيأ، لكن ما لبث أن طغت صدمة التذكر على الغثيان.
كانت تلك هي غرفة الانتظار في المحطة . كانت تجلس هنا أمس، مع أصدقائها يحتسون مشروبا أخيرا. مثل شاحنات متدافعة تتصادم داخل عقلها، ترابطت أفكارها بدءا بسلسلة الأحداث التي وقعت في محطة القطار. تذكرت أنها كانت تجلس على المنصة في ضوء الشمس في انتظار القطار.
بدأت دقات قلبها تتسارع بشدة. كانت في طريقها للعودة إلى إنجلترا، لكنها لا تملك أدنى فكرة عما حدث لها بعد أن فقدت الوعي، أو كم مر على ذلك من الوقت. قد يكون القطار السريع وصل وغادر دونها.
في خضم إنهاكها، بدت تلك الفكرة كارثية. شعرت بالدوار مرة أخرى، وكان عليها أن تنتظر ريثما تنقشع تلك الغيمة من أمام بصرها كي تتمكن من قراءة عقارب ساعة يدها الصغيرة.
تهللت أساريرها عندما اكتشفت أنه لا يزال أمامها خمس وعشرون دقيقة كي تجمع شتات نفسها قبل أن تنطلق في رحلتها. تساءلت: «ماذا حدث لي؟ ما الذي جعلني أفقد الوعي؟ هل هوجمت؟»
أغمضت عينيها وحاولت بأقصى جهدها أن تصفي ذهنها، لكنها لا تذكر في آخر لحظاتها قبل أن تفقد الوعي منظر السماء الزرقاء والبحيرة الخضراء الزاهية وكأنما تراهما من خلف بلورة.
فجأة، تذكرت حقيبتها وتلمست بيدها محاولة العثور عليها. ارتاعت عندما لم تجدها بجوارها، ولم ترها على الدكة. كانت حقيبة سفرها على الأرض، وفوقها قبعتها وكأنما تؤكد على حدود ممتلكاتها.
صرخت بعينين يملؤهما الهلع: «حقيبتي، أين حقيبتي؟»
كان بها نقودها وتذاكرها وجواز سفرها، ودونها سيستحيل عليها المضي في رحلتها. حتى إن ركبت القطار دون أي نقود، عند أول خط حدودي سيعيدونها من حيث أتت.
أصابتها تلك الفكرة بالارتياع. كانت واثقة أن أولئك النسوة تكالبن لسرقتها، وأنها عاجزة وواقعة تحت رحمتهن. عندما نهضت مسرعة من الدكة دفعنها لأسفل مرة أخرى.
تفجر غضبها وحاولت مقاومتهن بضراوة. بينما كانت تقاومهن، شعرت بدوامة من الارتباك؛ بألم نابض، وأصوات تتعالى، وأضواء تومض أمام عينيها. سمعت أصوات نهيج ولهاث، وكأنها تيار تحتي لصوت تدفق اندفاع مياه غريب، وكأن ينبوعا مكتوما تفجر فجأة من الأرض.
رغم محاولاتها، جذبتها المرأة ذات المئزر الأسود لأسفل مرة أخرى، بينما دفعت فتاة ممتلئة ترتدي مشدا يكاد يتمزق بكوب بين شفتيها. عندما رفضت أن تبتلع، عاملنها كطفل، فأملن ذقنها وسكبن المشروب الكحولي في حلقها.
جعلها ذلك تسعل وتجاهد لالتقاط أنفاسها، حتى شعرت بالألم يعتصر رأسها. خشية هجوم آخر، استرخت واستسلمت لبؤسها وعجزها. أنبأها حدسها بأنها إن انفعلت، فقد تهتز الحوائط في أي لحظة كما فعلت الجبال التي يكسوها الجليد تمهيدا لغيابها عن الوعي تماما.
وتلك المرة ربما لن تفيق، كما أنها لا تجرؤ على أن تخاطر بأن تمرض في القرية وحدها بعيدا عن أصدقائها. إن عادت إلى الفندق، فبإمكانها أن تطلب المساعدة المالية من النزلاء الإنجليزيين، وحتما يمكن استخراج جواز سفر آخر، لكن ذلك يعني التأخير.
كما أن هؤلاء الأشخاص غرباء بالنسبة لها، وقد انتهت عطلتهم تقريبا. سيرحلون في غضون يوم، بينما قد تظل هي عالقة هناك لأجل غير مسمى، لتصير عرضة للامبالاة أو حتى الإهمال. الفندق كذلك كاد يغلق أبوابه.
قالت آيريس في نفسها: «يجب ألا أستسلم للمرض، يجب أن أهرب على الفور، بينما لا يزال هناك وقت.»
كانت واثقة من أنها إن تمكنت من ركوب القطار، فمجرد إدراكها أنه سيبتعد بها ميلا بعد ميل نحو المدنية كفيل بأن يجعلها تصمد حتى تصل إلى مكان تألفه. تذكرت بازل التي تقع على نهر الراين ذي اللون الأخضر الفاتح، بفنادقها الممتازة التي يتحدث موظفوها الإنجليزية. هناك يمكنها أن تمرض بينما تعامل بلغة مفهومة وتحتفظ بكرامتها.
كان كل شيء يعتمد على لحاقها بذلك القطار. ما تعانيه جعلها فجأة تريد باستماتة العثور على حقيبتها. بينما كانت تحاول جاهدة النهوض مرة أخرى، أدركت أن أحدا ما يحاول أن يتواصل معها.
كان رجلا عجوزا يرتدي قميصا متسخا، وله وجه صغير مجعد، ذو بشرة بنية وتملؤه التجاعيد مثل ندبة خلفها غصن مقطوع في جذع شجرة. ظل يخلع قبعته الملوثة بالشحم ويشير لأعلى ثم لرأسها.
على التو فهمت ما يعنيه. كان يقصد أنه بينما هي جالسة على الرصيف، أصابتها ضربة شمس.
أراحها ذلك التفسير للغاية؛ فقد كان لغز علتها يخيفها ويربكها؛ فهي نادرا ما تمرض، ولم يحدث من قبل أن فقدت وعيها. إلى جانب ذلك، كان دليلا على أنه رغم شكوكها، لم يكن التواصل مستحيلا تماما، هذا إن كان بخصوص موضوعات غير معقدة.
مع أن قلقها من أن يفوتها القطار كان يسيطر عليها، استطاعت أن تبتسم للحمال ابتسامة خفيفة، وكأنما كان ينتظر أي لفتة تشجيع، دس يده داخل عنق قميصه المتسخ وأخرج حقيبتها.
نتشتها منه وهي تصرخ فرحا. تذكرت الحشد الموجود على المنصة، فاعتقدت أنه لا أمل لديها في أن تجد نقودها، لكن ربما كان هناك فرصة ضئيلة ألا يكون جواز سفرها قد سرق.
فتحت السحاب بسرعة بأصابع مرتعشة، فوجدت لدهشتها أن جميع محتويات الحقيبة موجودة؛ التذاكر والنقود وجواز السفر، وحتى فاتورة الفندق التي سددتها كانت لا تزال موجودة داخلها.
لقد أساءت الحكم على نزاهة أهل القرية، وهو خطأ أسرعت تحاول إصلاحه. أخيرا، ها هي في موقف تستطيع فهمه. كما جرت العادة، أتى منقذ ليؤكد معنى مربع الحماية على كفها. كان دورها الذي تمثل في دفع مبلغ زائد مقابل الخدمة المقدمة سهلا.
تلقت النسوة نصيبهن من تلك النفحة بتعبيرات متبلدة. يبدو أن الذهول صعقهن فلم يستطعن إظهار فرحتهن أو امتنانهن. أما الحاجب العجوز فارتسمت على وجهه ابتسامة ظافرة، والتقط حقيبة سفر آيريس كي يوضح لها أنه بدوره استوعب الموقف.
رغم مقاومتها لاحتسائه، أنعشها المشروب الكحولي الخام، وكذلك التغير الذي طرأ على ظروفها بشكل كبير. شعرت أن حيويتها ردت إليها وأنها صارت تملك زمام أمورها مرة أخرى وهي تظهر تذكرتها للحاجب.
كان وقع ذلك عليه كالصاعقة. ظل يثرثر بانفعال وهو يجذبها من ذراعها ويقودها مسرعا إلى الباب. فور أن مرا عبره، عرفت آيريس مصدر الصوت المتواصل الغريب الذي ساهم في جعل كابوسها أفظع.
كان صوت تدفق البخار الخارج من المحرك. ففيما كانت تهدر الدقائق النفيسة، وصل القطار إلى المحطة.
والآن هو على وشك المغادرة.
كان المشهد فوضويا على الرصيف. كانت الأبواب تغلق، والناس يهتفون بصيحات الوداع ويحتشدون أمام العربات. لوح أحد الموظفين بعلم وانطلقت الصافرة.
لقد وصلا متأخرين دقيقة واحدة. في اللحظة التي أدركت آيريس أنها هزمت، انتهز الحاجب مجازا اللحظة المؤثرة نفسيا، وانطلق يرفرف معه. انتهز الفترة الوجيزة بين الاهتزازة الأولى للمحرك ودوران العجلات ليخترق الحشد كنمر عجوز.
كان لا يزال في جسده الهرم النحيل ما يكفي من القوة والرشاقة كي يتمكن من بلوغ أقرب عربة قطار وفتح بابها.
اعترضت طريقه سيدة ذات وقار ترتدي الأسود. كانت من النوع الذي يرتعد خوفا منه غريزيا كونه فلاحا. على الجانب الآخر، فقد دفعت له زبونته مبلغا يزيد بكثير عما يجنيه من بقشيش على مدى الموسم بأكمله.
لذا، كان يجب أن تأخذ مكانها في القطار. أحنى رأسه وعبر من تحت ذراع السيدة، وطوح حقيبة آيريس داخل العربة ثم سحبها هي أيضا إلى الداخل.
كانت العربة قد بدأت تتحرك عندما قفز خارجها ليسقط متكوما على أرض الرصيف، لكنه لم يصب بأذى؛ فعندما نظرت آيريس وراءها لتلوح له شاكرة، ابتسم لها كعفريت بلا أسنان.
كان يفصلها عنه بالفعل عدة ياردات. مرت المحطة من جوارهم، وبدأت مياه البحيرة ترتطم بأوتاد رصيف المرسى. وخلال النافذة، تماوجت صفحتها الزبرجدية التي أهاجتها الرياح وصقلتها الشمس. فيما كان القطار يسلك المنعطف في مساره مارا عبر الثغرة بين الصخور، التفتت آيريس وراءها كي تلقي نظرة أخيرة على القرية؛ تلك الكومة المدهشة من المباني الصغيرة الملونة التي استقرت على إفريز القرية الأخضر.
الفصل السابع
الركاب
عندما مر القطار خلال النفق المحفور في الجرف وخرج منه إلى واد ضيق يعج بالأشجار، نظرت آيريس إلى ساعة يدها. حسب عقاربها، لم يكن موعد وصول قطار ترييستي السريع إلى محطة القرية قد حان بعد.
قالت: «لا بد أنها تعطلت عند سقوطي. يا لحسن حظي! كان من الممكن أن تجعلني أفوت القطار.»
عندما تذكرت ذلك، شعرت بالامتنان الشديد لكونها انطلقت بالفعل في طريق عودتها إلى إنجلترا. خلال الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، مرت بمشاعر متضاربة لم تكن لتمر بها خلال حياة كاملة من الرفاهية والنظام. ذاقت شعور العجز المريع لغياب الأصدقاء والمرض والإفلاس، وانقطعت بها السبل؛ ثم عندما بلغ الأمر أشده، انقلب حظها، كما يحدث دائما.
بفعل التضاد، تحولت المواصلات العادية إلى مصدر مؤقت للنشوة. لم يعد السفر بالقطار عبئا عليها أن تتحمله بمساعدة مخففات تتمثل في الحجوزات والأزهار والفاكهة والشكولاتة والأعمال الأدبية الخفيفة وجماعة من الأصدقاء الذين يهتفون مشجعين.
بينما جلست محشورة في مقصورة غير مريحة داخل قطار تعوزه النظافة، شعرت بالحماسة كأنها تنطلق في رحلتها الأولى.
ظل المنظر حولها محتفظا بطبيعته الوحشية وطابعه الوعر. سار القطار في طريقه مارا برقع متصدعة من الأراضي بدت مثل رسمة نقشها الفنان دوريه على الفولاذ لجحيم دانتي. كانت الشلالات تشق جوانب أجراف من الجرانيت بعروق من الفضة. وأحيانا، كانت تمر برقع قاحلة تكونت فيها برك قاتمة يحفها بوص له ريش أسود داخل تجويفات مقفرة.
تطلعت آيريس إليها خلال فتحة النافذة، ممتنة لوجود لوح الزجاج الواقي؛ فقد كان ذلك المنظر المهيب حطام عالم دمرته قوى الطبيعة، وذكرها بالأثر الذي تركته للتو أولى مواجهاتها مع الواقع.
كانت لا تزال تنسحب من ذكرى الوقائع السابقة، مع أنه صار يفصل بينها وبين محطة القطار الكابوسية جبال وجبال. الآن وهي تبتعد خلف ملفات القضيب في كل دقيقة تمر، صارت تجرؤ على إدراك أنه كان يفصل بينها وبين كارثة قدر أنملة.
لا بد أنه كان هناك نسبة من أشخاص غير أمناء وسط الحشد على المنصة، الذين لم يكونوا ليتورعوا عن استغلال وضع أجنبية فاقدة للوعي - وغير قادرة على الحساب - وحقيبة يد باهظة الثمن تعد بغنيمة كبيرة، لكن الحظ وضع الحاجب الذي يشبه العفريت في طريقها.
قالت في نفسها: «دائما ما تسير الأمور في صالحي، لكن لا بد أن حظ بعض الناس مريع.»
كانت تلك هي المرة الأولى التي تفكر فيها في قدر أولئك غير المحظوظين الذين ليس براحة يدهم مربع. إن وقع حادث قطار، فهي تعلم يقينا أنها ستكون في الجزء الأوسط الذي لن يتحطم منه، كما سيكون مقدرا لبعض الركاب أن يكونوا في المقصورات التي تحطمت.
اقشعر بدنها لتلك الفكرة، فنظرت ساهية إلى المرأة التي تجلس أمامها. كانت من النوع غير المستحسن من جميع الجوانب؛ فهي في خريف عمرها، لها ملامح صغيرة غير محددة، وبشرة شاحبة، وكأنما رسم أحد وجها ثم محاه حتى كاد يختفي. كان شعرها المجعد باهتا، وبشرتها شاحبة تشبه في لونها دقيق الشوفان.
لم تكن ملامحها هزلية بما يكفي حتى لأن تليق بدور سيدة عانس على المسرح، حتى حلتها المصنوعة من التويد وقبعتها التي تتماشى معها لم تكونا رثتي الهيئة، لكنهما كانتا تفتقران إلى أي لمسات مميزة.
في الظروف العادية، لم تكن آيريس لتنظر إليها أو تفكر بها مرتين، لكن اليوم، كانت تتطلع إليها بتعاطف.
قالت في نفسها: «إن وقعت هي في مأزق، فلن تجد من يمد لها يد المساعدة.»
كدرتها فكرة أنه يوجد حتما ضمن سكان العالم نسبة من الأشخاص الذين لا يملكون الأصدقاء ولا المال ولا النفوذ؛ أشخاص عديمي الشأن لن يفتقدهم أحد، وإن اختفوا فلن يتركوا وراءهم أي أثر.
كي تصرف آيريس عن ذهنها تلك الأفكار، حاولت أن تتأمل المنظر من حولها مجددا، لكن النافذة كان يحجبها الآن المسافرون الذين لم يجدوا مقاعد لهم فوقفوا في الممر؛ لذا للمرة الأولى، أحصت متعمدة الركاب الآخرين الذين يشاركونها المقصورة.
كان عددهم ستة - وهو العدد المناسب - والذي زادت عليه هي واحدا ليصبح سبعة، وهو ما لا يسمح به. كان جانبها يشغله أسرة مكونة من أبوين ضخمين وطفلة صغيرة تبلغ نحو اثنتي عشرة سنة.
كان الأب له رأس حليق، وشارب صغير مصفف بعناية، وذقون متعددة. منحته نظارته ذات الإطار القرني وسيماؤه المريحة مظهر مواطن ثري. كان لزوجته قصة مفرودة من الشعر الأسود المزيت، وحاجبان كثان يبدوان كأنهما محددان بالفلين المحروق. وكانت الطفلة ترتدي جوربين طفوليين، لا يتماشيان مع ملامح وجهها البالغة. كان من الواضح أن شعرها ملفوف بحيث يصبح به تموجات دائمة؛ فقد كان لا يزال مثبتا بالمشابك.
كان ثلاثتهم يرتدون حللا جديدة وأنيقة، تبدو مستوحاة من دليل كتابة اختزالية؛ فقد كانت حلة الأب مقلمة، وحلة الأم مرقطة، وحلة الابنة منقوشة بالمربعات. خطر لآيريس أنهم إن فرقوا ثم اجتمعوا مرة أخرى، وسط الزحام العام، فربما يوصلون للعالم رسالة مكتوبة بطريقة الاختزال.
حسب ما هو واضح لها، فستكون تلك الرسالة شعارا للبيت؛ إذ بدت عليهم روح الوحدة وهم يتشاركون صحيفة. كانت الأم تمر بعينيها على الأزياء، والطفلة تطالع صفحة الأطفال، وخمنت آيريس من العواميد المتلاصقة أن رب الأسرة يبحث الشئون المالية.
نقلت بصرها منهم إلى الجانب المقابل من المقصورة. بجوار العانس ذات الحلة المصنوعة من التويد كانت تجلس فتاة شقراء جميلة، يبدو أنها صاغت هيئتها من صورة أي ممثلة سينمائية شقراء؛ فقد كان لها الشعر المموج اللامع، والعينان الزرقاوان الواسعتان، اللتان تزينهما الرموش الاصطناعية، والحاجبان المقوسان. كانت وجنتاها مصبوغتين وشفتاها المقوستان مطليتين باللون القرمزي.
مع أن ملامحها كانت منمقة، كان جمالها يتماشى مع المعايير ويفتقر إلى الروح. كانت ترتدي حلة بيضاء ضيقة وتحتها قميص حريري أسود، وكانت قبعتها وقفازاها الطويلان وحقيبتها سوداء اللون أيضا. كانت تجلس منتصبة القامة دون حراك، ثابتة على وضعية جامدة وكأن أحدا يلتقط لها صورة فوتوغرافية دعائية.
مع أنها كانت نحيلة لدرجة تكاد تصل إلى حد الهزال، فقد تعدت على جانب العانس ذات الحلة التويدية كي تترك مسافة كبيرة بينها وبين السيدة التي اعترضت على دخول آيريس.
كانت تلك السيدة الوقورة بلا شك تنتمي إلى إحدى الطبقات الحاكمة. كانت عيناها المنتفختان تشعان فخرا، وأنفها يبدو كمنقار طائر متعجرف. كانت ترتدي الأسود وتتشح به، وكان قوامها الضخم يشغل تقريبا نصف المقعد.
ولدهشة آيريس، كانت ترمقها بنظرة عدائية ثابتة، جعلتها تشعر بالذنب وبعدم الارتياح.
قالت في نفسها: «أعلم أني اقتحمت المقصورة، لكن بها مساحة كافية. أتمنى لو أني استطعت أن أشرح لها الوضع؛ إرضاء لذاتي.»
مالت للأمام وتحدثت بعفوية للسيدة.
سألتها قائلة: «هل تتحدثين الإنجليزية؟»
على ما يبدو أخذت السيدة سؤالها على محمل الإهانة، إذ أغمضت جفنيها بوقاحة متعمدة، وكأنما لا تطيق رؤية منظر سوقي.
فقضمت آيريس شفتها ونقلت بصرها إلى باقي الركاب. كانت أعين الأسرة مثبتة على صحيفتهم، والعانس ذات الحلة التويدية تسوي تنورتها، والحسناء الشقراء تحملق في الفراغ. بطريقة ما، تولد لدى آيريس انطباع بأن غياب الحس المهذب ذلك هو لفتة احترام لتلك السيدة ذات الشأن.
تساءلت بحنق: «أهي النظير المحلي للثور الأسود المقدس؟ ألا يمكن لأحد أن يتحدث حتى تفعل هي؟ حسنا، بالنسبة لي ما هي سوى امرأة بدينة ترتدي قفازين طفوليين مريعين.»
حاولت التمسك بموقفها الانتقادي، لكن هباء؛ إذ كان يشع من المرأة الضخمة المتشحة بالسواد حس من النفوذ الطاغي.
والآن وقد أخذت حماستها تزول، بدأت تشعر بتوابع ضربة الشمس الخفيفة التي تعرضت لها. كان رأسها يؤلمها وتشعر أن مؤخرة عنقها متيبسة وكأنها مدعومة بعمود حديدي. كانت تلك أعراض تحذرها كي تأخذ حرصها؛ فخطر المرض لا يزال يحيق بها، وهي تعلم أنها بحاجة لأن تحتفظ بكل ذرة من قواها العصبية، ولا تهدر مخزونها منها في بغض متوهم.
لكن قرارها ذلك لم ينتشلها من الشعور المتزايد بالضيق؛ إذ لم تشعر بأن الأجواء في العربة خانقة فحسب، بل شعرت أيضا أنها تعج بالقهر النابع من شخصية الأرملة المتشحة بالسواد. كانت آيريس واثقة أنها بمثابة كتلة متخثرة من الأحكام المسبقة، حجر عثرة في شريان الحياة الصحيح للمجتمع. كان من هم على شاكلتها جلطة قيد التكوين.
عندما بدأ العرق يتصبب من وجهها، نظرت تجاه نوافذ المقصورة المغلقة. كان الازدحام في جانب الممر الذي تجلس فيه شديدا لدرجة تمنع دخول الهواء الخارجي؛ لذا جاهدت للوقوف على قدميها وأمسكت بشريط النافذة.
وسألت بأدب يحمل نبرة إجهاد: «هل تمانعون؟» آملة أن يفهم الركاب الآخرون من نبرتها أنها تستأذنهم في إنزال زجاج النافذة.
كما توقعت، نهض رب الأسرة قليلا وأخذ الشريط من يدها، لكن عوضا عن إتمام المهمة، نظر باحترام إلى السيدة البارزة، وكأنها رمز مقدس، ثم نظر إلى آيريس عابسا وهو يهز رأسه بالسلب.
عادت آيريس إلى مقعدها وهي تشعر بالحنق من تلك المعارضة.
قالت في نفسها: «يجب أن أتحمل ذلك . أتحمله دون معارضة؛ فأنا الدخيلة هنا.»
كان شعورا آخر مستجدا على أكثر أفراد الزمرة شعبية أن تكون ضمن الأقلية. بجانب اضطرارها لأن تتحمل نقص التهوية، منحها عدم قدرتها على تفسير أفعالها أو الإفصاح عن رغباتها شعورا عاجزا بأنها محرومة من حاستي الكلام والسمع.
في تلك اللحظة، انفتح الباب وحشر رجل طويل نفسه داخل المقصورة. مع أنها أدركت أن مشاعرها باتت حساسة للغاية، خطر لها أنها لم تر وجها منفرا أكثر من وجهه. كانت بشرته شاحبة مثل الصلصال اللدن، وله عينان داكنتان خاويتان، ولحية سوداء لها شكل البستوني.
انحنى للسيدة البارزة وبدأ يتحدث إليها فيما هو واقف. كان من الواضح أن قصته مثيرة للاهتمام؛ إذ لاحظت آيريس أن الركاب الآخرين وفيهم الطفلة يستمعون إليه باهتمام بالغ.
وهو يتحدث، طارت نظارته داخل المقصورة واستقرت عليها. نظر إليها نظرة ممحصة لكنها موضوعية، وكأنها عينة على شريحة ميكروسكوب، لكنها تركت لديها انطباعا بأنها ليست عينة مرحبا بها، أو عينة توقع رؤيتها.
انحنى حتى صارت شفتاه في مستوى أذن السيدة البارزة وهمس لها بسؤال، أجابته بصوت هامس بدورها، فذكرا آيريس بذبابتين تئزان داخل قنينة.
تساءلت: «هل يكرهني أولئك الأشخاص حقا أم أن خيالي هو ما يصور لي ذلك؟»
كانت تعلم أن انطباع العداء العام المضمر ذلك بدأ يستحوذ على تفكيرها. كان في ظاهره سخيفا، خصوصا أن ذا اللحية السوداء المدببة لم يرها من قبل قط؛ فهي لم تفعل سوى أنها أزعجت بعض الغرباء الذين يفصل بينها وبينهم حاجز اللغة.
أغمضت عينيها وحاولت أن تصرف عن ذهنها ركاب المقصورة، لكن استمر شعورها بالضيق لوجود ذلك الرجل. شعرت أن وجهه الأبيض يخترق جفنيها المغمضين، ويطفو في الهواء أمام عينيها.
شعرت براحة كبيرة عندما توقف أزيز الهمس وسمعته يغادر المقصورة. فور أن غادر، عادت إلى طبيعتها مرة أخرى، وأدركت أن أكثر ما تشعر به هو صداع مريع. كان أكثر ما يهمها في الحياة هو الشاي والسجائر، لكنها لم تجرؤ على التدخين خشية الشعور بالغثيان، بينما بدا الشاي الآن كإحدى سمات حضارة منسية. كان القطار يسير الآن خلال جزء مهجور من البلدة يتكون من أشجار الصنوبر. كان أقرب تذكار على أنه كان مأهولا قلاعا قديمة جدا يصادفونها كل حين، غالبا ما تكون أنقاضا. بينما تحملق في ذلك المشهد المهيب، أطل موظف برأسه من الباب وصاح بكلمات لها وقع الطلاسم على أذنيها.
أصغى إليه الركاب الآخرون بعدم اكتراث، لكن آيريس شرعت في فتح حقيبتها؛ تحسبا لأن يطلب رؤية تذاكرها أو جواز سفرها. في تلك اللحظة، دهشت لسماع صوت إنجليزي واضح.
كانت العانس ذات الحلة التويدية قد نهضت من مقعدها.
سألتها قائلة: «هل ستأتين إلى المطعم لاحتساء الشاي؟»
الفصل الثامن
استراحة الشاي
ألجمت المفاجأة آيريس فلم تستطع الرد. نظرت غير مصدقة إلى الأراضي الممتدة التي تغطيها الرمال والنباتات الشائكة التي تمر خارج النافذة، وكأنما تتوقع أن تراها تتحول إلى أكواخ سويسرية، أو أنهار إيطالية زرقاء.
قالت مندهشة: «يا إلهي، أنت إنجليزية.» «بالطبع. كنت أحسب أن مظهري تقليدي. هل ستأتين لاحتساء الشاي؟» «أجل.»
تبعت آيريس مرشدتها إلى خارج المقصورة، وشعرت بالقلق عندما اكتشفت أن مقصورتهم كانت في نهاية الممر. يبدو أن مربع الحماية بكفها لا يضمن لها الحماية من حوادث القطارات رغم كل شيء.
سألت: «هل نحن قريبون من المحرك؟»
طمأنتها السيدة ذات الحلة التويدية قائلة: «كلا، بل يفصلنا عنه مقصورات الدرجة العادية. ذلك القطار طويل للغاية، بسبب تزاحم نهاية الموسم. اضطروا لإقحام تلك المقصورات في القطار عنوة.»
كان من الواضح أنها من النوع الذي يجمع المعلومات؛ فقد بدأت تبثها على الفور. «فقط ألق نظرة في العربة التي تلي عربتنا عندما نمر منها، وسأخبرك أمرا.»
لم يثر ذلك اهتمام آيريس، بيد أنها أطاعتها. بعدها، ندمت أنها فعلت؛ إذ لم تستطع نسيان ما رأته.
فعلى أحد المقاعد، رأت جسدا ممددا بطول المقعد ومغطى ببطانيات. كان يستحيل معرفة إن كان لرجل أم لامرأة؛ فقد كانت الضمادات تغطي الرأس والجبهة والعينين، وكانت ملامح الوجه مختفية وراء شرائط من الضمادات اللاصقة المتقاطعة. من الواضح أن الوجه كان مجروحا حد التشوه.
تراجعت آيريس في هلع ازداد عندما أدركت أن الرجل الشاحب ذا اللحية البستونية هو المسئول عن ذلك الشخص العاجز. بجواره كانت تجلس راهبة، تبدو القسوة البالغة على تعابير وجهها، حتى إنه كان يصعب الربط بينها وبين أي عمل رحيم.
بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، رفع المريض إحدى يديه بوهن. مع أنهما لاحظا حركة يده، تجاهلاها. كانا أقرب إلى حاجبين مسئولين عن نقل كومة من الأخشاب، لا إنسان يتألم.
فجرت الأصابع المرتعشة داخل آيريس موجة من الشفقة الشديدة. ارتاعت عندما فكرت أنها أيضا - إن لم يحالفها الحظ - كان من الممكن أن تكون ممددة تحت رعاية غريب غير مبال.
همست: «تلك الراهبة تبدو كمجرمة.»
قالت لها السيدة ذات الحلة التويدية: «هي ليست راهبة، بل ممرضة.» «إذن، فأنا أشفق على مريضها. إنه لأمر مريع أن يمرض المرء أثناء رحلة، كما أنها ليست فرجة. لم لا يسدلان الستار؟» «سيكون ذلك مملا بالنسبة لهما.» «يا للمسكين! أفترض أنه رجل، أليس كذلك؟»
كانت آيريس تتوق بشدة لأن تكسر وجه التشابه بينها وبين الجسد الذي يرقد بلا حراك، لدرجة أنها شعرت بخيبة أمل عندما هزت رفيقتها رأسها نفيا. «كلا، بل هي امرأة. لقد استقلوا القطار من محطتنا من على مسافة أبعد. كان الطبيب يشرح للبارونة وضعها. لقد أصيبت إصابة بالغة في حادث سيارة، وهناك احتمال حدوث إصابة خطيرة في المخ. ويحاول الطبيب إرسالها إلى ترييستي بسرعة لإجراء عملية جراحية معقدة لها. إنها فرصة أخيرة لإنقاذ تفكيرها المنطقي وكذلك حياتها.»
سألت آيريس: «هل الرجل ذو اللحية السوداء طبيب؟» «أجل. وهو طبيب ماهر جدا أيضا.» «حقا؟ أفضل أن يعالجني طبيب بيطري.»
كانت السيدة ذات الحلة التويدية تسبقها فلم تسمع تمتمتها الاعتراضية. اضطرتا لأن تشقا طريقهما خلال الممرات المزدحمة، وكانتا قد قطعتا نصف المسافة عندما اصطدمت العانس بسيدة طويلة سمراء ترتدي ملابس رمادية تقف على باب مقصورة مزدحمة.
قالت معتذرة: «أنا آسفة للغاية. كنت أنظر لأرى إن كان الشاي الذي طلبناه في الطريق. لقد أمليت طلبي لأحد المضيفين.»
تعرفت آيريس على صوت السيدة بارنز، وتراجعت مجفلة لأنها لا ترغب في مقابلة القس وزوجته.
لكن رفيقتها صاحت بسعادة: «يا إلهي، أنت إنجليزية أيضا. هذا يوم سعدي.»
كانت عينا السيدة بارنز البنيتان الرقيقتان تدعوان إلى الثقة، فأضافت: «لقد قضيت عاما في ذلك المنفى.»
سألت السيدة بارنز بتعاطفها الحاضر: «هل أنت في طريقك إلى الوطن؟» «أجل، ولكن لا أصدق ذلك؛ فالأمر رائع لدرجة لا تصدق. هل أرسل أحد النوادل ليحضر لك الشاي؟» «سيكون ذلك لفتة طيبة منك؛ فزوجي مسافر يرثى له، مثل كثير من الرجال الأقوياء.»
استمعت آيريس لحديثهما بنفاد صبر؛ فقد بدأ الألم ينبض بشدة في صدغيها. عندما أتت السيدة بارنز على ذكر اسم زوجها، علمت أنها ربما تتأخر عن احتساء الشاي لأجل غير مسمى.
فقالت: «ألسنا نعرقل الطريق؟»
عرفتها السيدة بارنز فمنحتها ابتسامة مصطنعة؛ إذ إن حادثة جابريال ما زالت تحز في نفسها.
سألتها: «هل اندهشت لرؤيتنا؟ لقد قررنا في نهاية المطاف ألا ننتظر القطار الأخير، وقد أتت معنا صديقتانا الآنستان فلود-بورتر. في الواقع، لقد أتى الجمع بأكمله؛ فالزوجان الجديدان هنا أيضا.»
كانت آيريس تجاهد لشق طريقها في الممر المكتظ بعد أن ابتعدتا قليلا، عندما قالت لها السيدة من وراء كتفها: «تمتلك صاحبتك وجها عذبا، كوجه العذراء المتألم.»
قالت آيريس مطمئنة إياها: «بل هي امرأة مبتهجة، وهي ليست صاحبتي بكل تأكيد.»
عبرتا آخر معبر من المعابر بين العربات التي تصدر صوت صرير ينذر بالخطر، ودلفتا إلى عربة المطعم التي كانت مكتظة بالفعل. كانت الآنستان فلود-بورتر - اللتان ارتدت كل منهما معطف سفر أبيض من الكتان - قد أمنتا لنفسيهما طاولة، وجلستا تحتسيان الشاي.
عندما مرت آيريس من جوارهما في الممر الضيق، كانت إيماءتهما الرسمية لها بمثابة الإقرار المشروط الذي يسبق الإظلام التدريجي للمشهد الأخير في فيلم.
كان لسان حالها يقول: «سنتحدث إليك أثناء الرحلة، لكن بمجرد أن نصل إلى محطة فيكتوريا سنصير أغرابا.»
بينما لم تظهر آيريس أي نية للانضمام إليهما، لم تستطع الآنسة روز أن تمنع نفسها من أن تدير الموقف.
فنادت آيريس قائلة: «صديقتك تحاول لفت انتباهك.»
التفتت آيريس لتجد أن رفيقتها اكتشفت آخر موضع شاغر - طاولة ملاصقة للجدار - وحجزت لنفسها مكانا. عندما انضمت لها، كانت السيدة ضئيلة الجسد تتلفت حولها بعينين لامعتين.
قالت: «لقد طلبت الشاي لصديقيك اللطيفين. أليس ذلك كله ممتعا؟»
كانت سعادتها عفوية وصادقة، فلم تستطع آيريس أن تتهمها بالمبالغة. حدقت بارتياب في ستائر النافذة المخملية الباهتة ذات اللون الذهبي، ومفرش الطاولة المتسخ، والطبق الزجاجي الذي يحوي مربى الكر؛ ثم نظرت إلى رفيقتها.
طالعها وجهها المتجعد الصغير ذو الملامح الباهتة، لكنها رأت التماعة في عينيها الزرقاوين الباهتتين، وميزت نبرة حماسة طفولية في صوتها.
فيما بعد، عندما تحاول جمع الأدلة على ما تعتقد أنه مؤامرة غير عادية، سيجعلها ذلك التعارض بين مظهر العانس التي في خريف عمرها وصوتها اليافع تشكك في حواسها. على أي حال، لم تكن ذكراها جلية على الإطلاق؛ إذ لم تتذكر أنها نظرت بإمعان إلى رفيقتها مجددا.
كانت الشمس ترسل أشعتها الحارقة خلال النافذة، فاضطرت لأن تظلل عينيها بيدها معظم الوقت بينما كانت تحتسي الشاي، لكن وهي تستمع إلى ثرثرتها المتصلة المتحمسة، شعرت أن من تؤانسها هي امرأة تصغرها بكثير.
سألتها: «لم يرق الأمر؟» «لأن ذلك سفر. نحن نتحرك. كل شيء من حولنا يتحرك.»
كانت آيريس تشعر كذلك أن المشهد كله يومض مثل فيلم سينمائي قديم. كان النوادل يسيرون متأرجحين داخل المقصورة المهتزة يوازنون الصواني. مرت أجزاء من الريف سريعا بجوار النافذة، وتساقطت ذرات السخام على الزبد وقطع الكعك اللزجة. وكانت ذرات الغبار تتراقص في أشعة الشمس، ومع كل انتفاضة بالمحرك، كانت الأواني الخزفية تتأرجح.
بينما كانت تحاول احتساء بعض الشاي قبل أن يندلق كله من حافة الفنجان بفعل الاهتزاز، علمت أن رفيقتها - التي تدعى الآنسة وينفريد فروي - تعمل معلمة لغة إنجليزية وهي في طريقها للوطن لقضاء عطلتها. كانت مفاجأة صادمة لها أن علمت أن والدي تلك السيدة البالغة على قيد الحياة.
قالت الآنسة فروي: «يقول أبي وأمي إنهما لا يتحدثان إلا عن عودتي؛ فهما ينتظراني بحماسة الأطفال، وكذلك سق.»
رددت آيريس: «سق؟» «أجل، اختصارا لسقراط. ذلك هو الاسم الذي يناديه به أبي. سقراط هو كلبنا، وهو من فصيلة كلاب الرعي الإنجليزية القديمة - لا ينحدر من سلالة نقية - لكنه لطيف جدا، وهو متيم بي. تقول أمي إنه يفهم أني عائدة للمنزل لكنه لا يعرف متى؛ لذا يذهب العجوز الأخرق لاستقبال كل قطار يصل، ثم ما يلبث أن يعود منكسا ذيله، في تجسيد مثالي للاكتئاب. يتوق أبي وأمي لرؤية فرحته الجمة في الليلة التي أصل بها بالفعل.»
تمتمت آيريس: «أود أن أراه.»
لم يحرك مشاعرها كلام رفيقتها عن فرحة والديها العجوزين، لكنها كانت تحب الكلاب كثيرا. تخيلت بوضوح هيئة سقراط؛ كلب هجين له فراء كث كبير الحجم، وله هيئة مضحكة للغاية، وعينان كهرمانيتان تلمعان تحت خصل شعره، يثب فرحا للقائها كجرو صغير.
فجأة، بترت الآنسة فروي حديثها عندما تذكرت أمرا. «قبل أن أنسى، أريد أن أشرح لك لم لم أقف إلى جوارك في موقف فتح النافذة. لا عجب أنك ظننت أنني لست إنجليزية حتما. لقد كانت المقصورة سيئة التهوية، لكني لم أتدخل احتراما للبارونة.» «أتعنين تلك المرأة المريعة التي ترتدي الأسود؟» «أجل، تلك هي البارونة، فأنا مدينة لها. لقد وقع لبس حول مقعدي في القطار؛ فقد حجزت في مقصورات الدرجة الثانية، لكن لم يتبق بها أي مقاعد شاغرة، فتحملت البارونة للطفها الجم فارق الثمن كي أتمكن من السفر في مقصورتها بالدرجة الأولى.
تمتمت آيريس: «لكنها مع ذلك لا تبدو لي لطيفة.» «ربما تكون مرهقة في المعاملات، لكنها تنتمي إلى عائلة نلت شرف العمل معلمة لديها. ليس من الحكمة أن أذكر أسماء علنا، لكني عملت معلمة خاصة لدى أرقى عائلات البلدة؛ فتلك المقاطعات المنعزلة لا تزال محكومة بالنظام الإقطاعي، وهي متأخرة عنا بقرون. لا يمكنك تصور نفوذ ... نفوذ رب عملي السابق. ما يقوله ينفذ، دون أن يضطر لأن يتكلم حتى، بل يكفي أن يومئ برأسه.»
تمتمت آيريس التي تكره السلطة: «يا له من أمر مهين!»
وافقتها الآنسة فروي قائلة: «هو كذلك حقا، لكنه سائد في الأجواء، وبعد مدة يعتاده المرء ويصير خانعا. وهذا ليس من شيم الإنجليز. الآن وقد قابلتك، صرت أشعر بأني قوية. يجب أن نظل معا.»
لم تقطع آيريس لها وعدا بذلك؛ فالحادث المفزع لم يغيرها تغييرا جذريا، بل وتر أعصابها فحسب. كانت تتبنى ذلك الانحياز العصري لليافعين، كما أنها لا تنوي أن تظل ملازمة لامرأة عانس في خريف عمرها لما تبقى من رحلتها.
سألتها بشرود: «هل ستعودين مرة أخرى؟» «أجل، لكن ليس إلى القلعة. الأمر غريب بعض الشيء، لكني أردت أن أمضي اثني عشر شهرا آخرين كي أتقن اللهجة؛ لذا قبلت بوظيفة تدريس لأبناء ... حسنا، لنسمه زعيم المعارضة.»
خفضت صوتها حتى صار همسا. «في الحقيقة، هناك جماعة شيوعية صغيرة لكنها تتوسع، معارضة لرب عملي السابق. في الواقع، لقد وجهوا إليه اتهامات بالفساد والكثير من الفظائع الأخرى. أنا لا أشكك في صحة الأمر، فذلك ليس من شأني؛ فأنا لا أعرف سوى أنه رجل مذهل، ذو شخصية جذابة رائعة. حسب صلة الدم ... هل أطلعك على سر؟»
أومأت آيريس برأسها بوهن. كان الحر وأصوات القعقعة المتواصلة قد بدآ يشعرانها بالدوار، ولم يعد إليها الشاي حيويتها؛ فقد انسكب معظمه في طبق فنجانها. كان المحرك يرتج صعودا وهبوطا فوق القضبان المعدنية وكأنما يترنح، نافثا حلقات من الدخان الحار الذي كان يتدفق من جوار نوافذه.
تابعت الآنسة فروي روايتها المتسلسلة، بينما استمعت لها آيريس باستسلام وضجر. «كنت متشوقة جدا لأن أودع، أودع رب عملي، كي أطمئنه أن عملي لدى العدو - إن جاز التعبير - ليس خيانة له. أخبرني خادمه وأمين سره أنه غادر إلى كوخ صيده، لكني شعرت بطريقة ما أنهما يحاولان إثنائي عن مقابلته. على كل حال، ظللت مستلقية على سريري دون أن أنام حتى الصباح الباكر، وقبل شروق الشمس، سمعت صوت مياه تتدفق في الحمام. وقد كان هو الحمام الوحيد في القلعة يا عزيزتي فتصميمها بدائي، مع أن غرفة نومي كانت تشبه جناحا ملكيا كتلك التي نراها على المسرح؛ فأثاثها كله مذهب ومصنوع من القماش المخملي بلون أزرق كريش الطاوس، وبها مرآة كبيرة دائرية مثبتة في السقف. على أي حال، تسللت من غرفتي مثل فأر، فصادفته في الممر. وقفنا رجلا عاديا أمام امرأة عادية. أنا في ثوبي المنزلي، وهو في رداء الاستحمام، وشعره مبتل ومبعثر، لكنه كان يبدو ساحرا، بل إنه حتى صافحني وشكرني على خدماتي.»
توقفت الآنسة فروي كي تدهن آخر قطعة خبز بالزبد، ثم تنهدت تنهيدة ارتياح سعيدة وهي تمسح أصابعها اللزجة.
وقالت: «لا يسعني أن أخبرك كم شعرت بالارتياح لأني سأغادر تحت تلك الظروف الحسنة؛ فأنا أحاول دائما أن أظل على وفاق مع الجميع. بالطبع، أنا لست بالشخص المهم، لكني بوسعي أن أدعي صدقا أني لا أملك أي أعداء على الإطلاق في ذلك العالم.»
الفصل التاسع
أبناء وطن واحد
قالت الآنسة فروي: «والآن، الأحرى بنا أن نعود إلى مقصورتنا لنفسح مكانا للآخرين.» قدم النادل، الذي كان انتهازيا ويجيد الحكم على الأشخاص، الفاتورة لآيريس. لم تستطع قراءة الأرقام المكتوبة بخط غير منتظم، فوضعت ورقة نقدية ونهضت من مقعدها.
سألتها الآنسة فروي: «ألن تنتظري باقي نقودك؟»
عندما قالت لها آيريس إنها ستتركها بقشيشا، شهقت. «لكن ذلك مبلغ هائل جدا، كما أنهم يضيفون بالفعل نسبتهم على الفاتورة. أنا أدرى منك بالعملة المحلية، فلم لا تدعيني أسوي حساب كل شيء؟ سأدون المدفوعات، ثم يمكننا أن نسوي حسابنا في نهاية الرحلة.»
كانت تلك الواقعة دليلا جديدا على أن مربع الحماية براحة يدها يؤدي عمله بكفاءة. فمع أنها تسافر وحيدة، ها قد ظهرت في طريقها مرافقة سياحية تتمتع بالكفاءة لتعرض عليها أن تتحمل عنها جميع المسئوليات والمخاوف.
قالت في نفسها وهي تتبع الآنسة فروي في عربة المطعم المتأرجحة: «هي امرأة محترمة، مع أنها مضجرة للغاية.»
لاحظت أن الأختين فلود-بورتر، اللتين لم تكونا قد انتهتا بعد من احتساء شايهما الفاخر، لم تعبئا بها، بل نظرتا بإمعان إلى رفيقتها فحسب.
بدورها نظرت الآنسة فروي إلى الآنسة روز باهتمام صادق. «هاتان السيدتان إنجليزيتان. هما تنتميان إلى طبقة إنجليزية في طريقها إلى الاندثار؛ طبقة الأثرياء المهذبين الذين يسكنون بيوتا كبيرة ولا ينفقون دخلهم. أنا حزينة للغاية أنها تندثر.»
سألتها آيريس: «لم؟» «مع أني امرأة عاملة، أشعر أن الأشخاص اللطفاء المترفين يرمزون إلى العديد من الأمور الجيدة؛ إلى التقاليد، وأعمال الخير، والمنزلة القومية. ربما لا ينظرون إلينا باعتبارنا أندادا لهم في المقام، لكنهم يحرصون بحس العدالة لديهم على أن نحصل على حقوق مساوية.»
لم تتكلم آيريس، مع أنها أقرت في نفسها أنه أثناء إقامتهم في الفندق، كانت الأختان فلود-بورتر أكثر حرصا على الأرواح والممتلكات من أصدقائها.
بينما كانتا تقطعان رحلتهما الطويلة المهتزة خلال القطار، أدهشتها روح الآنسة فروي اليافعة.
كانت ضحكتها تجلجل كلما اصطدمت بأحد الركاب الآخرين، أو أجبرتها انتفاضة من المحرك على الإمساك بعمود.
بعد أن شقتا طريقهما إلى ممر أقل ازدحاما، أبطأت سيرها لتسترق النظر من نوافذ المقصورات الخاصة. إحدى تلك المقصورات جذبت انتباهها لدرجة كبيرة، فدعت آيريس لأن تشاركها ما تراه.
قالت تحثها: «تعالي ألقي نظرة. يوجد زوجان بهيان، يبدوان كنجمي أفلام تجسدا في الواقع.»
كانت آيريس تشعر بالتعب الشديد، فلم تكن تأبه لأي شيء إلا إن كان حادث تصادم قطار، لكن بينما كانت تمر من جانب الآنسة فروي، نظرت تلقائيا خلال النافذة لتجدهما الزوجين الحديثين اللذين كانا ينزلان بالفندق.
حتى من خلال حدود الفتحة الضيقة، ظل الزوجان تودهانتر محافظين على أجواء الترف والانعزال التي يعكسانها. كانت الزوجة ترتدي زي سفر فاخرا لا ترتديه سوى النجمات في مشاهد رحلاتهن داخل استديوهات التصوير، وكانت حولها مجموعة كبيرة من الممتلكات الفخمة.
قالت الآنسة فروي بانبهار: «تصوري أنهما يتناولان فواكه الدفيئة مع الشاي؛ العنب والنكتارين ... إنه يتطلع إليها بهيام شديد، لكني لا أرى إلا جانب وجهها، الذي يبدو كتمثال جميل. أرجوك سيدتي أديري رأسك.»
تحققت أمنيتها؛ إذ صادف أن نظرت السيدة تودهانتر تجاه النافذة فور أن نطقت تلك العبارة. قطبت جبينها عندما رأت الآنسة فروي، ثم قالت شيئا لزوجها الذي قام على الفور وأسدل الستار.
مع أنها لم تشارك في الأمر، شعرت آيريس بالخجل من تلك الواقعة، لكن الآنسة فروي كانت تتأجج حماسة.
قالت: «سيتعرف علي إن رآني مجددا. لقد نظر إلي وكأنما يريد أن يقتلني. وهذا أمر طبيعي؛ فأنا أمثل له العالم الأرضي، الذي يريد أن ينساه، فهو الآن في الجنة. لا بد أن الوقوع في حب شخص آخر أمر مدهش.»
علقت آيريس قائلة: «ربما لا يكونا متزوجين؛ إذ يمكن لأي شخص أن يشتري خاتم زواج.» «أتعنين أن حبهما آثم؟ يا للأسف! فهما يبدوان رائعين للغاية. أي اسم دونا في سجلات الفندق؟» «تودهانتر.» «إذن، فهما متزوجان بالفعل. أنا سعيدة جدا لذلك. إن كانا في علاقة غير شرعية، كانا سيسجلان باسم «براون» أو «سميث»، هذا ما يحدث دائما.»
بينما كانت آيريس تستمع لسيل الكلمات المندفع من خلفها، أربكها مجددا التناقض بين شخصية الآنسة فروي ومظهرها. كانت أشبه بجنية غابات محبوسة داخل جسد عانس عجوز.
عندما بلغتا نهاية الممر، دفعها حدسها لا إراديا لأن تنظر إلى المقصورة التي ترقد بداخلها الفتاة المصابة. لمحت الجسد المسجى والوجه المختبئ وراء الضمادات، ثم أشاحت ببصرها قبل أن تلتقي عيناها بعيني الطبيب.
كانت عيناه تخيفانها؛ إذ تنمان عن قوة آسرة مهلكة. كانت تدرك أنهما لن تؤثرا بها في الظروف العادية، لكنها الآن كانت قد بدأت تشعر بأن رأسها ثقيل وأنها غير حقيقية، وكأنها في حلم تعاظم فيه كل شعور.
كانت تلك الحالة في الأغلب هي عرض ناتج عن ضربة الشمس التي تعرضت لها، وساهمت فيها أيضا محاولتها أن تظل صامدة حتى تبلغ نهاية رحلتها حيث سيتسنى لها أن تنهار بأمان. كانت توجه كل طاقتها نحو هدف واحد فقط، مستنفدة بذلك طاقتها.
ونتيجة لذلك كانت عرضة لتصور عداوات خيالية. عندما لمحت الوجوه المبهمة داخل المقصورات المعتمة، تراجعت كارهة أن تدخلها.
لكنها تلقت دعما لم تتوقعه من الآنسة فروي، التي خمنت بحدسها عدم رغبتها في الدخول.
فقالت هامسة: «دعينا لا نجلس صامتتين كأطفال الملاجئ أكثر من ذلك . حتى إن كنت مدينة للبارونة، فسأذكر نفسي أن هؤلاء الأشخاص ليسوا سوى أجانب، وليس بوسعهم أن يؤثروا علينا؛ فنحن إنجليزيتان.»
مع أن ذلك التذكير كان بمثابة وطنية تناقصت إلى الحد الأدنى من الجنجوية التطرفية، فإنها شجعت آيريس على دخول المقصورة وقد استعادت شيئا من طيشها المعهود. نسيت الحذر، وأشعلت سيجارة دون أن تنظر إلى الركاب الآخرين.
سألت آيريس الآنسة فروي: «هل سافرت كثيرا؟»
أجابتها بندم: «داخل أوروبا فحسب. لا تحب أمي أن أبتعد كثيرا عن أرض الوطن، لكنها تؤمن أن الجيل الجديد يجب ألا يحرم حريته، لكني مع ذلك وعدتها أن أظل داخل حدود أوروبا، مع أنني كلما مررت بالقرب من خط حدودي أود بشدة لو عبرته إلى آسيا.» «هل أمك طاعنة في السن؟» «كلا، بل هي بالأحرى فتاة يافعة في عمر الثمانين. هي امرأة مرحة تملك روح فتاة عصرية. أبي يبلغ من العمر سبعة وسبعين عاما. لم يخبرها قط أنه أصغر منها، لكن سره انكشف عندما أحيل للتقاعد من عمله في عمر الخامسة والستين. تضايقت أمي المسكينة للغاية عندما علمت بالأمر، وقالت له: «لقد جعلتني أشعر كأنني عجوز استغلت شابا يافعا وتزوجت منه.» يا إلهي، لا أصدق أني سأراهما مجددا عما قريب.»
راقبت آيريس الدخان المتصاعد من سيجارتها بينما كانت تستمع إليها. كانت أحيانا ترى وجها صغيرا مبهما يتراقص خلال الدخان، مثل إرسال تلفاز مشوش. بدافع امتنانها للخدمات التي قدمتها لها فيما سبق - والتي ستقدمها لها فيما سيأتي - حاولت أن تشعر بشيء من التقدير تجاه الوالدين العجوزين، لكنها كانت تشعر بضجر شديد من تلك الملحمة الأسرية التي ترويها لها رفيقتها.
علمت أن أباها رجل طويل ونحيل، ذو هيئة كلاسيكية، بينما أمها قصيرة ممتلئة القوام لكنها وقورة الهيئة. على ما يبدو، يمتلك الأب حماسة وطاقة متقدتين؛ إذ بدأ يتعلم اللغة العبرية في عمر يناهز السبعين.
قالت الآنسة فروي موضحة: «لقد وضع جدولا زمنيا مفصلا لكل شهر من حياته حتى يبلغ التسعين. تلك هي النتيجة الحتمية لأن يكون المرء ناظر مدرسة . والآن، أمي تعشق بشدة الروايات. الروايات الرومانسية، كما تعلمين. وهي تقطع مسافة كبيرة كل أسبوع بالحافلة كي تبدل الكتاب الذي استعارته من المكتبة، لكنها لا تستطيع تخيل أحداثها على نحو صحيح إلا إذا جعلتني أنا بطلتها.»
قالت آيريس: «أنا واثقة أنك حظيت بأوقات رائعة.»
كرهت الآنسة فروي تلك المحاولة للتلطف.
فقالت: «حظيت بأوقات رائعة ولا أزال. كان أبي قسا قبل أن يكون ناظر مدرسة، وكان رعاياه دائما يطلبون يدي للزواج. أعتقد أن السبب في ذلك هو أني أملك شعرا مجعدا فاتح اللون، وأني لا أزال أملك الحماسة والأمل في تحقيق ذلك المطلب الأزلي. أظل أذكر نفسي أن كل فتاة صغيرة ولد لها فتى صغير، حتى إن لم نلتق بعد، فنحن نكبر معا، وإن قدر لنا اللقاء فسنلتقي.»
فكرت آيريس بتشكك في الرجال الناضجين الذين يأبون الالتزام بالمواعيد، بينما كانت تستمع لرفيقتها بحنق متزايد. كانت تريد أن تنعم بالسكون، لكن صوت الآنسة فروي ظل يتحدث على نحو متواصل، مثل شريط فيلم سينمائي ناطق يكر.
لكن بعد فترة وجيزة، جذبت الآنسة فروي اهتمامها مرة أخرى عندما بدأت تتحدث عن اللغات.
قالت: «أنا أتحدث عشر لغات، وفيها الإنجليزية. عندما يكون المرء في بلد أجنبي، في البداية لا يفهم كلمة واحدة، ويشعر كأنه جرو ألقي في بحيرة، ثم يتخبط ويجاهد؛ لذا يكون مضطرا ببساطة لأن يتعلم لغتها، إلا إن كان يريد أن يغرق. وبعد عام، يكون قد تمكن منها كمتحدثيها الأصليين، لكني دائما أصر على البقاء لعام آخر، بدافع تحسين تعبيراتي الاصطلاحية.»
قالت آيريس: «أنا أتوقع أن يتحدث إلى الأجانب بالإنجليزية.» «ربما لا يفعلون في الأماكن النائية، وحينها قد يجد المرء نفسه في معضلة كبيرة. هل تودين سماع قصة حقيقة؟»
دون أن تنتظر الآنسة فروي أي تشجيع من جانب آيريس، بدأت تروي قصة لم يكن القصد منها التخفيف من حدة توتر آيريس. كانت القصة مبهمة للغاية ولم تفصح عن هوية أبطالها، لكن الشاهد منها كان جليا.
شخصت امرأة معينة بالجنون، لكن بسبب لبس ما ، أخطأت عربة الإسعاف المنزل وأخذت عنوة امرأة إنجليزية لا تفقه كلمة واحدة من لغة البلد، وليس لديها أدنى فكرة عن وجهتها. في خضم انفعالها وهلعها عندما وجدت نفسها داخل مصحة نفسية خاصة، بدأت تتصرف باحتدام وعنف جعلهم يعطونها عقاقير مهدئة في بداية الأمر.
عندما اكتشفوا الخطأ، خشي الطبيب - الذي كان شخصا معدوم الضمير - أن يقر به؛ فقد كان حينها يمر بضائقة مالية، وخشي أن يدمر ذلك الخطأ سمعته؛ لذا نوى أن يبقي السيدة الإنجليزية داخل المصحة لبعض الوقت ثم يفرج عنها بعد أن يقر بأنها شفيت رسميا.
قالت الآنسة فروي وهي تستدعي نبرة الأسى في صوتها: «لكنها لم تعلم أنها لن تظل حبيسة المصحة مدى الحياة. كان ارتياعها من الموقف سيقودها على الأرجح إلى الجنون حقا، لولا أن إحدى الممرضات كشفت خطة الطبيب بدافع الانتقام، لكن هل لك أن تتصوري ذلك الموقف العصيب الذي وقعت فيه تلك السيدة الإنجليزية المسكينة؟ حبيسة، لا أحد يسأل عنها، أو حتى يلاحظ اختفاءها، فهي مجرد سيدة أجنبية لا أصدقاء لها، تقضي ليلة في هذا النزل، وليلة في ذاك. لم تكن تفهم كلمة واحدة، ولم يكن بإمكانها أن تشرح ...»
قاطعتها آيريس قائلة: «رجاء توقفي. أستطيع تخيل ذلك كله، وبوضوح، لكن هل تمانعين أن نتوقف عن الكلام؟» «بالطبع لا. هل أنت على ما يرام؟ يصعب أن أعرف يقينا، فقد لفحت الشمس وجهك، لكني أظن أني رأيت وجهك يشحب مرة أو مرتين.» «أنا بخير حال، شكرا لك! لكن رأسي يؤلمني قليلا؛ فقد أصبت بضربة شمس خفيفة.» «ضربة شمس؟ متى؟»
كانت آيريس تعرف أنها مضطرة لإشباع فضول الآنسة فروي، فحكت لها باختصار عن النوبة التي تعرضت لها. في أثناء ذلك، كنت تجول ببصرها داخل المقصورة. كان من الواضح من وجوه ركابها التي خلت من التعبيرات أنهم جميعا لا يعرفون الإنجليزية، عدا واحدة.
لم تستطع آيريس أن تجزم بشأن البارونة. كان يرتسم على وجهها ذلك القدر الضئيل من الغباء الذي يميز الحكام الذين يولدون في السلطة، لا أولئك الذين يصعدون إليها بحنكتهم، لكن كان في عينيها بريق ذكاء فضح اهتمامها المستتر بقصة آيريس.
صاحت الآنسة فروي التي كانت تفيض عطفا: «يا لك من مسكينة! لم لم توقفيني عن الثرثرة من قبل؟ سأعطيك حبة أسبرين.»
مع أن آيريس كانت تكره أن تثير ضجة، شعرت بالارتياح عندما استطاعت أن تسترخي في مقعدها بينما تفتش الآنسة فروي في محتويات حقيبتها.
قالت بحسم: «أظن أنه من الأفضل ألا تتناولي عشاءك في عربة المطعم. سأحضر لك بعض الطعام إلى هنا فيما بعد. والآن، تناولي تلك الأقراص، وحاولي أن تنامي قليلا.»
حتى بعد أن أغمضت آيريس عينيها، كانت تسمع الآنسة فروي لا تزال تحوم حولها، مثل طائر صغير يحرس عشه.
منحها ذلك شعورا غريبا بالأمان، وكانت المقصورة دافئة فما لبثت أن شعرت بنعاس لذيذ.
بينما أخذ مفعول الدواء يظهر، بدأت أفكارها تتشوش، فيما ظلت رأسها ترتج للأمام. وما لبثت أن فقدت حسها بالمكان، فشعرت كأنها تنطلق إلى الأمام مع حركة القطار وكأنها تمتطي حصانا. وأحيانا كانت تشعر أنها تقفز من فوق حاجز، عندما كان مقعدها ينسحب من تحتها ليتركها معلقة في الهواء.
كلاكنكتي-كلانكتي-كلانك. ظل الصوت متواصلا، وظلت هي تتحرك بثبات لأعلى. كلاكنكتي-كلانكتي-كلانك. ثم تغير إيقاع صوت القطار، فشعرت كأنها تنزلق في مسار منحدر عكسيا. كليك-كليك-كليك-كليك. كانت العجلات تقعقع فوق القضبان، محدثة صوتا كصوت الصنوج.
وكانت تغيب أكثر فأكثر، بينما أخذت المقصورة ترتج مثل محرك طائرة. كانت تحملها بعيدا - وتدفعها إلى خارج المقصورة - نحو حافة هاوية.
فجأة، استيقظت فاتحة عينيها. كان قلبها ينبض بسرعة، وكأنها سقطت من مكان مرتفع. في البداية تساءلت أين هي؛ ثم عندما بدأت تتعرف على محيطها تدريجيا، وجدت أنها تحدق بالبارونة.
شعرت بارتباك طفيف، فأشاحت بوجهها عنها بسرعة، ونقلت بصرها إلى المقعد المجاور.
لدهشتها، كان مقعد الآنسة فروي خاويا.
الفصل العاشر
المقعد الخاوي
كانت آيريس سعيدة للغاية لغياب الآنسة فروي؛ فقد أربكتها قيلولتها بدلا من أن تعينها على استعادة حيويتها، وشعرت أنها لن تطيق حلقة أخرى من مسلسل تاريخ الأسرة. كانت تريد أن تحظى بالسكينة. وبينما كان من المستحيل أن تنعم بالهدوء وسط هدير القطار وزئيره، كانت ترى أنها تستحق أن تحظى على الأقل بالخصوصية.
نظرت إلى الركاب الآخرين، فرأت أنها في مأمن من خطر أن يحاول أحدهم التواصل معها، فلم يعرها أي منهم انتباها. كانت البارونة نائمة في مقعدها، بينما جلس الركاب الآخرون في صمت دون حراك. داخل المقصورة، كانت الأجواء دافئة ومكتومة.
لقد سكنت تلك الأجواء آيريس وجعلتها في حالة من النعاس الهادئ. شعرت بتبلد في المشاعر والفكر، وكأنما دخلت في شبه غشية فصارت عاجزة عن تحريك أناملها، أو نطق كلمتين متتابعتين. رفرفت رقع من مناظر طبيعية خضراء بجوار النافذة، كسرب من الطيور ذات اللون الزمردي. كانت أنفاس البارونة الثقيلة تعلو وتنخفض بانتظام مثل المد والجزر.
خشيت آيريس نوعا ما عودة الآنسة فروي، التي ستكسر حتما تعويذة السبات تلك. كانت تترقب في أي لحظة سماع وقع خطواتها السريعة في الممر. على الأرجح ذهبت كي تغسل وجهها، وبسبب الازدحام، اضطرت لأن تتنظر حتى يحين دورها.
آملة خيرا، أغلقت آيريس عينيها مجددا. في البداية كانت تتوجس خيفة عندما تسمع أي شخص يمر بجوار نافذة المقصورة، لكن مع كل إنذار خاطئ كان شعورها بالأمان يزداد. لم تعد الآنسة فروي تمثل لها تهديدا، وصارت مجرد اسم، وعاد أبواها الثمانينيان إلى مكانهما الصحيح داخل ألبوم صور فوتوغرافية قديم، حتى سقراط - الكلب الهجين الغبي كثيف الشعر، الذي كانت آيريس قد بدأت تحبه - صار مجرد ذكرى محببة.
كلاكنكتي-كلانكتي-كلانك. تعالى صوت الأنفاس حتى صار كصوت بحر هائج ترتطم أمواجه بالصخور. كان صوت هدير القطار يطغى عليه، لكنه كان يعلو متماشيا مع إيقاع ضجيج المحرك. كلاكنكتي-كلانكتي-كلانك.
فجأة، علا صوت غطيط البارونة حتى صار كنهيم الفيل، فاستيقظت آيريس مجفلة. اعتدلت في مقعدها، يسيطر عليها واجس من الخوف وقد تيقظت جميع حواسها. أيقظت الصدمة حاسة سابعة جعلتها تتنبأ بكارثة عندما نقلت بصرها بسرعة إلى مقعد الآنسة فروي.
كان لا يزال خاويا.
اندهشت من غصة الإحباط التي شعرت بها؛ فمنذ وقت ليس بطويل، كانت تأمل أن تتأخر عودة الآنسة فروي، لكنها الآن بدأت تشعر بالوحدة وتتوق للترحيب بها.
أقرت في نفسها: «أتوقع أنني سألعن وجودها قريبا جدا، لكن على كل حال هي بشر.»
نظرت إلى الشقراء الحسناء التي كانت قد بدأت تذكرها بتمثال من الشمع في واجهة محل. لم تكن ثمة خصلة واحدة من شعرها المموج المبسوط ذي اللون الذهبي كالشهد شاردة، حتى عيناها كان لهما شفافية الشمع الأزرق.
أصابها التباين بينها وبين حيوية العانس ضئيلة الجسد بالقشعريرة، فنظرت إلى ساعتها. كان الوقت متأخرا فعلمت أنها غفت لوقت أطول مما توقعت، وشعرت أيضا بالقلق تجاه غياب الآنسة فروي الطويل.
قالت في نفسها: «لقد غابت لوقت يكفي للاستحمام. آمل ... آمل ألا يكون قد أصابها مكروه.»
كانت تلك الفكرة مزعجة لدرجة اضطرتها لأن تبذل كل ذرة من المنطق كي تطردها من ذهنها.
قالت في نفسها: «تلك فكرة سخيفة، فما الذي يمكن أن يحدث لها؟ الليل لم يحل بعد لأظن أنها فتحت بابا على سبيل الخطأ فسقطت من القطار في جنح الظلام، كما أنها مسافرة محنكة - لا حمقاء عاجزة مثلي - وتتقن لغات عدة.»
تراقصت ابتسامة على شفتيها وهي تتذكر إحدى مواطن الثقة بالنفس لدى العانس ضئيلة الجسد. «تمنحني اللغات إحساسا بالقوة. إن حدثت أزمة ما في مقصورة قطار، ولم يكن ثمة مترجمون فوريون، فبمقدوري أن أتقدم لأسد تلك الثغرة، وأغير مسار العالم.»
كانت تلك الذكرى بمثابة أحد التفسيرات المحتملة لمقعد الآنسة فروي الخاوي. هي على الأرجح تشبع غريزتها الاجتماعية بالحديث مع الغرباء الودودين؛ فهي لا يفصلها عنهم حاجز اللغة، كما أنها كانت مفعمة بروح الإجازة، وكانت تريد أن تخبر الجميع أنها عائدة إلى الوطن.
قالت آيريس مقررة: «سأمنحها نصف ساعة أخرى. هي حتما لن تغيب أكثر من ذلك.»
عندما نظرت من النافذة، ملأت السماء الملبدة بالغيوم قبيل الغروب نفسها بالكآبة. كان القطار ينزل تدريجيا من فوق أراض مرتفعة، وكان الآن يقطع واديا أخضر مشجرا . كانت أزهار الزعفران البنفسجية تبرز لأعلى وسط المراعي الكثيفة التي غمقت الرطوبة لونها. كان المشهد خريفيا بحق، فجعلها تدرك أن الصيف ولى.
مر الوقت بسرعة شديدة؛ لأنها كانت تخشى انقضاء المهلة التي حددتها. إن لم تعد الآنسة فروي فستضطر لاتخاذ قرار ما، وهي لا تدري ما الذي يجب عليها أن تفعله. ذكرت نفسها أن الأمر لا يعنيها على الإطلاق بالطبع، لكن قلقها ظل يتزايد مع كل خمس دقائق تنقضي من مهلتها التي تمر سريعا.
في تلك الأثناء، كان هناك حركة بين الركاب الآخرين. بدأت الفتاة الصغيرة تتذمر على نحو مثير للأعصاب، بينما كان الأب يحاول أن يتفاهم معها بالمنطق. خمنت آيريس أنها تشكو قلة النوم، وأنه نجح في إقناعها بأن تغفو قليلا، عندما رأت تحضيرات الأم كي تحافظ على مظهرها المهندم أثناء ذلك.
بعد أن نزعت حزامها الأسود اللامع، وياقتها المصنوعة من قماش الأورغاندي، أخرجت شبكة ووضعتها بعناية فوق شعرها المموج. ظهر على الشقراء الحسناء بوادر الحياة لأول مرة وهي تراقب تلك العملية، لكن اهتمامها ما لبث أن خبا عندما نزعت الأم حذاء ابنتها ذا الإبزيم وألبستها خفا منزليا رثا.
وأخيرا، أشارت إلى مقعد الآنسة فروي الخاوي.
شعرت آيريس بفورة غضب لا تتناسب مع الموقف عندما رأت الفتاة الصغيرة تجلس في مقعد العانس. تمنت لو أنها استطاعت أن تعترض بالإشارات، لكنها كانت تخشى على صورتها أمام الناس فلم تشأ أن تجعل من نفسها أضحوكة.
قالت في نفسها: «عندما تعود الآنسة فروي، ستطردها على الفور من مقعدها.»
لكن عندما أمعنت التفكير، صارت غير واثقة من أنها ستتصرف بذلك الحزم؛ فعندما تذكرت روح الود التي كانت تقابل بها الآنسة فروي الجميع، شعرت أنها لا بد أن تكون قد بنت بالفعل علاقة متفهمة ودودة مع باقي الركاب.
كانت الفتاة الصغيرة ناعسة لدرجة أنها أغمضت عينيها فور أن تكومت في المقعد. نظر والداها أحدهما إلى الآخر وابتسما. جذبا انتباه الشقراء الحسناء، فحيتهما برأسها في استحسان متأدب. وحدها آيريس ظلت خارج الدائرة.
لما كانت هي الدخيلة الفعلية بينهم، كانت تعلم أنهم منحازون ضدها بإجحاف، لكنها كرهت أن تراهم يحتلون مقعد الآنسة فروي بذلك الهدوء. بدا لها أن الركاب الآخرين يستغلون فرصة غيابها؛ إذ لن تستطيع أن تحمل طفلة نائمة على ترك المقعد.
أو ربما حتى كانوا يتصرفون بناء على معلومة سرية وردتهم.
إذ كانوا يتصرفون كأنما يعلمون يقينا أنها لن تعود. هلعت آيريس عندما نظرت إلى ساعتها فوجدت أن نصف الساعة قد انقضى.
كان مرورها يبدو جليا خارج النافذة؛ إذ أظلمت السماء الملبدة بالغيوم أكثر، وبدأت بوادر رقع السديم تتجمع في أرجاء الحقول الخضراء الزاهية. وبدلا من أزهار الزعفران، رأت نوعا من الكمأة أو الفطر الشاحب المنبثق من الأرض.
تسللت إليها كآبة ضوء الغسق، فبدأت تشتاق إلى الرفقة. كانت تريد أن تسمع أصواتا وضحكات وترى أضواء مبهجة؛ لكن مع أنها كانت تشعر بشيء من الحنين لزمرتها، فإنها كانت تشتاق أكثر لرؤية وجه الآنسة فروي الصغير الذي تملؤه الخطوط وسماع صوتها العالي المندفع.
والآن وقد رحلت، بدت لها مبهمة كحلم. لم تستطع آيريس أن تستحضر في ذهنها صورة واضحة لها، ولم تفهم لم تركت ذلك الفراغ.
تساءلت: «ترى كيف كانت؟»
صادف أن نظرت في تلك اللحظة إلى رف الحقائب. لدهشتها، رأت أن حقيبة الآنسة فروي لم تعد موجودة.
رغم المنطق، بدأت أعصابها تختلج لذلك التطور الجديد؛ فبينما كانت تقنع نفسها أنه من الواضح أن الآنسة فروي انتقلت لمقصورة أخرى، لم تكن الملابسات تشير إلى ذلك. فبداية، القطار مكتظ للغاية، وسيكون من الصعب أن تجد مكانا شاغرا غير محجوز.
على الجانب الآخر، ذكرت الآنسة فروي شيئا حول حدوث لبس حول مقعدها. كان يحتمل أن يكون قد اتضح لها في نهاية المطاف أنه متوفر.
قالت آيريس بحسم: «كلا، لقد دفعت البارونة بالفعل فرق الثمن كي تسافر على الدرجة الأولى، وأنا واثقة من أنها لن تتركني دون أي توضيح؛ فقد قالت إنها ستحضر لي وجبة العشاء، كما أني أدين لها بثمن الشاي. ببساطة يجب أن أجدها.»
نظرت إلى الركاب الآخرين، الذين ربما يحملون مفتاح ذلك اللغز. كانت الآن مشتتة الذهن لدرجة أنها لم تعد تعبأ بالمظاهر، وبذلت محاولة في التواصل معهم. كانت تشعر أن كلمة «إنجليزية» هي الكلمة التي ستنير عتمتهم.
فسألت بالألمانية: “Wo ist die dame English?”
هزوا رءوسهم وأكتافهم تعبيرا عن عدم الفهم؛ لذا حاولت مرة ثانية بالفرنسية.
سألت قائلة: “Où est la dame English?”
لم ترتسم على وجوههم أي أمارات للفهم، فتحدثت إليهم بلغتها الإنجليزية.
سألت قائلة: «أين السيدة الإنجليزية؟»
لكن محاولاتها ذهبت سدى؛ فلم تكن هي قادرة على الوصول إليهم، ولم يظهروا هم أي رغبة في التواصل معها. فيما كانوا يحدقون بها، اقشعر بدنها من نظراتهم اللامبالية؛ إذ شعرت كأن حدود واجبات البشر المتحضرين تجاه بني جنسهم لم تعد تشملها.
فجأة تمكن منها اليأس، فأشارت إلى مقعد الآنسة فروي ثم رفعت حاجبيها على نحو مبالغ فيه كناية عن الاستفسار. تلك المرة، نجحت في أن تستثير قدرا من المشاعر؛ فقد تبادل الرجل وزوجته نظرات مبتهجة، بينما برمت الشقراء شفتيها امتعاضا؛ ثم، وكأنما استشعرت حدوث أمر مسل، فتحت الفتاة الصغيرة عينيها السوداوين، وبدأت تضحك ضحكات مكتومة ما لبثت أن قمعتها نظرة تحذيرية من أبيها.
آلمها استهزاؤهم بها، فنظرت إليهم بحنق بينما دنت من البارونة وهزت ذراعها قائلة باستجداء: «هلا استيقظت رجاء؟»
سمعت صيحة اندهاش مكتومة من الركاب الآخرين، وكأنما انتهكت حرمة أحد المقدسات، لكنها كانت منفعلة للغاية، فلم يخطر لها أن تعتذر عندما فتحت البارونة جفنيها وحدقت بها باستياء مهيب.
سألت آيريس: «أين الآنسة فروي؟»
رددت البارونة: «الآنسة فروي؟ أنا لا أعرف أحدا يحمل ذلك الاسم.»
أشارت آيريس إلى المقعد الذي تجلس فيه الفتاة الصغيرة.
وقالت: «لقد كانت تجلس هنا.»
هزت البارونة رأسها. «أنت مخطئة. لم تجلس أي امرأة إنجليزية في ذلك المقعد.»
بدأ رأس آيريس يدور، وقالت بإصرار: «لكنها كانت تجلس هنا بالفعل. لقد تحدثت معها، وذهبت لاحتساء الشاي برفقتها. أنت حتما تتذكرين ذلك.»
تحدثت البارونة بنبرة تأكيدية بطيئة. «لم يحدث شيء لأتذكره. أنا لا أفهم ما تعنينه على الإطلاق. أؤكد لك أنه لم تكن هناك أي سيدة إنجليزية في تلك المقصورة في أي وقت من الأوقات، سواك. أنت السيدة الإنجليزية الوحيدة هنا.»
الفصل الحادي عشر
إبرة في كومة قش
همت آيريس بالحديث لكنها أطبقت فمها مجددا. إذ انتابها شعور عاجز بأن ثمة صوتا يصم الآذان أخذ يصيح بها لإسكاتها؛ فقد أعطت البارونة تصريحا تناقض بشدة مع شهادة حواسها، لكنه كان مدعوما بقوة نفوذها الطاغي.
بينما كانت تنظر بثبات إلى عيني الفتاة في تحد لإنكارها، أمعنت آيريس بدورها النظر إلى التجاعيد العميقة التي تمتد من أنفها وحتى ذقنها العريض المكابر. كانت شفتاها ملتويتين في عبوس ذكرها بقناع ميلبوميني إلهة إلهام المسرح المأساوي.
أدركت أنه لا فائدة من مواصلة الاحتجاج؛ فالبارونة ستبذل ما بوسعها لإحباط أي محاولة للمعارضة. لم يكن أمامها سوى أن تهز كتفيها اعترافا بهزيمتها واستعلاء على مواصلة الجدال.
كانت رباطة الجأش البادية عليها مجرد تمويه؛ إذ شعرت في داخلها بالارتباك البالغ وهي تسترخي في مقعدها. كانت بالكاد ترى لقطات من مشهد الغسق الذي يعرض خارج النافذة، أو الركاب الآخرين. ظهرت فجأة من وسط الظلال قرية، ما لبث الظلام أن ابتلعها. رأت في لمحة خاطفة مجموعة أسقف داكنة ونهرا صغيرا بدا كلطخة بيضاء يمر من تحت جسر مسقوف.
في اللحظة التالية، اختفى برج الكنيسة والبيوت الخشبية وراءهم بينما انطلق القطار السريع في طريقه إلى إنجلترا. كان يترنح ويصر في تناغم مع أفكار آيريس. «لا وجود للآنسة فروي؟ غير معقول. تلك المرأة مجنونة حتما. هل تظنني خرقاء؟ لم تقول ذلك؟ لم؟»
كان عدم وجود دافع هو أكثر ما يؤرقها؛ فالآنسة فروى شخصية ودودة غير مؤذية؛ لذا لا يوجد ما يدعو أحدا لإسكاتها، وقد كانت على علاقة طيبة بالجميع.
لكن تظل حقيقة اختفائها قائمة، فآيريس قد صارت الآن متأكدة من أنها لن تعود إلى المقصورة. وفي نوبة مفاجئة من الانفعال، هبت واقفة.
قالت مجادلة: «هي حتما في مكان ما على متن القطار. سأعثر عليها.»
لم تقر بذلك لنفسها، لكن ثقتها كانت مشوبة بصعوبة إيجاد سبب لغياب الآنسة فروي. كانت قد اكتنفت آيريس برعايتها؛ لذا فإن انسحابها بغتة ودون رجعة هكذا لا يتسق إطلاقا مع شخصيتها الودودة الفضولية.
تساءلت: «هل تظن أنني مصابة بمرض معد؟ ففي نهاية المطاف، هي تتوق بشدة للعودة إلى والديها العجوزين وكلبها، ولا تود أن تخاطر بحدوث ما يعيق ذلك؛ لذا بطبيعة الحال، ستضحي برفقتي.»
كان سيرها في ممرات القطار تجربة مريرة للغاية. كان صعبا بالفعل حينما كانت الآنسة فروي تلعب دور القاطرة وتخلي الطريق لها. أما الآن وقد مل الركاب الجلوس داخل المقصورات المكتظة وبدءوا يخرجون منها للتمشي أو التدخين، صار الممر يعج بالركاب كما يعج البطيخ باللب.
لم تعرف آيريس كيف تطلب منهم أن يفسحوا لها الطريق، ولم تحب أن تتزاحم معهم. علاوة على ذلك، لم يفت على بعض الرجال ملاحظة جمالها. كل مرة ينعطف القطار، كانت تندفع فترتطم برجل غريب متربص، كان يظن عادة أنها تحاول التودد إليه.
رغم حنقها المتزايد، كان الشعور المسيطر عليها هو عدم الجدوى. لم يكن لديها أي أمل في إيجاد الآنسة فروي وسط تلك الفوضى. في كل مقصورة تمر بها وتسترق النظر عبر نافذتها، كانت ترى الوجوه المبهمة نفسها.
ولأن الحمى كانت قد بدأت تتملك منها، بدت لها تلك الوجوه مطموسة ومشوشة وكأنما تراها في كابوس. شعرت بالارتياح عندما رأت القس وزوجته داخل إحدى المقصورات بينما كانت قد شقت طريقها في القطار أثناء بحثها غير المجدي.
كانا يجلسان متقابلين. كانت عينا السيد بارنز مغمضتين ووجهه متجهما. رغم أن الشمس لفحت بشرته، كان من الواضح أنه ليس على ما يرام، وأنه يبذل قصارى جهده كي يصارع أعراض الدوار.
وكانت زوجته تراقبه باهتمام يشوبه الإرهاق. حمل وجهها الشاحب أمارات الأسى، وكأنما تشاطره كل وخزة ألم في مخيلتها.
لم تبتسم لآيريس عندما دلفت بصعوبة إلى المقصورة وتحدثت إليها. «آسفة على إزعاجك، لكني أبحث عن صديقتي.» «حقا؟»
حمل صوت السيدة بارنز نبرة الابتهاج المتكلف المعهودة، لكن عينيها كانتا حزينتين.
قالت آيريس مشجعة: «هل تتذكرينها؟ لقد أرسلت إليكما النادل بالشاي.»
دبت الحياة في القس.
قال: «لقد كان ذلك لطفا منها. هلا بلغتها شكري الخاص؟»
قالت آيريس واعدة إياه: «سأفعل عندما أجدها. لقد غادرت المقصورة منذ مدة، ولم تعد.»
قالت السيدة بارنز: «أنا لم ألمحها تعبر من أمام النافذة. ربما ذهبت كي تغسل وجهها. على أي حال، لا يحتمل أن تكون قد ضلت الطريق.»
لاحظت آيريس أن تركيزها منصب على زوجها، وأنها ليست مهتمة بامرأة غريبة مجهولة.
قال القس بشهامة، وهو يجاهد للوقوف على قدميه: «هل تودين أن أبحث عنها بدلا عنك؟»
جاء صوت زوجته حادا. «قطعا لا. لا تكن سخيفا يا كينيث؛ فأنت لا تعرف حتى كيف تبدو.» «هذا صحيح. سأعيقك أكثر مما سأساعدك.»
جلس القس في مقعده مرة أخرى ممتنا، ونظر إلى آيريس بابتسامة مصطنعة وسألها: «أليس أمرا مخجلا أن يكون المرء مسافرا مثيرا للشفقة إلى ذلك الحد؟»
قالت زوجته ناصحة: «إن كنت مكانك، لكففت عن الحديث.»
فهمت آيريس التلميح وخرجت من المقصورة. كانت هي أيضا ترى أن الوعكة الصحية التي يمر بها القس نكبة كبيرة؛ فهي تراه رجلا غير ذي مبادئ رفيعة فحسب، بل كانت واثقة أيضا أنه يمتلك قدرة على التخيل وعلى التعاطف مع الغير، لكنها مع ذلك لا تستطيع أن تطلب منه المساعدة لأن الطبيعة أقعدته.
بدأت تخشى أنها ستفشل في مسعاها، فاشتد إصرارها على إيجاد الآنسة فروي، فستقع على عاتقها مسئولية ثقيلة إن فشلت.
فمن بين ركاب القطار جميعا، كانت هي الوحيدة التي تشعر بغياب الراكبة المفقودة.
أخافتها فكرة إيقاظ هؤلاء الغرباء الفظين من تبلدهم. أخذ الركاب الآخرون الذين يتزاحمون للمرور من جوارها يرتطمون بها، حينها شعرت أنها تمقتهم جميعا. في خضم إنهاكها، لم تدرك أن أولئك الأشخاص ربما سيشعرون بالأمر نفسه إن وجدوا أنفسهم فجأة داخل قطار أنفاق مزدحم بلندن أو نيويورك، يزاحمهم بالمناكب غرباء غير عابئين.
عندما بلغت الجزء المحجوز من القطار، كانت الستائر لا تزال مسدلة على نافذة الزوجين تودهانتر، لكنها لمحت الأختين فلود-بورتر داخل إحدى المقصورات الخاصة. كانتا تجلسان على جانبي المقصورة الصغيرة وقد بسطت كل منهما ساقيها على مقعدها. كانت الأخت الأكبر سنا ترتدي نظارة ذات إطار قرني، وتطالع أحد كتب مطبعة «توشنيتز»، بينما كانت الآنسة روز تدخن سيجارة.
بدا عليهما الرضا البالغ بالحياة، ورغم طيبتهما كان وقوف الآخرين في الممرات يعزز كثيرا من تقديرهما لترفهما.
قالت آيريس في نفسها بأسى: «مغرورتان!»
كانتا تجعلانها تدرك مكانتها. ذكرت نفسها أنها أيضا كان يفترض أن تجلس في إحدى تلك المقصورات المحجوزة، لا أن تزاحم الآخرين كي تقتحم خصوصية أشخاص غرباء.
تساءلت عندما التقت عيناها بعيني السيدتين: «لم أصبر على ذلك؟» كانت نظرة الآنسة روز أكثر فتورا بدرجة محسوسة، وكأنما تتدرب على تجاهلها تدريجيا تمهيدا للتظاهر بعدم معرفتها في محطة فيكتوريا.
أخيرا فرغت من تفتيش القطار بالكامل عدا عربة المطعم. والآن بعد أن انتهى وقت الشاي، كان يحتلها أولئك الراغبون في احتساء مشروب أو التدخين في سكون.
ظلت آيريس واقفة عند الباب كي تتأكد من أن الآنسة فروي ليست بالداخل تبحث عن توأم روحها الذي تحدثت عنه، وبينما هي كذلك لمس شاب متطلع ذراعها. قال شيئا لم تفهمه، لكنها ترجمته إلى دعوة لاحتساء مشروب منعش، ثم رمقها بنظرة خبيثة.
أثار تصرفه الفظ غضبها فصدته، وكانت على وشك المغادرة عندما ميزت أذناها وسط صخب أصوات الرجال الحروف المتحركة المميزة للكنة الأكسفوردية.
كانت تحاول أن تتبين مصدرها عندما لمحت الطبيب ذا الذقن المدبب. ذكرها رأسه الأصلع المدبب وهو يظهر من وراء غمامة الدخان بقمر يسطع من وراء السحب. كان وجهه شاحبا ذا عظام بارزة، وكانت عيناه تظهر متضخمتين من وراء نظارته السميكة.
بينما كان الحاضرون يرمقونها بنظرة غير عابئة، شعرت أنهم يصنفونها ضمن فئة معينة من النساء.
وفجأة - ودون أي سبب - تذكرت الطبيب الذي ذكرته الآنسة فروي في قصتها المرعبة.
الفصل الثاني عشر
الشهود
كانت آيريس تعي أنها جذبت اهتمام الموجودين، إلا أن قلقها الشديد جعلها لا تبالي بذلك. رفعت صوتها وسألت سؤالا عاما. «رجاء، هل منكم من يتحدث الإنجليزية هنا؟»
دفع منظر الفتاة الجميلة الواقعة في مأزق شابا لأن يهب واقفا. كان مظهره غير مهندم، وله وجه عادي ودود، وعينان عسليتان جريئتان.
سألها سريعا: «هل يمكنني المساعدة؟»
كان صوته مألوفا لآيريس؛ فقد سمعته في محطة القطار قبل أن تصيبها ضربة الشمس مباشرة. كان ذلك هو الشاب الذي عارض نظام المحاكمة بواسطة هيئة محلفين. كان مظهره كما تخيلت بالضبط، حتى إنه كان له شعر نافر غير مشذب، من النوع الذي يستجيب للتصفيف مثل كلب مدرب، لكنه ما يلبث أن يتنافر مرة أخرى فور أن تغادره الفرشاة.
في ظروف أخرى، كانت لتنجذب له غريزيا، لكن في خضم تلك الأزمة، شعرت أنه يفتقر إلى الرزانة.
قالت في نفسها بسرعة: «يبدو من النوع الذي يغازل الساقيات، ويعامل شرطيي المرور بوقاحة.»
قال الشاب: «حسنا؟»
راعها أن اكتشفت أنه يصعب عليها التحكم في صوتها أو لملمة شتات أفكارها عندما حاولت أن تشرح له الوضع.
قالت بصوت مرتعش: «الأمر كله معقد للغاية. أنا واقعة في مأزق، لكنه على الأقل لا يتعلق بي، لكني واثقة أن هناك خطأ مريعا وقع، كما أني لا أعرف كلمة واحدة من تلك اللغة البائسة.»
قال الشاب مشجعا: «لا بأس، فأنا أتحدث اللغة. فقط أطلعيني على المشكلة.»
بينما ترددت آيريس، إذ لم تكن واثقة في اختيارها لمنقذها، نهض رجل طويل نحيل من كرسيه على مضض، وكأن الشهامة واجب تستثقله نفسه. في تلك الحالة، لم يكن مظهره الأكاديمي خادعا؛ ففور أن تحدث تعرفت آيريس على صوت بروفيسور اللغات الحديثة.
سألها بأسلوب رسمي: «هل تقبلين بخدماتي مترجما فوريا؟»
تدخل الشاب قائلا: «هو لن يفيد بشيء، فهو لا يعرف سوى قواعد اللغة. أما أنا فأعرف كيف أسب باللغة المحلية، وربما احتجنا لاستخدام بعض الألفاظ النابية.»
كتمت آيريس ضحكتها؛ إذ أدركت أنها على شفا نوبة هيستيرية.
قالت للبروفيسور: «لقد اختفت سيدة إنجليزية من على متن القطار. هي حقيقية، لكن البارونة تدعي ...»
خانها صوتها فجأة عندما لاحظت أن الطبيب ينظر إليها باهتمام بالغ، كما أن نظرة البروفيسور الباردة ذكرتها بأنها تجعل من نفسها أضحوكة.
سألها: «هلا جمعت رباطة جأشك وتحدثت بكلام مترابط؟»
كان لنبرة الفتور في صوته وقع شراب مقو؛ فقد منحها القدر الكافي من القوة لأن تختصر شرح الموقف الفعلي أمامهم في كلمات وجيزة. تلك المرة، حرصت على ألا تشير إلى البارونة، بل اقتصرت في حديثها على عدم عودة الآنسة فروي إلى المقصورة، ثم تنفست الصعداء إذ بدا أن البروفيسور مبهور من كلامها؛ فقد داعب ذقنه الطويل مفكرا بجدية.
سألها: «هل قلت إنها سيدة إنجليزية؟»
أجابته آيريس بحماسة: «أجل، الآنسة فروي. هي تعمل معلمة خاصة.» «امم، أجل. هل أنت واثقة تمام الثقة أنها ليست في أي مكان على متن القطار؟» «أجل واثقة. لقد بحثت في كل مكان.» «امم. هي على الأرجح لم تكن لتترك مقعدها المحجوز إلا لسبب وجيه. متى غادرت المقصورة بالضبط؟» «لا أعلم. لقد كنت نائمة، وعندما استيقظت لم أجدها.» «إذن الخطوة الأولى هي استجواب الركاب الآخرين. إن لم تكن السيدة قد عادت حتى الآن، فقد أفكر في استدعاء الحرس وطلب إجراء تفتيش رسمي للقطار.»
غمز الشاب بعينه لآيريس كي يلفت انتباهها لكفاءة البروفيسور.
وقال: «تلك فرصة جيدة لك لتحسين معرفتك باللغة أيها البروفيسور.»
ذكرت ملاحظته تلك آيريس بأن معرفة البروفيسور باللغة هي معرفة أكاديمية، لكن الشاب على الأرجح أكثر دراية منه باللغة الدارجة. وهذا مهم؛ فقد بدأت تعتقد أن اللبس القائم حول الآنسة فروي نابع من عدم إتقان البارونة للغة الإنجليزية. كانت لكنتها جيدة، لكنها إن لم تكن تفهم جميع ما قيل، فلن تقر بجهلها أبدا.
قررت آيريس ألا تترك أي شيء للحظ، فنظرت إلى الشاب العابث باستعطاف.
وسألته: «هلا رافقتنا أنت أيضا كي تسب نيابة عنا؟»
رد: «مثل عصفور؛ أعني مثل ببغاء. من بعدك يا بروفيسور.»
ارتفعت معنويات آيريس أثناء سيرهم عائدين إلى المقصورة. كانت لا تزال قلقة بشأن الآنسة فروي، لكن مرافقها أضفى حسا بالصحبة.
قال لها: «اسمي هير. هو اسم طويل يصعب أن تتذكريه. من الأفضل أن تناديني ماكسميليان، أو ماكس إن أحببت. ما اسمك ؟» «آيريس كار.» «سيدة؟» «بل آنسة.» «هذا جيد. أنا أعمل مهندسا هنا. أبني سدا وسط بعض الجبال.» «يبدو ذلك مسليا. أما أنا فنكرة.»
كانت تملؤها الثقة في رفيقيها من أبناء وطنها، فتهللت أساريرها مع اقترابهم من مقصورتها. كان السائحون - الجالسون على حقائب سفرهم - يعيقون الطريق، والأطفال يطارد أحدهم الآخر دون أي اعتبار لأصابع أقدام البالغين. كان هير يفوق الآنسة فروي مهارة في تمهيد الطريق؛ فبينما كانت هي تنعق لتنبيه الآخرين لمرورهم، كان هو يدفع الآخرين لإزاحتهم عن الطريق مثل كاسحة جليد.
تنحى البروفيسور جانبا كي يسمح لآيريس بدخول المقصورة أولا. لاحظت على الفور أن الطبيب ذا اللحية المدببة كان جالسا إلى جوار البارونة يتحدث إليها بنبرة خافتة سريعة. لا بد أنه غادر عربة الطعام على عجل.
جعل ذلك آيريس تشعر بشيء من التوتر.
قالت في نفسها: «إنه يسبقني بخطوة.»
كانت الأسرة تتشاطر كيسا من النكتارين، ولم ينتبهوا إلى وجودها، بينما كانت الشقراء منهمكة في تجديد طلاء شفاهها ذي اللون القرمزي. كانت البارونة تجلس جامدة كتمثال رخامي أسود ضخم.
ظهرت التماعة في عيني آيريس وهي تعلن الأمر. «لقد أتى رجلان إنجليزيان لإجراء بعض التحريات حول الآنسة فروي.»
رفعت البارونة رأسها ونظرت إليها شزرا، لكنها لم تعلق. كان يستحيل معرفة ما إذا كان ذلك الإعلان صادما بالنسبة لها.
سأل البروفيسور: «هلا سمحت لي بالدخول من فضلك؟»
كي تفسح مجالا لإجراء التحقيق، خرجت آيريس إلى الممر. من حيث وقفت، كانت ترى مقصورة الفتاة القعيدة والممرضة التي تجلس بالقرب من النافذة. رغم انشغال بالها، لاحظت أن وجهها ليس منفرا، بل متبلد فحسب.
تساءلت متوترة: «هل أبالغ في كل شيء؟ ربما لست أهلا للثقة بالفعل.»
مع أنها كانت مشفقة على المريضة البائسة، شعرت بارتياح كبير عندما ظهرت الممرضة الأصلية ذات القسمات القاسية عند الباب. اجتمعت غمامة الغموض مع الألم النابض في صدغيها فجعلاها تتشكك في نفسها.
ابتسمت عندما تحدث إليها هير.
قال: «سأتنصت عليهم؛ فالبروفيسور ربما يكون حجة في الجانب النظري، لكنه ربما يرتكب خطأ أثناء الممارسة العملية؛ لذا سأتحقق مما يقول.»
نظرت آيريس إلى ما وراء كتفه محاولة أن تتابع ما يحدث. بدا لها أن البروفيسور يجري تحقيقه بدقة وصبر واعتزاز بالنفس؛ فمع أنه انحنى احتراما للبارونة، قبل أن يبدأ في شرح الموقف، فقد كان يعطي انطباعا بعظم شأنه.
أمالت البارونة رأسها وبدا أنها طرحت سؤالا على باقي الركاب. لاحظت آيريس أنها أمعنت النظر في وجوههم جميعا بنظرتها المتعجرفة، وأن صوتها حمل نبرة سلطوية.
حذا البروفيسور حذوها واستجوبهم واحدا تلو الآخر، فلم يتلق منهم سوى هزة الرأس الحتمية التي يبدو أنها اللغة الرسمية لذلك البلد. تذكرت آيريس التجربة التي مرت بها، فهمست لهير.
قالت: «ألا يستطيعون فهم ما نقول؟»
أجابها بإيماءة من رأسه استشفت منها أنه ينصت بإمعان لما يقال ولا يريد أن يزعجه أحد. اضطرت للاعتماد على نفسها، فبنت ملاحظتها الخاصة وأبهجها أن لاحظت أن البروفيسور - مع أنه يحاضر لفصول دراسية من الجنسين - فقد كان يخشى النساء، وفيهم الطفلة الصغيرة.
فما لبث أن قصر أسئلته على رجل الأعمال الذي كان يجيب ببطء وتأن. كان من الواضح أنه يحاول بذلك مساعدة الرجل الأجنبي الذي ربما يواجه صعوبة في فهم كلامه. في النهاية، أبرز بطاقته وأعطاها البروفيسور، الذي بدوره قرأها ثم أعادها إليه مصحوبة بانحناءة رأس شاكرة.
رغم جو التهذيب السائد، فقدت آيريس صبرها فجذبت ذراع هير وسألته: «هل عرف شيئا عن الآنسة فروي؟»
أصابتها الدهشة والانزعاج عندما رأت الجدية التي ارتسمت على وجهه.
قال لها: «الأمر معقد للغاية. الحديث كله مبهم.»
بدأت ثقتها تتزعزع؛ إذ بدأت تستشعر أجواء من العداوة. لم تنزع البارونة عينيها عن وجهها طوال حديثها المقتضب، الذي استمع إليه البروفيسور باحترام بالغ. في نهاية حديثها أشارت للطبيب، وكأنما تطلب منه أن يدعم شهادتها.
حتى تلك اللحظة، كان يتابع المشهد في صمت. جعله وجهه الفاتر وعيناه الجامدتان أشبه برجل خرج من قبره للتو، كي يحضر عرضا مكررا لمسرحية الحياة، يتكرر حتى هلاكها الأبدي.
لكن فور أن بدأ حديثه بأمر من سيدته، بدأ يظهر عليه الانفعال بل وحتى الحماسة؛ إذ كان يستخدم يديه لتوكيد كلامه.
عندما فرغ من حديثه، التفت البروفيسور نحو آيريس، وقال لها: «يبدو أنك وقعت في خطأ جم؛ فلا أحد من ركاب تلك المقصورة يعرف أي شيء عن السيدة التي تزعمين أنها مفقودة.»
نظرت إليه آيريس باستنكار وسألته بحنق: «هل تعني أنها من وحي خيالي؟» «أنا لا أعرف ما الذي يتعين علي اعتقاده.» «إذن، سأخبرك. هؤلاء الأشخاص جميعا يكذبون.»
حتى قبل أن تنهي عبارتها، أدركت آيريس حماقة تلك التهمة؛ فهي تهمة عامة جدا، ولن يصدق أي عاقل أن الركاب سيتحدون معا ليدلوا بشهادة كاذبة، بخاصة الأسرة التي كانت تبدو أهلا للثقة والاحترام؛ فقد كان الأب على الأرجح يمتهن مهنة محاميها الخاص.
كان البروفيسور يوافقها الرأي؛ إذ احتدت نبرته. «هؤلاء الأشخاص الذين تتهمينهم بالكذب هم مواطنون شرفاء، تعرفهم البارونة معرفة شخصية، وتشهد بنزاهتهم. فذلك السيد المحترم ليس مدير مصرف معروف فحسب، بل هو كذلك مدير المصرف الذي تتعامل معه البارونة.» نظر سريعا بحذر إلى الشقراء وتابع قائلا: «وتلك الفتاة الشابة هي ابنة وكيل أعمالها.»
قالت آيريس محتجة: «لا يعنيني ذلك. كل ما أعرفه هو أني مدينة للآنسة فروي بثمن الشاي الذي احتسيته؛ فقد دفعت هي ثمنه.»
قاطعهما هير: «يمكننا أن نتحقق من ذلك الأمر.» إن دفعت هي فسيكون ذلك في صالحك. فقط عدي ما معك من النقود المعدنية.»
هزت آيريس رأسها نفيا.
قالت معترفة: «أنا لا أعلم كم كان معي من النقود؛ فأنا لست بارعة فيما يتعلق بحساب النقود. ودائما ما ترد شيكاتي لعدم كفاية الرصيد.»
مع أن العبوس ارتسم على شفتي البروفيسور جراء ذلك الاعتراف، لكنه تدخل إثباتا لسعة صدره.
قال: «إن احتسيتما الشاي معا، فسيتذكر النادل رفيقتك. سأستجوبه تاليا إن أعطيتني أوصاف تلك السيدة.»
كانت آيريس تخشى تلك اللحظة لأنها لا تحتفظ بصورة واضحة للآنسة فروي. كانت تعلم أنها بالكاد نظرت إليها طوال الوقت الذي قضته برفقتها؛ فأثناء احتسائها للشاي كانت الشمس تعميها تقريبا، وعند عودتهما للمقصورة ظلت مغمضة عينيها بسبب الصداع، وفي طريق ذهابهم إلى مقصورة المطعم وعودتهما منها، كانت تسير إما أمام رفيقتها أو خلفها.
قالت مترددة: «لا أستطيع إخبارك بالكثير؛ فليس بها شيء مميز ليجذب انتباهي. هي امرأة في خريف عمرها، ومظهرها عادي، ووجهها شاحب.»
سألها هير مشجعا: «أهي طويلة أم قصيرة؟ بدينة أم نحيلة؟ بشرتها سمراء أم فاتحة؟» «بين هذا وذاك، لكنها ذكرت أن لها شعرا مجعدا فاتحا.»
كرر البروفيسور: «ذكرت؟ ألم تلاحظي ذلك بنفسك؟» «لا، لكني أظن أنه بدا فاتحا، لكني أتذكر أن عينيها زرقاوان.»
قال البروفيسور معلقا: «هذا لا يفيد كثيرا.»
سأل هير فجأة: «ماذا كانت ترتدي؟» «حلة من التويد، لونها بيج ومرقطة بالبني، ومعطفا طويلا واسعا تغطي أكمامه أصابعها، وله جيوب خارجية، وطرفا كميه مخيطان، وكذلك وشاحا، كان طرفا الوشاح مربوطين بأزرار زرقاء مصنوعة من العظم، وقميصا من الحرير الطبيعي مخيطا بخيط أزرق - لكن بدرجة مختلفة - وتضع منديلا صغيرا أزرق اللون في جيب سترتها الأمامي. يؤسفني أنه فاتني ملاحظة الكثير من التفاصيل. كانت قبعتها مصنوعة من الخامة نفسها، ولها حافة مخيطة، وقمة على طراز «ريكامييه»، وتبرز من ريشة زرقاء زاهية تبدو مضحكة.»
قال هير آمرا: «توقفي. ها وقد تذكرت القبعة، هلا قمت بمحاولة أخرى لتذكر الوجه الذي تحتها؟»
كان سعيدا للغاية بنتيجة تجربته، فكانت خيبة أمله مثيرة للضحك عندما هزت آيريس رأسها نفيا على الطريقة المعهودة المستفزة. «كلا، أنا لا أذكر وجهها. كما تعلم لقد كنت أعاني صداعا مريعا.»
قال البروفيسور بأسلوب جاف: «بالضبط. يؤسفني أن ذلك هو السبب. لقد أخبرني الطبيب أنك تعرضت لضربة شمس خفيفة.»
وكأنما ينتظر إشارة للحديث، تحدث الطبيب - الذي كان يستمع بانتباه - إلى آيريس قائلا بإنجليزية بتأكيد متأن: «ضربة الشمس تلك تفسر كل شيء. لقد سببت لك هلاوس، وجعلتك تتصورين امرأة لا وجود لها. بعد ذلك، نمت وحلمت، ثم الآن استيقظت وقد تحسنت حالتك كثيرا؛ لذا لم تري الآنسة فروي. هي ليست سوى تهيؤات، أو مجرد حلم.»
الفصل الثالث عشر
حلم داخل الحلم
في البداية، منعت المفاجأة آيريس من الاحتجاج. كان ينتابها ذلك الشعور المربك بأنها العاقلة الوحيدة وسط عالم من المجانين. تحولت دهشتها إلى حنق عندما نظر البروفيسور إلى هير وأومأ له في إشارة للفهم المتبادل.
ثم تحدث إلى آيريس بنبرة رسمية. «أعتقد أن بإمكاننا أن نعتبر ذلك تفسيرا نهائيا. إن كنت أعلم بتلك الملابسات لما تدخلت. أتمنى لك الشفاء عاجلا.»
قال هير بابتسامة متشككة: «من الأفضل أن نذهب ونترك الآنسة كار لتستريح.»
شعرت آيريس كأن أحدا يكتم أنفاسها بوسادة ناعمة، فكبحت غضبها، وحملت نفسها على الحديث بنبرة هادئة. «يؤسفني أن الأمر ليس بتلك البساطة. وحسبما أرى، فهو لم ينته بعد بأي حال من الأحوال. لم قد تتصور أنني أكذب؟»
قال البروفيسور مطمئنا إياها: «أنا لا أتصور ذلك، بل أنا مقتنع أنك ارتكبت خطأ ما، لكن بما أنك أتيت على ذكر الإنصاف، فيجب أن تقري أن كفة الأدلة لا ترجح لصالحك. يجب أن أكون منصفا. هل بإمكانك أن توضحي لي ما الأسباب التي قد تدعو ستة أشخاص للكذب؟»
تيقظ حدس آيريس فجأة.
قالت: «لا أستطيع ذلك، إلا إن كان شخصا واحدا هو من ابتدأ الكذبة والباقي يدعمونه. وفي تلك الحالة، ستكون كلمتي ضد كلمته. ولأني إنجليزية مثلك، ولأن الأمر يخص سيدة إنجليزية، فمن واجبك أن تصدقني.»
أثناء حديثها، كانت ترمق البارونة بنظرة تحد واتهام. قابلت البارونة تلك التهمة بهدوء تام، لكن البروفيسور كح معترضا.
وقال: «لا تخلطي بين الوطنية والتعصب. بجانب ذلك، فإن ما تلمحين إليه غير معقول، فما دافع البارونة للكذب؟»
بدأ رأس آيريس يدور.
قالت بوهن: «لا أعرف. الأمر كله غامض للغاية، فلا أحد يرغب حتما في أن يلحق أذى بالآنسة فروي؛ فهي ليست بالشخص المهم، كما أنها كانت تتفاخر بأنه لا أعداء لها، وقد أخبرتني بنفسها أن البارونة عاملتها بلطف.»
سألت البارونة بدماثة: «ماذا فعلت؟» «أخبرتني أنه حدث لبس بخصوص مقعدها، فدفعت أنت فارق الثمن كي تسافر في تلك المقصورة.» «يا لها من لفتة طيبة مني! يسرني أن أسمع عن سخائي. مع الأسف، أنا لا أعرف شيئا عن ذلك الأمر، لكن قد يستطيع جامع التذاكر إنعاش ذاكرتي.»
التفت البروفيسور لآيريس بحكم المقتضى.
وسألها: «ماذا ينبغي أن أفعل؟ أنت تصعبين الأمر للغاية بإصرارك على وجهة نظرك تلك، لكن إن كنت مصرة فسأستجوب الرجل.»
قال هير عارضا خدماته: «سأذهب لأعثر عليه.»
كانت آيريس تعلم أنه يريد فرصة للهرب. كانت تشعر أنها تحظى بتعاطفه لكن ليس بثقته.
بعد أن ذهب، بدأ البروفيسور يتحدث إلى البارونة والطبيب، على الأغلب لمزيد من الاستفسار. كانت آيريس تتشكك في كل نظرة وكل تغير في نبرات الصوت، وخمنت أنه يشرح لهما حساسية موقفه، ويشدد على سخافة تهمتها؛ إذ بدت على البارونة وداعة نمرة متخمة تقتل بدافع المرح فحسب.
كانت سعيدة عندما عاد هير - وقد برزت خصلة شعره النافرة لأعلى مثل ريشة - مصارعا لشق طريقه في الممر، يتبعه جامع التذاكر، الذي كان شابا عفيا يرتدي زيا موحدا ضيقا للغاية، ويذكر آيريس بدمى الجنود، وتعلو وجنتيه العريضتين دائرتان قرمزيتان، وله شارب أسود مصفف بالشمع.
عند دخوله، تحدثت إليه البارونة بحدة، ثم أشارت للبروفيسور كي يتابع هو الحديث.
خلال ذلك الوقت، كان توتر آيريس قد بلغ مداه. كانت واثقة للغاية أن جامع التذاكر سيكون إحدى ضحايا التنويم الإيحائي الجماعي، فكانت متأهبة عندما قطب هير وجهه قائلا: «إنه يخبر القصة نفسها.» «بالطبع.» حاولت آيريس أن تضحك. «أتوقع أن يكون أحد فلاحيها؛ فهو يبدو ريفيا. على ما يبدو، هي تملك الجميع، وفيهم أنت والبروفيسور.»
قال محثا: «لا تنفعلي. أنا أعرف كيف تشعرين؛ فقد مررت بذلك الأمر من قبل. سأخبرك بالقصة كلها، إن استطعت أن أزحزح تلك السيدة الصغيرة من مكانها.»
قابلت الفتاة الصغيرة - التي كانت تنظر إلى هير نظرات تسبق سنها - إشارته لها بأن تترك المقعد بهز كتفيها ونظرات محتجة عابسة، لكن في نهاية المطاف عادت على مضض إلى مقعدها الأصلي، فجلس هو في المقعد الذي كانت تشغله في الأصل العانس المراوغة.
وقال لها: «هوني عليك، فما لم تكن الآنسة فروي غير مرئية، لا بد أن آخرين في القطار رأوها حتما.»
أومأت آيريس قائلة: «أعرف، لكني لا أستطيع التفكير؛ فذهني مشوش للغاية.»
فهم البروفيسور الذي كان يهم بمغادرة المقصورة المغزى من حديث هير؛ فقد عاد أدراجه ليتحدث إلى آيريس. «إن جئتيني بدليل قاطع على وجود تلك السيدة، فسأظل على استعداد للاقتناع، لكني آمل بصدق ألا تعرضينا أو تعرضي نفسك للمزيد من الإهانة.»
كانت آيريس تشعر بالإنهاك فلم تجادله.
بل قالت بوداعة: «شكرا لك! أين يمكنني أن أجدك؟» «في قسم المقصورات الخاصة.»
أضاف هير: «نحن نتشارك مقصورة صغيرة. ألم تعرفي أننا أثرياء؟ فقد أطلقنا معا سلسلة متاجر لبيع المنتجات الفاخرة.»
قالت آيريس باندفاع بعد أن غادر البروفيسور: «أنا أكره ذلك الرجل.»
قال هير محتجا: «كلا، هو ليس عجوزا فاسدا، لكنك أثرت خوفه الشديد لأنك يافعة وجذابة.»
ثم تلاشت الابتسامة من أعلى شفتيه، وقال: «أريد أن أضجرك بقصة حدثت بالفعل. منذ بضعة أعوام، شاركت في مباراة راجبي دولية باستاد تويكنهام. قبل بداية المباراة، قدم الفريقان لأمير ويلز الذي صافحنا جميعا. بعد أن سجلت الهدف الرابح - كان علي أن أشير إلى ذلك - تلقيت ركلة على رأسي أثناء إحدى الهجمات أفقدتني وعيي. فيما بعد، عندما كنت أرقد مرتاحا في عنبر خاص داخل المستشفى، دخلت علي الممرضة منفعلة وقالت إن زائرا مميزا جاء لرؤيتي.»
سألته آيريس، محاولة أن تبدي اهتماما حقيقيا: «أكان الأمير؟» «هو بنفسه. بالطبع لم يمكث لأكثر من دقيقة. ابتسم لي فحسب وقال إنه يأمل لي الشفاء العاجل، وإنه آسف لتعرضي لذلك الحادث. كنت منفعلا لدرجة أني حسبت أني لن يغمض لي جفن، لكني نمت فور أن غادر. في صباح اليوم التالي، قالت لي الممرضات: «هل أسعدتك رؤية مدربك؟» «مدربي؟» «أجل، مدرب الفريق.» لم يكن قطعا الأمير. ومع ذلك، رأيته بوضوح مثلما أراك الآن، وقد صافحني وقال كلمات لطيفة عن محاولتي. لقد بدا لي حقيقيا، وهذا ما يمكن أن يفعله مقدار ضئيل من تشوش الذهن لأفضلنا.»
زمت آيريس شفتيها بعناد وقالت: «كنت أظن أنك تصدقني، لكنك مثلهم جميعا. أرجوك اذهب .» «سأذهب لأني متأكد أنك يجب أن تنعمي ببعض الراحة. حاولي أن تنامي قليلا.» «كلا، يجب أن أفكر في ذلك الأمر. إن تركت نفسي أصدقكم جميعا فسأخشى أن أكون قد جننت. وأنا لست مجنونة. لست مجنونة.» «هدئي من روعك.» «كم تحسن تهدئة رضيع. لا ينقصك سوى قبعة مضحكة.» ثم خفضت آيريس صوتها وقالت: «اسمع. أنا ينقصني الكثير من المعرفة هنا؛ لأني لم أفهم تلك الأسئلة. هل تفهم تلك اللغة حقا؟» «صرت أعرفها أفضل من الإنجليزية الآن، وهي سهلة للغاية حتى لدرجة أن البروفيسور لا يمكن أن يخطئ بها. آسف، لكن لا يوجد أي ثغرات في أي مكان، لكنك تبدين منهكة للغاية. دعيني أحضر لك شيئا يساعدك.» «كلا، لقد وعدتني الآنسة فروي أن تحضر لي شيئا، وأفضل أن أنتظرها.»
فهم هير من نظرة التحدي في عينيها أنها مصرة على رأيها؛ لأنه كان يرى أن الآنسة فروي ما هي إلا شبح، لم يظن أن آيريس ستستفيد من أي شيء قد تحضره؛ لذا قرر أن يجدد عرضه لاحقا. أما الآن فأفضل ما يمكن أن يقدمه لها هو أن يتركها وحدها.
لكن فيما كان يهم بالمغادرة تذكر أمرا، وأشار لآيريس كي تتبعه إلى الممر.
قال معترفا: «هناك جزء صغير لم أفهمه؛ فقد تحدثت البارونة لجامع التذاكر بلكنة غريبة علي.»
صاحت آيريس بانتصار: «إذن هذا يثبت أنهما أبناء مقاطعة واحدة.» «مم! لكن هذا لا يفيدنا؛ إذ لا نعرف ماذا قالت له. سلام عليك. أراك لاحقا.»
بعد أن غادر هير، انكمشت آيريس في مقعدها، وأخذت تتأرجح مع حركة القطار. كان يمر مقعقعا خلال عدة أنفاق قصيرة متتابعة، وكان الهواء يعج بأصوات هادرة وكأنما تمر مدحاة هائلة على السماء لتبسطها. في الواقع، أصابتها تلك الضوضاء بالقلق. لم تكن قد أكلت إلا شيئا يسيرا طوال اليوم، فبدأ الإرهاق يتملك منها. لم تعتد شعور المرض؛ لذا كان الخوف يعتريها، لكنها كانت تخشى أكثر ضجيج عقلها.
أجفلت بشدة عندما ظهرت ممرضة عند الباب وأشارت للطبيب، لكنها بالكاد شعرت بالراحة لغيابه؛ فقد كانت أفكارها تتسابق في دائرة مشوشة مركزها حادثة الإغماء التي تعرضت لها. «لقد كنت على الرصيف، وفي لحظة غبت عن الوعي. أين ذهبت؟ هل كان استيقاظي في غرفة الانتظار، وتلك النسوة وذلك الحاجب العجوز المضحك حقيقيين؟ بالطبع كانوا كذلك، وإلا ما كنت لأكون على متن القطار.
لكني قابلت الآنسة فروي بعد ذلك. هم يقولون إنها من نسج خيالي، لكن إن كانت من نسج خيالي فهذا يعني أن غرفة الانتظار والقطار أيضا كذلك، وأني لست على متن القطار على الإطلاق، وأني لم أستيقظ بعد. وإن كان ذلك صحيحا فهو كفيل بأن يدفع المرء إلى الجنون.»
جاهدت لتصارع موجة الهيستيريا المتصاعدة بداخلها. «لكن ذلك غير معقول؛ فأنا مستيقظة، وأنا هنا في ذلك القطار. وهذا يعني أني قابلت بالفعل الآنسة فروي، لكني بصدد لغز ما، وعلي أن أحارب مجموعة من الأكاذيب. حسنا. إذن سأفعل.»
في تلك المرحلة، كانت قلقة على نفسها لا على الآنسة فروي. كانت مدللة منذ ولادتها؛ لذا كان من الطبيعي أن تؤثر نفسها، ولأن نفسها تلك مرحة وجذابة، فلطالما اتحد الكون كي يبقيها في تلك المكانة المميزة.
لكن الآن أنانيتها تلك كانت تتشابك مع مصير عانس مغمورة. مرة أخرى، بدأت تسترجع وقائع مقابلتهما، وفجأة زالت الغمامة التي غشت ذهنها، وبدأ جزء كان معتما في عقلها ينير.
نظرت إليها البارونة بينما نهضت بنشاط من مقعدها، وسألتها: «هل ساءت حالتك سيدتي؟»
أجابتها آيريس: «بل تحسنت، شكرا لسؤالك! سأختبر ذواكر إنجليزية، من باب التغيير. سأتحدث إلى بعض الزوار الإنجليزيين ممن كانوا معي بالفندق ورأوا الآنسة فروي.»
الفصل الرابع عشر
أدلة جديدة
الآن وقد أثبتت لنفسها أن الآنسة فروي موجودة حقا، بدأت آيريس تتساءل عما حدث لها. عندما تذكرت بحثها المكثف للقطار، تأكد لها أنها لا يمكن أن تكون على متنه، لكن أيضا يستحيل أن تكون في أي مكان آخر.
كانت الممرات والمقصورات تعج بالسياح؛ لذا يستحيل أن تكون قد فتحت بابا أو نافذة وقفزت من القطار، دون أن تلفت الانتباه لنفسها على الفور . كان من المؤكد كذلك أنه لا يمكن لأحد أن يكون قد لفها في حزمة وألقى بها على القضبان دون أن يثير انتباه الجميع.
لا يوجد مكان يصلح لأن تختبئ فيه. ولم تستطع آيريس أن تتصور سببا قد يدفعها لأن تقدم على ذلك الفعل. في المجمل، كان وجود جماعة كبيرة من الشهود يحول بينها وبين وقوع أي مكروه لها، عارضا كان أم مقصودا.
في يأس، طرحت آيريس تلك المشكلة جانبا، وقالت مجادلة: «لا يمكن إثبات أنها مفقودة حتى أثبت أنها كانت موجودة في المقام الأول. تلك هي مهمتي. بعد ذلك، يحين دور الآخرين ليكملوا من بعدي.»
عندما تذكرت معايير البروفيسور للأدلة التي يعتد بها، شعرت أنها تتفهم فخر صاحب معرض بمعروضاته؛ فشهودها يجب أن يرقوا لأعلى معايير الذوق الرفيع؛ أن يكونوا إنجليزيين حتى النخاع.
نظرت إليها البارونة عندما فتحت حقيبتها وأخرجت مرآتها الصغيرة وأحمر شفاهها. رغم أنها بدت غير مكترثة على الإطلاق، وكان وجهها يخلو من أي تعابير، كانت تعطي بطريقة ما انطباعا بأن عقلها يعمل في الخفاء، وكأنما تغزل خيوطا ذهنية.
قالت آيريس في نفسها بانزعاج مفاجئ: «إنها تحيك أمرا ضدي. يجب أن أسبقها.»
فور أن بدأت في التعجل، انهارت أعصابها مجددا. بدأت يداها ترتعشان فلطخت شفتيها بلطخة حمراء فاقعة، أشبه بفاكهة مسحوقة أكثر منها بالزهر القرمزي الذي سميت باسمه درجة اللون تلك. لم تستطع العثور على مشطها، فاستسلمت وخرجت مندفعة إلى الممر.
حدق بها الرجال وتمتمت النساء متذمرات بينما كانت تدفعهم جانبا دون اعتذار. في الواقع، كانت تعي بالكاد وجودهم، إلا كعقبات عديدة في طريقها. بعد كل ذلك التأخير، كانت تندم على كل لحظة ضاعت. في خضم انفعالها، رأت على مسافة كبيرة منها هيئة العانس الضئيلة بإبهام.
يتعين عليها الإسراع للحاق بها، لكن ظلت وجوه تحول بينها وبين هدفها؛ وجوه مبتسمة أو عابسة لغرباء. كانت ما تلبث تتلاشى مثل الضباب، لتفسح المجال لوجوه جديدة. رأت لمحات لعيون وأسنان، وأجساد متلاصقة. ظلت تدفع وتجاهد، حتى احمرت وجنتاها، وسقطت خصلة مموجة من شعرها على وجنتها.
عندما وصلت أخيرا إلى الجزء الأقل ازدحاما من الممر، ذكرها مظهر البروفيسور - وهو يدخن سيجارا بينما يتطلع من النافذة - بالتقاليد. شعرت بالخجل من نتيجة تعجلها، فبدأت تتحدث بسرعة. «هل يبدو مظهري مزريا؟ لقد كان الحشد مريعا. لم يدعوني أمر.»
لم يبتسم البروفيسور، فمع جمالها الأخاذ كان شعرها غير المصفف واحمرار وجنتيها يعطيان انطباعا عابثا لا يروق له. ولم يرق كذلك للسيد تودهانتر، الذي كان ينظر إليها بانتقاد خلال باب مقصورته الصغيرة المفتوح.
مع أنه كان يدعي أنه يجيد الحكم على جاذبية النساء، كان من النوع الذي يفضل بركة تزينها أزهار الزنبق على شلال. كان لا يقف أبدا ليتأمل صورة غير موضوعة داخل إطار، فتقديره للجمال يتوقف على أن تتهيأ الظروف الصحيحة. فالتحرر في المظهر لا يسمح به إلا في ملابس المنزل، وهو بالطبع لا يليق برحلة قطار. مع أنه رأى آيريس كثيرا، لم يلاحظها عندما كانت واحدة ضمن حشد من جميلات ترتدين ملابس قصيرة، بل لم يلاحظها قط قبل ذلك المساء الذي ارتدت فيه فستان سهرة جذابا.
سألت زوجته فيما كانت تقلب صفحات صحيفة مصورة: «من تلك الفتاة؟»
خفض صوته. «واحدة من تلك العصبة التي كانت تنزل بالفندق.» «تبا.»
في المقصورة المجاورة، رفعت الآنسة فلود-بورتر رأسها من وسادتها الجلدية الناعمة التي لا تسافر دونها. أيقظت حركتها تلك أختها من قيلولتها، فحاولت هي الأخرى أن تنصت.
غير شاعرة بجمهورها، تحدثت آيريس إلى البروفيسور بصوت عال متحمس. «لقد خذلك شهودك الرائعون. هم الستة جميعا كاذبون. هم الستة.»
نظر إلى وجنتيها المتوهجتين بقلق بارد.
وسألها: «هل زاد ألم رأسك؟» «أنا على ما يرام، شكرا لسؤالك! وأستطيع إثبات أن الآنسة فروي كانت برفقتي؛ فقد رآها النزلاء الإنجليزيون الذين كانوا معي بالفندق. سنتواصل مع المجلس البريطاني عندما نصل إلى ترييستي ليتحفظ على القطار ويخضعه لتفتيش دقيق. سترى بنفسك.»
تحمست آيريس لانتصارها المرتقب. في تلك اللحظة شعرت كأنها ترى علم الاتحاد الملكي يرفرف فوقها وتسمع أنغام النشيد الوطني.
ابتسم البروفيسور في صبر كئيب.
قال مذكرا إياها: «أنا أنتظر أن تقنعيني.» «إذن ستقتنع.» التفتت آيريس لتجد نفسها أمام السيد تودهانتر. سألته بثقة: «ستساعدني في إيجاد الآنسة فروي، أليس كذلك؟»
نظر إليها مبتسما مجاريا إياها، لكنه لم يرد على الفور، بل توقف تلك الوقفة القصيرة المتريثة التي تميز أبناء مهنته.
ثم قال لها: «سيسرني أن أساعدك، لكن، من تكون الآنسة فروي؟» «هي معلمة خاصة إنجليزية مفقودة من القطار. أنت حتما تذكرها. لقد استرقت النظر من نافذة مقصورتك فنهضت أنت وأسدلت الستار.» «هذا بالضبط ما كنت لأفعله في مثل ذلك الظرف، غير أنه في حالتنا تلك لم يحدث ذلك الظرف؛ فلم تشرفني أي سيدة بالتلصص علي من نافذة مقصورتي.»
كانت كلماته مفاجئة لدرجة أن آيريس شهقت بقوة كأنها تهوي في الفراغ.
وقالت مندهشة: «ألم ترها؟» «كلا.» «لكن زوجتك نبهتك إلى وجودها. لقد تضايق كلاكما منها.»
تدخلت السيدة تودهانتر الحسناء، والتي كانت تصغي للحديث، بنبرة لا تحمل رقتها المعهودة. «لسنا صندوقا سحريا، ولم يتلصص أحد علينا. هل تمانعين إن أغلقت الباب؟ أود أن أرتاح قليلا قبل العشاء.»
التفت البروفيسور لآيريس بلطف مصطنع.
قال: «لقد حاولت. دعيني أصحبك إلى مقصورتك.»
أزاحت آيريس يده قائلة: «كلا. لن أدع ذلك الأمر. هناك شهود آخرون. هاتان السيدتان ...»
اندفعت إلى داخل مقصورة الأختين فلود-بورتر اللتين جلستا مستقيمتين بوقار.
وقالت متوسلة إليهما: «ستساعدانني في إيجاد الآنسة فروي، أليس كذلك؟ هي سيدة إنجليزية.»
تدخل البروفيسور عندما نظرت إليه السيدتان مستفهمتين: «هلا شرحت لكما الأمر؟»
بالكاد استطاعت آيريس أن تتحكم في تبرمها وهي تستمع إلى شرحه المتكلف المهذب. كانت عيناها مركزتين على وجهي الأختين الجامدين المدهوشين، ثم تحدثت الآنسة روز. «أنا لا أذكر رفيقتك. ربما كان برفقتك أحد فعلا، لكني لم أكن أرتدي نظارتي.»
علقت الآنسة فلود-بورتر قائلة: «ولا أنا؛ لذا ستتفهمين أننا لن نستطيع مساعدتك؛ فالتعرف على شخص لسنا متأكدين من هويته يخالف مبادئنا.»
علقت الآنسة روز: «إنه أمر غير منصف البتة؛ لذا، رجاء، لا ترجعي إلينا في ذلك الأمر . إن فعلت فسنرفض التدخل.»
كادت آيريس لا تصدق أذنيها.
سألتهما بانفعال: «لكن ألا يخالف مبادئكما ألا تحركوا ساكنا لمساعدة امرأة إنجليزية ربما تكون في خطر؟»
رددت الآنسة روز باستهزاء: «خطر؟ ما الذي يمكن أن يحدث لها على متن قطار مزدحم؟ كما أن هناك أشخاصا آخرين يفوقوننا في قوة ملاحظتهم. على كل حال، لا يوجد سبب يدعوك لأن تتحاملي علينا فقط لكوننا إنجليزيتين.»
تحطمت آمال آيريس فجأة وألجمها الذهول. شعرت أن أبناء وطنها قد خانوها. ربما تتباهيان بارتدائهما فساتين سهرة حفاظا على مكانة بلديهما، لكنهما خذلتا إنجلترا. سقط علم الاتحاد الملكي ممزقا إربا عند قدميها، وتلاشت أنغام النشيد الوطني المنتصرة حتى صارت مجرد صفير مزمار صغير.
شعرت بكره شديد تجاههم جميعا جعلها تنظر بغضب إلى زوجة القس عندما أطلت برأسها من الباب.
ابتسمت السيدة بارنز ابتسامة عريضة وهي تشرح سبب وجودها. «زوجي نائم الآن؛ لذا فكرت أن آتي لنتحدث قليلا. أثناء السفر، ألعب أنا دور القائد، وهي تجربة جديدة علي، ولا أتعرض لها سوى مرة واحدة في السنة.»
كانت تتحدث في لهفة كأنها تحاول تبرير نقطة ضعف زوجها، ثم التفتت إلى آيريس التي كانت تهم بمغادرة المقصورة الصغيرة خلف البروفيسور. «لا تدعيني أكون سببا في مغادرتك.»
قالت آيريس بخيبة رجاء: «لا يوجد سبب يدعوني للبقاء؛ فأنت بالطبع لم تري الآنسة فروي، أليس كذلك؟»
سألتها السيدة بارنز: «أهي تلك السيدة الضئيلة التي ترتدي حلة من التويد، وتضع في قبعتها ريشة زرقاء؟ بالطبع أذكرها، وأذكر لطفها. نحن ممتنون للغاية لها لإرسالها النادل بالشاي.»
الفصل الخامس عشر
مشهد التحول
شعرت آيريس براحة بالغة، فكانت دموعها توشك أن تتساقط من عينيها عندما التفتت إلى البروفيسور. سألته بصوت مختلج: «هل اقتنعت الآن؟»
نظر البروفيسور إلى زوجة القس نظرة سريعة تكاد تكون اعتذارية؛ إذ كانت السيدة من النوع المألوف الذي يروق له ويستحسنه، لكن فقط عندما تكون متزوجة بالفعل من رجل آخر.
قال: «لا داعي لذلك السؤال. فما وددت إلا أن أحصل على دليل يؤيد ادعائك. أنا آسف لأني شككت بكلمتك في المقام الأول. لقد كان ذلك بسبب ضربة الشمس المؤسفة التي تعرضت لها.»
قالت آيريس مصرة: «حسنا إذن، ماذا ستفعل؟»
كان البروفيسور قد ارتكب غلطة بالفعل؛ لذا لم يكن يود أن يتسرع تلك المرة.
فقال: «أعتقد أنه من الأفضل أن نستشير هير؛ فهو خبير لغات محنك، وله عقل راجح، مع أنه قد يبدو غير مسئول في بعض الأحيان.»
قالت آيريس ملحة: «إذن لنعثر عليه في الحال.»
مع عجلتها، توقفت لتتحدث بعفوية إلى زوجة القس قائلة: «شكرا لك جزيلا! أنت لا تدرين كم يعني ذلك لي.»
سألت السيدة بارنز باندهاش: «إنه لمن دواعي سروري، لكن علام تشكرينني؟»
تركت آيريس الأختين فلود-بورتر يشرحان لها الأمر، وتبعت البروفيسور. بدا الارتياب الحقيقي على هير عندما عثرا عليه في عربة المطعم بعد بحث طويل. «عجبا، هل أثير أمر الآنسة فروي من جديد؟ لكن هناك شيئا بخصوص تلك السيدة الصالحة يشغل بالي. لا أمانع أن أعترف أني لم أصدق قط وجود تلك العجوز الودود، لكن ماذا حدث لها؟»
نزع البروفيسور نظارته كي يلمعها. دونها، بدت عيناه واهنتين لا باردتين، وأثار الحزان الحمراوان المؤلمان على جانبي أنفه تعاطف آيريس. الآن وقد صارت قضية مشتركة تربطهما وهي استعادة الآنسة فروي، شعرت آيريس بالود تجاهه.
قالت: «الآنستان فلود-بورتر لم تودا التدخل في الأمر؛ فقد بدا ذلك بوضوح، لكن لم كذب ستة أجانب بشأنها؟»
قال البروفيسور بتوتر: «لا بد أنه سوء تفاهم ما قد وقع. ربما أكون قد ...»
قاطعه هير قائلا: «كلا لم تفعل. لقد قمت بدور المترجم الفوري ببراعة يا بروفيسور، ولم تقع في أي أخطاء.»
أعجبت آيريس بسجيته السمحة الحاضرة التي دفعته إلى طمأنة البروفيسور؛ فقد كانت واثقة أنه في نفسه يراه متباهيا مملا.
تابع هير قائلا: «سنلعب اللعبة القديمة «أين السيدة»، وفي تخميني أنها متنكرة في هيئة الطبيب؛ فتلك اللحية السوداء واضحة جدا حتى إنها تسهل الأمر للغاية، أو ربما تكون هي من تسير القطار، متنكرة في هيئة محرك أنثوي. لن أستبعد أن تفعل الآنسة فروي أي شيء.»
لم تضحك آيريس.
بل قالت: «هذا ليس مضحكا، يبدو أنك نسيت أنها بجانب كونها شخصا حقيقيا، فهي لا تزال مفقودة. علينا أن نفعل شيئا ما.»
وافقها البروفيسور قائلا: «بالفعل، لكن تلك مشكلة محيرة، وأنا لا أريد أن أتصرف بشأنها دون إمعان التفكير.»
قال هير مفسرا: «هو يعني أنه يريد أن يدخن. حسنا يا بروفيسور. سأعتني بالآنسة كار ريثما تروي أنت ظمأك الذهني.»
على الجانب المقابل من الطاولة التي يغطيها رماد السيجار، ابتسم هير لآيريس.
وسألها: «هل الأمر كما فهمت؟ هل حقا الآنسة فروي تلك غريبة عنك تماما؟» «بالطبع.» «ومع ذلك أنت تكادين تفقدين صوابك قلقا عليها. لا بد أنك الشخص الأكثر إيثارا على وجه الأرض. حقا، فذلك أمر غير عادي.»
قالت آيريس معترفة بصدق: «لكني لست كذلك، بل نقيضه. وهذا هو الأمر الذي يثير دهشتي؛ فأنا لا أفهم نفسي البتة.» «حسنا، كيف بدأ الأمر؟» «على النحو التقليدي. كانت لطيفة للغاية معي، ومدت لي يد العون، وما إلى ذلك؛ لذا في البداية افتقدتها لأنها لم تعد في ظهري، لكن وبعد أن ادعى الجميع أنها من وحي خيالي، تحول الأمر كله إلى كابوس مريع. كان أشبه بمحاولة إثبات أن جميع من عداي مخطئ.» «ذلك أمر ميئوس منه، لكن لم شعرت أنك مضطرة لإثبات أنها حقيقية؟» «ألا تفهم؟ لو أني لم أفعل، لما استطعت أن أشعر أن أي شيء أو أي شخص أراه حقيقي مجددا.»
علق هير بفتور: «لم أكن لأفقد صوابي لو كنت مكانك؛ فحينها كنت لأعرف أن تلك هي الأعراض اللاحقة لإصابة بالمخ؛ ومن ثم كنت لأعتبره أمرا منطقيا للغاية.»
قالت آيريس محتجة: «لا يمكنك مقارنة تجربتك بتجربتي؛ فأنت رأيت شخصا حقيقيا لكنك خلطت بينه وبين الأمير. بينما يفترض أني تبادلت الحديث مع شبح. لا يسعني أن أخبرك كم شعرت بالراحة عندما تذكرتها السيدة بارنز.»
ارتسمت على وجهها ابتسامة مبتهجة وهي تتطلع من النافذة. الآن بعد أن رسخت قدميها في العالم المنطقي مرة أخرى ، بعد أن ظلت هائمة في غياهب العالم الخيالي، لم تستطع كآبة المنظر حولها أن تتسلل إليها. حل العصر مبكرا، فامتدت فترة الغسق مضيفة لمسة أخيرة إلى كآبة البلدة الصغيرة التي كان يمر القطار من جانبها ببطء.
كلما عبروا من أمام شارع، كانت آيريس ترى محال متواضعة تعرض سلعا يسيرة مثيرة للشفقة، وطرقا مرصوفة بالحجارة، ولمحات من نهر مزبد زاخر من خلال الفجوات بين المباني. بدت البيوت - التي تتشبث بالتلال الصخرية مثل رقع من نبات الحزاز على سطح منزل - شبه متهدمة بفعل الزمن والعوامل الجوية. منذ زمن بعيد، طلي خشبها وجصها باللون الرمادي، لكن المطر محا لون بعض الحوائط والشمس أبلتها فصار لونها أبيض متسخا. كان كل جانب بالبلدة ينم عن الفقر والعزلة.
قالت آيريس مقشعرة أثناء مرورهم بجوار بوابة حديدية صدئة وراءها حديقة نمت بها أعشاب الحماض: «يا له من مكان مريع! أتساءل من بإمكانه أن يطيق العيش هنا، عدا المنتحرين.»
قال هير مقترحا: «الآنسة فروي.»
توقع أن تثور ثائرة آيريس، لكنها لم تكن تصغي إليه.
سألته: «متى نصل إلى ترييستي؟» «في الساعة العاشرة وعشر دقائق.» «وهي الآن السادسة إلا خمس دقائق. لا ينبغي أن نهدر المزيد من الوقت. يجب أن نعثر عليها. أعلم أن ما أقول يبدو تماما مثل فيلم رديء، لكن أسرتها تترقب عودتها إلى المنزل. أبواها عجوزان ومثيران للشفقة، وكلبها الغبي يذهب لاستقبال أي قطار قادم.»
بترت كلامها متعجبة من تهدج صوتها. لدهشتها، وجدت أنها تأثرت حقا عندما فكرت بترقب الوالدين وصول ابنتهما. كانت المشاعر مخالفة لتقاليد الزمرة، فشعرت بخجل من ضعفها.
قالت وهي ترمش لتطرد الدموع التي تجمعت في عينيها: «سأحتسي ذلك المشروب رغم كل شيء. فأنا أشعر أن حسي صار مرهفا، وذلك أمر سخيف، فالعجائز ليسوا جديرين بالشفقة بقدر اليافعين؛ فقد أوشكوا أن يبلغوا نهاية رحلتهم. أما نحن فلا يزال أمامنا الطريق طويلا.»
وافقها هير قائلا: «أنت بالفعل تحتاجين إلى شراب. سأذهب لأجد النادل.»
بينما كان يهم بالنهوض، جذبته آيريس ليجلس مرة أخرى.
وهمست قائلة : «لا تذهب الآن؛ فقد أتى ذلك الطبيب المريع.»
بدا أن صاحب اللحية المدببة كان يبحث عن شخص ما، وعلى الفور لمح بنظارته الشابين اليافعين لتنتهي بذلك رحلة بحثه. توجه إلى طاولتهما على الفور وانحنى تحية لآيريس.
قال: «لقد عادت صديقتك إلى المقصورة.»
قالت آيريس وقد نسيت نفورها منه في خضم انفعالها: «الآنسة فروي؟ كم هذا رائع! أين كانت؟»
بسط كفيه وهز كتفيه. «طوال ذلك الوقت كله كانت قريبة للغاية؛ فقد كانت في العربة المجاورة تثرثر مع ممرضتي.»
قالت آيريس ضاحكة: «أجل، هذا هو المكان الذي كنت لأجدها فيه. ذلك أول مكان كان يفترض أن أبحث فيه ولم أفعل.»
حك هير ذقنه متشككا. «مم! أمر غريب للغاية. هل أنت واثق أنها المرأة المقصودة.»
رد الطبيب: «هي السيدة التي رافقت الآنسة إلى عربة المطعم. سيدة قصيرة ضئيلة الجيد، ليست شابة، ولكنها ليست عجوزا كذلك، تضع ريشة زرقاء في قبعتها.»
صاحت آيريس: «تلك هي الآنسة فروي.»
قال هير مصرا: «لكن لم وقع كل ذلك الغموض؟ ولم أنكر الجميع معرفتها وكل ذلك؟»
هز الطبيب كتفيه باستنكار وقال: «أها؛ لأننا لم نفهم ما تقصده الآنسة؛ فقد كانت تتحدث بسرعة وتذكر سيدة إنجليزية. وتلك السيدة ربما تكون ألمانية أو نمساوية، لا أعلم قطعا، لكنها ليست إنجليزية.»
أومأت آيريس برأسها لهير.
وقالت له: «لقد وقعت في ذلك الخطأ أيضا في البداية؛ فهي لا تبدو من بلد معين، وتتحدث اللغات كلها. تعال لنطمئن عليها.»
بدأت آيريس تعتاد الرحلة في ممرات القطار حتى إنها شعرت أنه صار بإمكانها أن تقطعها معصوبة العينين. أثناء مرورها بجانب مقصورة الزوجين بارنز، استرقت النظر إلى داخلها. كان القس يبدو بطوليا على نحو يبعث على الكآبة، وقد عقد ذراعيه أمام صدره وقطب حاجبيه، بينما بدت أمارات التعب بوضوح على زوجته. كانت هالات سوداء تحيط بعينيها الغائرتين، لكنها ابتسمت بشجاعة لآيريس.
وسألتها: «ألا زلت تبحثين عن صديقتك؟»
قالت آيريس: «كلا، لقد عثرنا عليها.» «حمدا لله!»
اعترفت آيريس لهير بعد أن تابعا شق طريقهما مرة أخرى : «لم أكن أحب تلك السيدة المبجلة، لكن قدرها ارتفع للغاية في نظري. هي حقا امرأة طيبة.»
عندما بلغا المقصورات المحجوزة، أصرت آيريس على اصطحاب البروفيسور الذي بشرته بالخبر.
قالت: «أريدك أن تأتي لتقابل الآنسة فروي. ستتحمس للغاية عندما تعرف بالضجة التي أثارتها.»
قال البروفيسور معلقا بنبرة لاذعة: «يبدو أن الرغبة في جذب الاهتمام صفة أنثوية أصيلة.»
ضحكت آيريس من فرط حماستها؛ فقد انتفض قلبها فجأة.
صاحت قائلة: «ها هي. ها هي هناك في آخر الممر.»
مرة أخرى، فاضت بداخلها المشاعر الإنسانية التي طالما كانت تزدريها عندما رأت الهيئة الضئيلة المألوفة ذات الحلة التويدية الفاتحة.
وصاحت بصوت متهدج: «الآنسة فروي.»
التفتت السيدة فرأت آيريس وجهها. فور أن رأته، تراجعت في ذعر وصرخت.
قالت: «تلك ليست الآنسة فروي.»
الفصل السادس عشر
الشاهدة الرئيسية
بينما كانت آيريس تحدق في وجه السيدة الغريبة، عاد الظلام الدامس ليغمر عقلها. كانت قد حسبت أنها خرجت منه إلى نور الصبح، وكان قلبها لا يزال يطرب فرحا لنجاتها منه، لكنها انخدعت ببصيص من ضوء الشمس تسلل من فتحة بالسقف.
فالكابوس لا يزال مستمرا. كان الظلام يكتنفها؛ يخمد قواها العقلية ويربك حواسها. شعرت بأنها أسيرة كابوس لن ينتهي إلا إن بذلت قصارى جهدها للفرار منه.
الآنسة فروي. يجب أن تتشبث بالآنسة فروي. في تلك اللحظة، تذكرت فجأة وجهها الباهت بوضوح، ذلك الوجه الذي امتزج فيه النضوج والصبا الآسر، ذو العينين الواسعتين الزرقاوين، والملامح البسيطة التي جار عليها الزمن وأبهتها بعض الشيء.
كانت تقف أمامها محتالة، ترتدي حلية الآنسة فروي التويدية البيج. كان الوجه الذي يطل من تحت القبعة شاحبا، والعينان السوداوان يخلوان جميعا من أي تعبير. كان الوجه يبدو جامدا، وكأنما لا يقدر على البكاء، ولم يعرف الابتسام يوما.
استيقظت آيريس من كابوسها.
وقالت متحدية إياها: «أنت لست الآنسة فروي.»
أجابت المرأة بالإنجليزية: «كلا، أنا لم أسمع هذا الاسم من قبل. أنا السيدة كومر، كما أخبرتك عندما احتسينا الشاي معا.» «تلك كذبة؛ فأنا لم أحتس الشاي برفقتك قط. أنت غريبة تماما عني.» «بالطبع أنا غريبة عنك كأي شخص تقابلينه في رحلة، لكننا تحدثنا معا، لكن لم يطل حديثنا لأن رأسك كان يؤلمك.» «أها!»
تعمد الطبيب أن يحمل تعجبه نبرة تأكيدية، جعلت آيريس ترتعد تخوفا، مع أنها جعلتها تأخذ حذرها كذلك.
قالت في نفسها: «يجب ألا أدعهم يثبطونني.» ثم التفتت للبروفيسور بيأس، وقالت بحدة: «تلك ليست الآنسة فروي.»
قال البروفيسور بنفاد صبر: «لقد أخبرتنا السيدة بذلك بنفسها. في الواقع، لا يبدو أن أحدا غيرك سمع الاسم «فروي» غير الشائع نوعا ما.»
كان من الواضح أنه يعتقد أن الآنسة فروي تنتمي إلى شخصيات عالم الخيال.
قالت آيريس مصرة وهي تحاول أن تمنع صوتها من التذبذب: «لكنها ترتدي ملابسها. لم؟ لم؟ ماذا حدث للآنسة فروي؟ تلك مؤامرة، وأنا خائفة. هي تقول إننا احتسينا الشاي معا، لكننا لم نفعل. النادل سيعرف. أرسل في طلبه.»
ارتاعت عندما وجدت أن هير لم ينطلق في مهمته مثل هرمس بشير الآلهة الإغريقية، بل لوى شفتيه وبدا عليه الارتباك.
قال مقترحا بنبرته الهادئة التي تثير حنق آيريس: «لم لا نختتم ذلك اليوم وتحظين بقسط من الراحة؟»
لا أحد يصدقها، وجعلتها قوة شكوكهم مجتمعة تشك في نفسها. كان الظلام قد بدأ يكتنفها مرة أخرى عندما تذكرت الشاهدة التي دعمت شهادتها؛ زوجة القس.
قالت بصوت خافت: «السيدة بارنز.»
قال البروفيسور الذي كان يتوق لوضع نهاية لذلك المشهد متطوعا: «سأذهب لأحضرها.»
مع أنه طيب القلب ومنصف للغاية - عندما يكون في بيئة مألوفة - كان متحيزا ضد آيريس، بسبب واقعة مؤسفة أفسدت عليه نهاية الفصل الدراسي المنصرم؛ فقد خانت إحدى ألمع طالباته - شابة يافعة رزينة لا تتمتع بالجاذبية، كان متحمسا للغاية من تقدمها الدراسي - نقضت العهد معه فجأة وورطته في مشهد عاطفي مزعج للغاية.
عندما حضرت إلى مكتبه كي تودعه، انهارت تماما وأكدت له أنها لم تكد إلا لإرضائه، وأنها لا تطيق فكرة فراقه.
ولما كان يصر على إبقاء باب مكتبه مفتوحا بدافع الحذر، تدوولت نسخة من تلك الواقعة؛ مما سبب له انزعاجا شديدا؛ لذا كان يندب حظه الذي جعله يتورط مع فتاة هيستيرية أخرى وهو يمر بالمقصورة الصغيرة التي تشغلها الأختان فلود-بورتر.
خلال الزجاج، رأى السيدة بارنز التي عادت لمتابعة دردشتها التي قطعت، فدخل.
قال محذرا إياها: «يؤسفني أن مزيدا من المتاعب بانتظارك. تلك الشابة اليافعة المنفعلة للغاية تريدك أن تتعرفي على هوية شخص ما. هل تمانعين أن ترافقيني إلى مقصورتها؟»
قالت إدنا بارنز: «بالطبع لا أمانع. هل هي تلك السيدة اللطيفة الضئيلة التي ترتدي حلة تويدية بلون فاتح مرقط بالبني، وتضع ريشة زرقاء في قبعتها؟» «على الأرجح. أظن أني أذكر الريشة.» تطلع البروفيسور إلى وجهها المجهد وعينيها البنيتين وأضاف بلطف. «تبدين شاحبة. أرجو ألا تكوني مريضة.»
قالت السيدة بارنز بنبرة حملت ابتهاجا زائدا: «كلا. زوجي هو المريض، لكني أحمل عنه ألمه كي يتمكن من النوم.» «العلاج بالإيحاء؟» «شيء من هذا القبيل ربما. عندما يكون المرء متزوجا - إن كان بينه وبين زوجه رابط حقيقي - فهو لا يشاطره دخله فحسب.»
قاطعتها الآنسة روز قائلة: «حسنا، أنا أرى أن تلك حماقة؛ فهو يفوقك قوة بكثير.»
لكن البروفيسور نظر إلى وجهها العذب وقد زاد احترامه لها.
قال: «لا أحب أن أزعجك بذلك الشأن. في رأيي، تلك الفتاة مهووسة ولا تريد إلا أن تكون محط الأنظار. هي الآن تدعي أن السيدة التي وجدناها ليست هي السيدة الأصلية، التي لا تزال مفقودة حسب زعمها.»
قالت الآنسة فلود-بورتر بهدوء معلقة: «فلنأمل أن تكون هي السيدة المنشودة لمصلحتك. إن لم تكن، فستؤخرك في ترييستي، وستفوتك مواصلتك المتجهة إلى ميلان.»
وضعت السيدة بارنز يدها على عينيها وصاحت: «أوه، آمل ألا يحدث ذلك؛ فزوجي يتوق لإنهاء تلك الرحلة اللعينة، لكن على المرء أن يقوم بما يمليه عليه الواجب، أيا كانت العاقبة.»
عقبت الآنسة روز قائلة: «لكن ذلك الأمر لا طائل منه على الإطلاق. حسب وصفك، فتلك المعلمة المفقودة ليست بالفتاة الساذجة، بل هي مسافرة محنكة، وهي إما أنها تتوارى عن الأنظار وتتملص من الفتاة لسبب وجيه يخصها، أو أن ذلك كله محض هراء.»
علق البروفيسور وهو يصطحب السيدة بارنز إلى الممر قائلا: «هو بلا شك ذلك الأمر الأخير.»
في الممر قابلا القس الذي جاء يبحث عن زوجته.
صاحت السيدة بارنز وقد تهللت أساريرها: «هذا هو زوجي. هل اعتقدت أني هجرتك يا كين؟»
بينما وقفوا يتجاذبون أطراف الحديث، جلست آيريس تنتظر عودة هير ومعه النادل. لم يكن لديها أمل حقيقي بخصوص ذلك؛ فقد بدأت تنظر إلى جميع الموظفين باعتبارهم عرائس تحركها البارونة. هناك قوة غامضة تعمل على نطاق واسع، وهذا يربكها. والدليل على ذلك هو تلك المحتالة المريعة التي تجلس أمامها في زي الآنسة فروي. مع ذلك، لا يوجد تفسير لتلك الواقعة؛ إذ لا ترى أي دافع لتلك الحيلة غير المحكمة.
كل تفصيلة في هيئة المرأة تناظر بدقة الصورة التي تحتفظ بها للآنسة فروي في ذاكرتها، وبينما تحملق في الأزرار الزرقاء المصنوعة من العظم المألوفة لها، بدأ الشك الحقيقي يتسلل إلى ثقتها. وتساءلت في نفسها إن كانت بالفعل قد وقعت ضحية للهلاوس. القصة التي رواها هير عن رؤيته للأمير تثبت أن الهلاوس أمر ليس بالنادر.
كانت تشعر بإنهاك شديد جعلها ترى أن ذلك يكاد يكون هو أسهل حل لمشكلاتها. ففي النهاية، ستقصر جهدها على محاربة شبح المرض الذي يهددها باستمرار، دون أن تدخر منه شيئا للقلق الإضافي بشأن لغز الآنسة فروي الذي يصعب حله.
قالت في نفسها: «قريبا أعرف.»
قال لآيريس: «قلت إنه الشاب ذو الشعر الفاتح. ها قد أتيتك بالنادل الأشقر الوحيد. بالمناسبة، هو يتباهى بتحدثه الإنجليزية.»
تذكرت آيريس الشاب اليافع فور أن رأت شعره الذي يشبه القش في لونه والذي يصففه بعناية، وجبهته المائلة. كان يرتدي نظارة ويبدو أشبه بطالب أو موظف إداري.
سألته: «هل تفهم حقا الإنجليزية؟»
أجابها بحماس: «بالطبع يا سيدتي؛ فمعي شهادة بإجادة النحو واجتياز اختبار المحادثة.» «حسنا، هل تذكر أنك قدمت لي الشاي؟ هل ذاكرتك يعتمد عليها في تذكر الوجوه؟» «أجل سيدتي.» «إذن أريدك أن تنظر لتلك السيدة.» أشارت آيريس للسيدة كومر وأضافت قائلة : «ليس إلى ملابسها، بل إلى وجهها. والآن أخبرني، هل تلك هي السيدة التي احتست الشاي معي؟»
تردد النادل قليلا، بينما تلاشى التعبير من عينيه الفاتحتين للحظة، ثم أومأ برأسه حاسما أمره. «أجل سيدتي.» «هل أنت واثق؟» «أجل سيدتي، أنا واثق تماما.»
لم تعلق آيريس، فمنح هير بقشيشا للشاب وتركه يذهب في طريقه. مع أن الاستجواب سار كما توقع، كان يشعر بضيق بالغ. نظر بضيق إلى البارونة والطبيب، لكن لم يبد على وجهيهما سوى الصبر المتكلف، بينما ينتظران بفارغ الصبر انتهاء الاستجواب.
فجأة، دوت صرخة مكتومة من العربة المجاورة، فهب الطبيب من مقعده على الفور وأسرع عائدا إلى مريضته.
كان الصوت غير بشري وغير ملفوظ بوضوح، ظل يردد مكتوما لكن منفعلا: «مم- مم-مم.» فذكر آيريس بحيوان قطع لسانه، يحتج على معاناة لا يفهمها. كانت قد نسيت أمر المسكينة صاحبة الجسد المتكسر - التي ترقد مضمدة لا حول لها ولا قوة في العربة المجاورة - معتمدة تماما على سيدتين قاسيتين.
كانت تلك الذكرى كفيلة بأن توقظ مرة أخرى ريبتها الشديدة في الطبيب، تلك الريبة التي كانت قد خبت. سألت نفسها ما المصير الذي ينتظر مريضته في نهاية الرحلة؟ هل خمنت أنه يسرع بها إلى عملية جراحية ما، محكوم عليها بالفشل، لكنه أوصى بها باعتبارها مجرد تجربة لإرضاء فضوله العلمي؟
كانت آيريس تملك ما يكفي من المنطق كي تدرك أنها تستغرق في وساوس وتكهنات مرضية فأسرعت تقطع حبل أفكارها. نبهها صوت مميز إلى قدوم البروفيسور، فأمالت ذقنها بتحد.
وقالت لهير: «لقد تذكرت السيدة بارنز الآنسة فروي عندما تظاهر الجميع بعدم تذكرها. أنا واثقة أنها ليس بوسعها أن تكذب؛ لذا لا أهتم بما يقوله سواها، فأنا أعتمد عليها هي.»
تقدمت إدنا بارنز متأبطة ذراع زوجها وكأنما تستند إليه، لكن في الواقع، كان هو من يستند إليها بشدة؛ إذ كانت اهتزازات القطار تسبب له الدوار. كان لا يزال متماسكا، لكن وجهه كان يفصح عن إنهاك فارس أوشكت فترة صحوه أن تنتهي.
قال لآيريس متوليا زمام الأمر بحكم العادة: «أفهم أنك تريدين منا التعرف على صديقة لك.»
ثم نظر إلى زوجته.
وسألها: «عزيزتي إدنا، هل تلك هي السيدة؟»
على العكس من النادل، لم تتردد السيدة بارنز؛ إذ تعرفت عليها على الفور.
قالت: «أجل.»
تقدم القس باسطا يده.
وقال لها: «أنا سعيد أن أتتني الفرصة لأشكرك على لطفك.»
قبلت الآنسة كومر ببرود الشكر الموجه للآنسة فروي، أم أنها هي الآنسة فروي فعلا؟ شعرت آيريس بخفقان عنيف، وكأنما يرفرف طائر بجناحيه داخل رأسها، وهي تسقط في ظلام دامس.
الفصل السابع عشر
لم يكن ثمة آنسة فروي
كان التأثير الفوري لإغماء آيريس هو تهدئة أعصابها. عندما استعادت وعيها، لتجد شخصا ما يدفع برأسها لتحت مستوى ركبتيها. شعرت بالخجل من ضعفها، لكن لم يكن في صوتها أي أثر للهلع وهي تعتذر. «آسفة أن سببت لكم ذلك الإزعاج الشديد. لقد صرت بخير الآن.»
سألها السيد بارنز: «ألا تعتقدين أنه من الأفضل أن تستلقي. أنا واثق أن الآنستين فلود-بورتر سيسرهما أن يعيراك مقصورتهما الخاصة.»
لم تكن آيريس واثقة من أن السيدتين يرقيان لمعايير القس للإحسان، لكنها شعرت أنها بحاجة إلى مكان هادئ، يمكنها فيه أن تستجمع شتات عقلها.
قالت لهير: «أريد أن أتحدث معك.» ثم تركته يتولى الباقي.
كما توقعت، انتهز تلك الفرصة، وقال: «آسف لطردك يا بروفيسور، لكن مقصورتنا الخاصة محجوزة للنصف الساعة القادمة.»
تمتم البروفيسور بعبوس: «هذا من دواعي سروري.»
بعد أن احتست بعض البراندي من قنينة القس، جاهدت آيريس للنهوض من مقعدها. كانت ركبتاها ترتعدان وصدغاها لا يزالان باردين، لكن الفترة القصيرة التي غابت فيها عن الوعي خففت الضغط عن قلبها، فجعلتها أفضل حالا.
بينما سارت مترنحة هي وهير في الممر - متأبطة ذراعه؛ وهو ما تسبب في انزعاج عام - لاحظت أن أضواء القطار أضيئت. شعرت أن هذا التغير المفاجئ من النهار إلى الليل هو بمثابة علامة فارقة في رحلتها. فالزمن يسير بسرعة مع القطار. كان المنظر الذي يمر سريعا بالخارج مظلما كلوحة مبهمة رسمت بالفحم، بينما دلت الأضواء المبعثرة على أنهم قد بلغوا منطقة حضرية، كانت البلدة الصغيرة البائسة هي أول أحيائها النائية.
الآن وقد حجب العالم الخارجي، بدت لها الأجواء داخل القطار السريع أكثر حرارة وتشبعا بالأدخنة. في البداية، شعرت آيريس بشيء من رهاب الأماكن المغلقة عندما جلست بداخل المقصورة الخاصة الضيقة.
قالت وهي تلتقط أنفاسها: «افتح النافذة على مصراعيها.»
استجاب لها هير وهو يقول متبرما: «هناك هواء كاف يأتي من الفتحة العلوية. سيخنقك السخام ويغطيك حتى إن أمك لن تعرفك.»
قالت آيريس وهي تشعر فجأة بالأسف على حالها: «ليس لي أم، لكني لست هنا لأثير شفقتك. فهناك أمر خطير وجدي للغاية على المحك. أريد أن أذكرك بشيء قلته هذا الصباح في محطة القطار. كنت تتناقش مع البروفيسور وسمعتك تقوله. قلت إن المحاكمة بواسطة هيئة محلفين غير عادلة؛ لأنها تعتمد على شهادة الشهود.»
قال هير: «بالفعل قلت ذلك، وأنا أعني كل كلمة.»
تابعت آيريس: «وحينها تحدث البروفيسور عن الشهادة التي يعول عليها، وعقد مقارنة بين سيدتين؛ إحداهما سيدة إنجليزية من الأعيان، من النوع الذي يجمع جوزات الصنوبر ومثل تلك الأشياء عندما تذهب في نزهة على قدميها، والأخرى سمراء تضع رموشا اصطناعية.» «أذكرها. امرأة جميلة، كحبة كرز سوداء غضة.» «لكن البروفيسور أدانها، وهذا هو ما يحدث الآن بالضبط. لقد أدنت أنا بأني شاهدة لا يعتد بأقوالها، بينما تحيز لأولئك السيدات البريطانيات العجائز ومعلمات مدارس الأحد.» «هذا لأنهن لا يتمتعن بالجمال، أما أنت فتملكين وجها من نوع آخر. شكرا للرب على ذلك!»
فشلت محاولة هير في تهدئة آيريس، فقد استشاطت غضبا. «أنا أكره وجهي؛ فهو وجه سخيف لا يعبر عن شيء. بجانب ذلك، لم يحكمون علي بالظاهر إن كان مظهري سيحكم ضدي؟ هذا ليس عدلا. أنت قلت ذلك. أنت قلت للبروفيسور إن ذلك قد يؤدي إلى وقوع لبس كبير. لا يمكنك أن تخالف كلامك؛ لذا يجب أن تقف في صفي إلا إذا كنت رجلا متقلب الأهواء.» «حسنا، سأقف في صفك. ماذا تريدين مني أن أفعل؟»
وضعت آيريس كفيها المتعرقتين على المقعد ذي الغطاء المخملي الذهبي القديم اللزج، ومالت للأمام لتلتقي عيناها بعينيه.
قالت له: «أنا أقول إن الآنسة فروي موجودة. يجب أن تصدقني، لكن ذهني مشتت كسيرك كبير، وأفكاري مشوشة. هلا استعرضت الأمر معي خطوة بخطوة كي أستوضحه؟»
قال لها هير: «يسرني أن أسمع روايتك أنت.»
جلس يدخن مستغرقا في التفكير بينما قصت عليه روايتها بداية من مقابلتها للآنسة فروي المزعومة، وحتى حادث اختفائها.
قال لها: «حسنا، لقد ذكرت حقيقة واحدة مؤكدة. فما أخبرتك به تلك السيدة حول رب عملها صحيح، وأنا أستطيع أن أخمن بدقة من يكون. في الوقت الحالي، ثمة رجل من الأعيان هو محط أنظار البلدة بسبب اتهامات له بالرشوة، والتلاعب بالعقود، وأعمال غير قانونية أخرى من هذا القبيل. آخر تهمة وجهت إليه هي قتل محرر الصحيفة الثورية الرديئة الذي كان قد وجه له تلك الاتهامات.»
التقط صفحة صفراء رقيقة من صحيفة مطبوعة برداءة.
وقال مفسرا: «هذا مذكور في عمود الأنباء العاجلة، لكن نظرا لأنه كان في كوخ الصيد الذي يملكه وقت الجريمة، لم تدم الضجة حول تلك التهمة الأخيرة، لكن أحدا لن يهتم؛ فالنظام الإقطاعي لا يزال سائدا بالفعل في تلك المقاطعات المتطرفة.»
صاحت آيريس بحماسة بالغة: «لكن هذا يثبت أني محقة، فكيف سأعرف كل ذلك عن رب عمل الآنسة فروي إلا إن كانت هي من أخبرتني به؟ كما أن هناك أمرا آخر. عندما أخبرت الآنسة فروي عن ضربة الشمس التي تعرضت لها، كانت البارونة تصغي لكلامي. فلا يمكن أن تكون قد عرفت بذلك الأمر بأي طريقة أخرى. وهذا يعني أن الآنسة فروي كانت معي في المقصورة.»
بدا وجهها مشرقا للغاية حتى إن هير كره أن يحطم ثقتها.
قال: «يؤسفني أن ذلك لا يثبت إلا أن الآنسة كومر هي التي كانت معك في المقصورة، وأنها أخبرتك بشأن رب عملها، وربما بنبذة عن تاريخ أسرتها عندما احتسيت الشاي معها. وفيما بعد ذكرت لها أمر ضربة الشمس، إن كنت تذكرين، عندما صعدت على متن القطار بعد أن أفقت منها مباشرة، كنت تحسبين أن جميع الركاب أجانب. عندما نمت ثم استيقظت مشوشة الذهن، ظهرت فجأة الآنسة فروي.»
قالت آيريس محتجة: «لكنها كان لها عينان زرقاوان وضحكة فتاة صغيرة، كما أن هناك أمر والديها العجوزين وكلبها. وهؤلاء لا يمكن أن أكون قد اختلقتهم.» «لم لا؟ ألا تحلمين قط؟»
بانكسار خاطر، فهمت آيريس ما يقصده. «أفترض أني أفعل، أنت محق حتما.»
تابع هير قائلا: «علي أن أذكرك أن القس أكد أن الآنسة كومر هي السيدة التي أرسلت في طلب الشاي له ولزوجته. أنا لست محايدا لأن جميع أعمامي وآبائي قسيسون، ولأني قابلتهما أثناء الإفطار، لكن كونه من رجال الكنيسة يعني ضمنيا أنه صاحب أخلاق رفيعة؛ فنحن نصر على أن يتحلى القسيسون بمعايير أخلاقية تفوق معاييرنا نحن، بل نمتحن ذلك فيهم بشدة، وأنت حتما لا تنكرين أنهم غالبا لا يخيبون آمالنا فيهم.»
تمتمت آيريس: «هذا صحيح.» «كما أن هذا القس يملك وجها نزيها للغاية. وجه رجل دين صالح.»
ثم قالت آيريس مذكرة إياه: «لكنه لم ير الآنسة فروي قط. لقد كان يتكلم نيابة عن زوجته.»
انفجر هير ضحكا وقال: «لقد أقنعتني. حسنا، هذا يبين كيف يمكن للمرء أن يزل؛ فقد تولى هو الحديث بحكم العادة، فجعلنا جميعا نعتقد أنه هو الشاهد.»
قالت آيريس مقترحة باستبشار: «إن أخطأت بشأن أمر، فمن الممكن أن تكون مخطئا بشأن آخر.» «هذا صحيح. لنراجع الأمر مرة أخرى. أنت تقترحين أن البارونة تخلصت من الآنسة فروي - لا يهم كيف - وأن الركاب الآخرين يدعمونها؛ كونهم من السكان المحليين وبدافع رهبتهم لتلك العائلة. أنت محقة حتى تلك النقطة؛ فهذا ما سيفعلونه.»
قالت آيريس: «لكنها تبدو خطة غير محكمة على الإطلاق؛ أن تلبس سيدة لا تشبه الآنسة فروي ملابسها، وتنتحل شخصيتها.»
قال هير مفسرا: «لكن ذلك الجزء ارتجل في اللحظة الأخيرة. لا تنسي أنك أفسدت خطتهم عندما اقتحمت المقصورة في اللحظة الأخيرة، وعندما أثرت ضجة بشأن الآنسة فروي. في البداية أنكروا وجودها، فلم تكوني سوى مجرد أجنبية لا يقيمون لها وزنا ؛ لذا ظنوا أن بإمكانهم الإفلات بفعلتهم، لكن عندما ذكرت أن ثمة إنجليزيين غيرك رأوها، اضطروا لأن يأتوا بمن تحل محلها، ويركنوا إلى الحظ في ألا يكون أصدقاؤك قد سمعوا بمدرسة بيلمان لتعزيز الذاكرة.»
كان يتحدث عن الآنسة فروي وكأن وجودها أمر واقعي، وكان ذلك أمرا جديدا على آيريس بعث على الراحة، فحادت أفكارها إلى مسار آخر.
سألته: «ألا تستطيع جعل خصلة الشعر تلك تستوي؟»
أجابها: «كلا، لم يفلح معها اللين ولا الشدة. هي مصدر شقائي الخفي، لكن شكرا لك؛ فتلك هي بادرة الاهتمام الأولى التي تبدينها تجاهي.» «ألا تجد أن الآنسة فروي كانت سببا في زيادة القرب بيننا؟ ألا ترى أنك أنت أيضا تعتقد بوجودها.» «حسنا، ليس إلى ذلك الحد، لكني وعدتك أن أصدقك - حتى إن كان موقفك كتلك الفتاة ذات الرموش الاصطناعية - وأن أقف في صفك ضد السيدات ذوات معاطف «بيربري» أمثال الآنستين فلود-بورتر. في تلك الحالة، يجب أن نقبل بوجود مؤامرة، خطط لها الرأس المدبر، ونفذتها قريبته البارونة ومتورط بها الطبيب، للتخلص من الآنسة فروي؛ لذا بطبيعة الحال، هذا يمحو كل الأدلة.»
قالت له آيريس: «أنت مدهش للغاية حقا.» «لا تتسرعي في مدحي. لننتقل إلى الركاب الإنجليزيين. الأختان فلود-بورتر تبدوان لي تجسيدا مثاليا للمواطن الإنجليزي التقليدي. كيف هما؟» «لقد حظيتا بأفضل تعليم وتخالطان نخبة المجتمع.» «هل هما نزيهتان؟» «أجل.» «إذن ستقومان بما تمليه عليهما النزاهة. يؤسفني أن تلك نقطة لا تحتسب في صالح الآنسة فروي. والآن لنتخط إلى الزوجين اللذين يقضيان شهر العسل - اللذين على الأرجح ليسا زوجين عاديين - ونأتي إلى زوجة القس. ماذا عنها؟» «لا أعلم.» «تذكري أنك أقسمت، وأني أصدقك.»
ترددت آيريس وقالت: «حسنا، لا أظن أن بوسعها أن تكذب.» «وأنا واثق من أنها لم تكن لتفعل. أنا أخالط أصحاب الحانات والعصاة ولا أعرف الكثير عن الصالحين، لكنها تبدو لي امرأة صالحة حقا، كما أنها دعمتك في المرة الأولى. وهذا يبين أنها لا تملك دوافع خفية. وقد ذكرت أن الآنسة كومر هي السيدة التي رافقتك لاحتساء الشاي. ألا تظنين أننا يجب أن نصدقها؟» «بلى، حسبما أظن.» «حسنا إذن، كفة الأدلة غير راجحة لصالح الآنسة فروي، لكن لأني ذكرت أني لا أثق بالأدلة - مهما بدت مقنعة - لذا سأزيحها جميعا جانبا. في ذهني، الأمر كله يتلخص في نقطة واحدة؛ الدافع.»
رأت آيريس الآنسة فروي تنمحي شيئا فشيئا فيما تابع هير تحقيقه. «ما فهمته هو أن الآنسة فروي كانت سيدة وديعة للغاية. ألا يمكن أن تكون متورطة في مؤامرة ما؟»
أجابته آيريس: «كلا. لم تكن مساندة للشيوعية.» «وهي لا تتمتع بالشباب ولا الجمال؟ لذا لم تختطفها جماعة القبعة الرسمية؟» «لا تكن سخيفا.» «هل لديها أي أعداء؟» «كلا، لقد كانت تتباهى بأنها على علاقة طيبة بالجميع.» «مم! أعرف أن ذلك ليس بدافع للقتل، لكن هل تضايقت العائلة من أنها ستذهب للتدريس في المعسكر المضاد؟» «كلا. لقد أخبرتني أن رب عملها صافحها عند وداعها وشكرها على خدماتها.» «حسنا، هل صرت ترين الأمور بوضوح الآن؟ إذا لم تريني دافعا حقيقيا لمؤامرة يحيكها أحد الأعيان ضد الآنسة فروي الفقيرة النزيهة، فيؤسفني أن أخبرك بأنه لا وجود للآنسة فروي. ألا توافقينني؟»
ساد الصمت لفترة حاولت فيها آيريس أن تسبح ضد التيار الذي يحمل الآنسة فروي بعيدا. أقنعت نفسها أنه لا يمكن لأشخاص كثيرين باهتمامات متفرقة أن يجتمعوا على كذبة. وكذلك، كما ذكر هير، ما الدافع؟
لم تجد طائلا من مصارعة التيار أكثر من ذلك؛ لذا تركته يحملها معه.
قالت: «أنت محق حتما. لا يمكن للمرء أن يتجاهل الحقائق، لكنها مع ذلك بدت لي حقيقية للغاية، ووالداها العجوزان وكلبها بدوا حقيقيين كذلك.»
ثم أضافت قائلة وهي تشعر كأنها ذبحت طائرا مفعما بالحيوية والبهجة، ظل يرفرف ويصارع متمسكا بحياته: «لقد فزت. لا وجود للآنسة فروي.»
الفصل الثامن عشر
المفاجأة
لو علمت السيدة فروي أن أحدا شكك في حقيقة وجودها لثارت غضبا.
بينما كانت آيريس تتنفس الصعداء بعد أن صرفت شبحها الودود، كانت هي في منزلها الذي يستقر في أعماق الريف، تضيف أصدقاءها في غرفة الاستقبال.
كانت غرفة صغيرة لها نوافذ معينة الشكل كستها النباتات المتسلقة، فغمرتها بالظلام، فرشت أرضيتها بسجادة مهترئة، لكنها مع ذلك كانت غرفة رحبة، تناثرت بها كراسي من حقب زمنية مختلفة تآلفت مع قطع من الخوص تبعث على الدفء، وعوضتها خزانة جميلة ذات طلاء أحمر لامع زهو الألوان الذي كان يفتقر إليه القماش المنقوش الباهت للأثاث.
وأمام شبكة المدفأة الحديدية الخاوية، ارتصت آنية تحوي أزهار أقحوان ذهبية جميلة زرعها السيد فروي. لربما كان الضيوف يفضلون إشعال المدفأة؛ إذ كان ثمة برودة خفيفة بالجو - تلازم عادة المنازل الريفية القديمة - تشبه تلك النابعة من البلاطات الحجرية، لكن كانت الشمس بادية من خلال ستار النباتات الخضراء، يسطع ضوءها على مراقد الأزهار بالخارج؛ فمع أن الأضواء الكهربائية كانت مضاءة داخل القطار السريع، كان ضوء النهار لا يزال باديا في الأفق جهة أقصى الشمال.
كانت السيدة فروي امرأة قصيرة ممتلئة، تملك شعرا كساه الشيب، وتتمتع بالكثير من الوقار. بجانب شخصيتها المسيطرة في العادة، كانت تمتلئ بحيوية إضافية ذلك اليوم، نبعت من فكرة أن ابنتها بالفعل في طريقها إلى المنزل.
كانت البطاقة البريدية تستقر على رف المدفأة، مستندة إلى الساعة المزخرفة الضخمة. على ظهر البطاقة كانت ثمة صورة ملونة دون إتقان للجبال ذات القواعد الشديدة الخضرة والقمم البيضاء وخلفها السماء الزرقاء الزاهية. في وسط السماء، وبخط متسق دائري، كتبت الرسالة. «سأكون بالمنزل مساء يوم الجمعة. أليس ذلك رائعا؟»
أرتها السيدة فروي لضيوفها.
وقالت مفسرة بزهو مفرط: «كل شيء يبدو «رائعا» في نظر ابنتي. أخشى أنه فيما سبق كانت تستخدم لفظة «بديع».»
نظرت إحدى الضيوف إلى سلسلة الحروف المتحركة المطبوعة أسفل الصورة وحاولت نطقها ففشلت.
سألتها وهي تشير إلى السطر المكتوب: «أهي في ذلك المكان؟» «أجل.» نطقت السيدة فروي الاسم بسرعة وبحدة، بغرض إبهار ضيوفها؛ إذ كان ما نطقته هو اللفظ المحلي لعنوان ويني، لكن عندما تعود ابنتهما فستبين لهما النطق الصحيح، وتصحح لهما طريقة نطقهما وهما يحاولان تقليد كلامها الحلقي السريع.
حينها ستمتلئ الغرفة بتلك الضحكة التي تزيدها حيوية ورحابة.
تابعت السيدة فروي حديثها قائلة: «ابنتي رحالة عظيمة. ها هي أحدث صورة لها. التقطت في بودابست.»
لم تكن الصورة الشخصية تظهرها بوضوح؛ إذ كانت باهظة الثمن. كان يظهر بها الجزء السفلي من وجه صغير مبهم الملامح، وقبعة تبدو واضحة للغاية في الصورة.
علقت السيدة فروي قائلة: «تبدو كرحالة مخضرمة للغاية في تلك الصورة والقبعة تغطي عينيها. وتلك الصورة في روسيا. وتلك التقطت في مدريد، يوم عيد مولدها. وتلك في أثينا.»
كانت مجموعة الصور في الأساس مجرد تذكارات جيوجرافية، فبينما كانت السيدة فروي فخورة بما هو مكتوب على صورة الجبال، كانت تكره الفتاة الغريبة عنها التي بلغت خريف عمرها، والتي في نظرها لا تشبه ابنتها في شيء.
أنهت الاستعراض بأن مدت يدها لتلتقط صورة شخصية باهتة موضوعة داخل إطار فضي على أحد الرفوف. كانت الصورة قد التقطت في إلفراكوم، وتظهر بها فتاة صغيرة لها عنق دقيق ووجه مبتسم، يحيط به شعر مجعد فاتح كثيف.
قالت: «تلك هي الصورة المفضلة لي؛ فتلك هي ويني الحقيقية.»
كانت تلك هي الفتاة التي تدرس بمدرسة الأحد، وتضحك في وجه موظفي الكنيسة، وترفض من يطلبون يدها من رعايا أبيها، قبل أن تفرد جناحيها وتحلق بعيدا.
لكنها دائما ما تعود إلى العش.
نظرت السيدة فروي مجددا إلى الساعة. حاولت أن تتخيل ويني داخل القطار السريع القاري الهائل الذي يمر بأوروبا كلها. كان على الفتاة المسكينة أن تصمد ليلتين في القطار، لكنها كانت دائما تقسم إنها تحب تلك التجربة. كما أنها تعرف كل حيل الرحالة المحنكين لضمان راحتهم.
مع أنها سيدة اجتماعية، بدأت السيدة فروي تتساءل متى سيرحل ضيوفها. وضعت وليمة شاي سخية على مائدة غرفة الطعام تتضمن فطيرة توت أسود، وقد تركت إحدى الضيوف بقعة على أفضل مفرش مائدة تملكه. كانت قد وضعت طبقها فوقها شاعرة بالذنب، لكن السيدة فروي رأتها. ولأن كل دقيقة تمر قبل أن تدعك البقعة بالملح تجعل إزالتها أصعب، كان من الصعب عليها أن تغض الطرف كعادة المضيفات.
كما أنها كانت تريد أن تنظر إلى الساعة وحدها، وتتأمل بغبطة حقيقة أنه مع كل دقيقة تمر يقترب موعد عودة ويني.
كانت أصابعها تتوق لإزالة مفرش المائدة، إلا أنها بعد أن اصطحبت ضيوفها إلى البوابة، لم تعد إلى المنزل على الفور؛ فأمامها كان الحقل الذي تجمع منه الفطر كل صباح. كان يكسوه اللون الأخضر الزاهي، وكانت الظلال السوداء لأشجار الدردار تطول بينما تقترب الشمس من المغيب.
كان المنظر كئيبا موحشا، فجعلها تفكر في زوجها. «أتمنى لو يعود ثيودور إلى المنزل.»
يبدو أنه سمع أمنيتها؛ إذ ظهر فجأة في آخر المرعى؛ فقد رأت هيئته الطويلة السوداء تسير على العشب، وكأنما يسابق ظلال أشجار الدردار.
وحوله يتقافز بمرح كلب يبدو أن له صلة ما بسلالة كلب الرعي الإنجليزي القديم، لكن سلالته الأصلية زلت، فأقحمته في شجرة العائلة. أثناء موجة من الطقس الحار قلم فراؤه الكث، فتحول إلى إحدى شخصيات والت ديزني.
كان سقراط بمثابة بشير العائلة ومبعوثها. فور أن لمح السيدة القصيرة الممتلئة ذات الشعر الأشيب، انطلق في خط متعرج نحوها، وظل يدور حولها وينبح بحماسة حاملا إليها بشرى عودة زوجها إلى المنزل.
بعد أن أدى واجبه في جانبها من الحقل، انطلق عائدا إلى السيد فروي حاملا أنباء سارة تفيد أن سيدة المنزل بانتظاره. بينما كان يتنقل بينهما وهما يدنوان أحدهما من الآخر، كان مالكاه يضحكان من وثباته المرحة الخرقاء.
قال السيد فروي: «لا بد أن الكلب المسكين يشعر براحة كبيرة بعد أن تخلص من ذلك الفراء الكث. من الواضح أنه يشعر بالانتعاش والخفة الآن.»
قالت زوجته معلقة: «هو على الأرجح يخيل له أنه جنية. انظر كيف يطفو في الهواء مثل كومة من زغب الشوك.» «أيها الأخرق العجوز العزيز، كانت وينسوم لتضحك من ذلك، أليس كذلك؟»
في مخيلتهما، سمع كلاهما ضحكة فتاة صغيرة مبتهجة.
تابعت السيدة فروي: «ألن تسعد بما فعلناه في حجرتها؟ ثيو، لدي اعتراف. لقد وصلت السجادة عندما كنت خارج المنزل، وأنا لست إلا بشرا.»
أخفى السيد فروي خيبة أمله.
سألها: «هل تعنين أنك فتحت غلافها؟ حسنا يا عزيزتي، أنا أستحق ذلك عقابا لي على هروبي مع سقراط عوضا عن أن أظل معك وأساعدك في ضيافة زائريك.» «تعال نصعد لأعلى لتراها. إنها تبدو كرقعة طحلب.»
كانا قد اشتريا سجادة جديدة لغرفة نوم وينفريد، مفاجأة لها بمناسبة عودتها. كانت تمثل الاقتصاد الشخصي الصارم؛ إذ إنه بدخلهما البسيط، أي عملية شراء إضافية كانت تعني اقتصاص شيء ما من ميزانيتهما الأسبوعية.
لذا قلص هو حصته من التبغ، وتخلت هي عن زياراتها النادرة للسينما، لكن الآن وقد انقضت الأربعون يوما، ما كان ليبقى من تلك الأشياء الممتعة إلا الرماد وبواقي التذاكر.
لكن السجادة باقية؛ مربع فني أخضر.
عندما وصلا إلى غرفة النوم، نظر السيد فروي حوله بعينين راضيتين فخورتين. كانت غرفة نوم فتاة صغيرة تقليدية، لها حوائط مطلية باللون الأصفر الشاحب، وصور محفورة ضوئيا مصفرة لحسناوات الفنان جروز ذوات العيون الصافية وضعت داخل أطر مصنوعة من البلوط المطلي بلون داكن. كانت اللمسة العصرية موجودة كذلك في صور فوتوغرافية للممثلين كونراد فيد وروبرت مونتجمري، وكذلك لجماعات مدرسية وعصا الهوكي الخاصة بويني.
كانت الستائر ومفرش السرير الباهتة المصنوعة من قماش الكريتون ذي اللون الأصفر الشاحب قد غسلت وكويت حديثا، وكانت تظهر على حوض غسل الوجه صابونة خضراء تبدو كالكعكة، ووضعت شمعتان خضراوان - ليستا موضوعتين بغرض إشعالهما - في شمعدانين زجاجيين أمام مرآة طاولة التزيين.
قال السيد فروي: «لقد جعلنا الغرفة تبدو جميلة.» «أجل، لكنها لم تكتمل بعد.»
أشارت السيدة فروي للسرير الضيق المصنوع من البلوط، حيث يخبر النتوءان عند رأسه ونهايته بوجود قربتين دافئتين.
قالت: «لن تكتمل حتى تنام في ذلك الفراش. لا أصدق أني بعد ليلتين سأتسلل إلى الغرفة لأقبلها قبل النوم.»
قال السيد فروي ناصحا إياها: «في الليلة الأولى فقط. لا تنسي أن ابنتنا فتاة عصرية، وجيلها يتحاشى إبداء العواطف.»
وافقته زوجته قائلة: «أجل، ويني فتاة عصرية حتى النخاع؛ لهذا السبب تنسجم مع الجميع أينما ذهبت. أنا واثقة أنها حتى في رحلتها تلك، ستكون الآن قد اكتسبت بعض الأصدقاء النافعين الذين قد يمدون لها يد المساعدة إن احتاجتها. أتوقع أن تكون قد تعرفت بخيرة الناس على متن القطار. وعندما أقول «خيرة» فأنا أعني ذلك بكل ما تحمله الكلمة من معان. ترى أين هي في تلك اللحظة؟»
من حسن حظ السيدة فروي أنها لم تعرف الإجابة.
الفصل التاسع عشر
اليد الخفية
في نظر البروفيسور، كانت الآنستان فلود-بورتر تجسيدا للنخبة. في وطنه، كان يشتهر عنه أنه رجل غير اجتماعي مكتف بذاته، لكن فور أن يسافر خارجه، تنتابه ريبة من التعامل مع أشخاص لا يألفهم، وينمو لديه تهيب يجعله يسعى غريزيا للبحث عن الأمان لدى أبناء طبقته الاجتماعية.
كان يريد أن يسمع شخصا ما يتحدث بلكنته - مهما كان غير ودود - شخصا ارتاد الكلية نفسها، أو تغدى في ناديه، أو يعرف قريبا من أقرباء أحد معارفه.
بينما كان يدخن في الممر بعد أن نفي من مقصورته، نظر بشوق منقطع الرجاء إلى المقصورة التي تجلس فيها الأختان. كان عمر الآنسة روز - مع أنها تكبره سنا - قريبا من عمره بما يجعلها خطرا محتملا، لكن وجهها كان يبدد أي مخاوف من هيستيريا خامدة. كان فكها السفلي بارزا قليلا، وكانت معالم شفتها وذقنها البارزين مطمئنة.
تراجع تلقائيا عندما التقت عيناه بعيني الأخت الأكبر سنا، فدعته للدخول بإيماءة مبتسمة، لكنه دخل وجلس بجوار الآنسة روز متصلبا.
سألته الآنسة روز بحدة: «هل تمنعك تلك الفتاة من دخول مقصورتك المحجوزة؟»
عندما شرح البروفيسور الوضع، كان رد الأختين متذمرا.
قالت الآنسة روز بنبرة مستنكرة: «أغشي عليها؟ لقد مرت من جوارنا وهي تضحك متأبطة ذراع ذلك الشاب. الأمر كله يبدو لي غامضا للغاية، لكني آمل من قلبي ألا تثير ضجة وتتسبب في تعطيلنا جميعا في ترييستي دون داع.»
قالت الأخت الكبرى بصوت منخفض: «الأمر يتعلق بكلبها.»
عضت الآنسة روز على شفتها السفلى.
وقالت في تحد: «أجل، إنه سكوتي. أعترف أني أقلق بشأنه أكثر من اللازم، لكنه يحبني بشدة، ويذوى لفراقي. الشخص الوحيد سواي الذي آمنه عليه هو رئيس الخدم .»
قال البروفيسور معلقا: «هذا غريب؛ فكلبتي تنفر بشدة من رؤساء الخدم، بخاصة رئيس خدم عمي.»
ازدادت الحميمية في حديثهما، فأسرت إليه الآنسة روز ببعض من خصوصياتها. «الأمر كالآتي، كولز - رئيس خدمنا - يخطط للذهاب في رحلة بحرية فور عودتي. تلك تجربة جديدة بالنسبة له وهو متحمس لها. إن تأخرت في العودة فغالبا سيبقى في المنزل مع سكوتي، وبالطبع أنا لا أريد أن تفوته الإجازة. وعلى الجانب الآخر، إن ذهب فسيصاب سكوتي المسكين بالذعر، سيشعر أنه فقد كل أصدقائه.»
أضافت الآنسة فلود-بورتر قائلة: «لدينا طاقم خدمة بارع، لكن مع الأسف لا أحد منهم يحب الحيوانات.»
ارتسمت ابتسامة على وجه البروفيسور المستطيل جعلته يبدو مثل حصان ودود.
قال لهما: «أستطيع تفهم ما تشعران به؛ فأنا أعترف أن كلبتي تجعلني أفقد صوابي. نادرا ما أسافر خارج البلاد؛ لأني لا أستطيع اصطحابها معي بسبب قواعد الحجر الصحي، لكن تلك السنة بدا لي التغيير الشامل مطلوبا.»
تبادلت الأختان النظرات.
وقالت الآنسة فلود-بورتر: «أليس ذلك غريبا؟ فهذا وضعنا بالضبط.»
اقشعر بدن الآنسة روز وغيرت مجرى الحديث بسرعة. سألته: «من أي فصيلة كلبتك؟» «من فصيلة سيلهام. لها فراء أبيض.»
لم يعد البروفيسور يجلس منتصب القامة؛ فبعد أن بدأت صداقتهم بالحديث عن رؤساء الخدم، ووطدها اشتراكهم في امتلاك كلب، شعر أنه يجلس في رفقة متآلفة؛ لذا تراخى حديثه من الرسميات إلى القيل والقال. «يبدو أن مسئولية تجاه تلك الفتاة الغريبة قد ألقيت على عاتقي. يبدو أنها مصرة على إحراج الجميع. عرفت أنها كانت تنزل بالفندق نفسه الذي نزلتما به، ما رأيكما بها؟»
قالت الآنسة روز بحدة: «لا تسألني رأيي، فأنا متحيزة ضدها؛ لذا قد لا يكون من الإنصاف أن أبدي رأيي بها.»
تولت أختها التفسير. «نحن لا نعرف شيئا عنها هي، لكنها كانت برفقة زمرة من أشباه العراة، الذين يسكرون ليل نهار، وكانوا مصدر إزعاج تام. كان صخبهم يفوق آلة حفر طرق تعمل بضغط الهواء، وقد أتينا إلى ذلك المكان البعيد كي ننعم بالراحة والهدوء.»
طقطق البروفيسور .
وقال: «أتفهم جيدا شعوركما. ما أقصده هو هل تبدو لكما هيستيرية؟» «لا أعرف سوى أن مشهدا مشينا وقع عند البحيرة أمس. كانت فتاتان تتشاجران بشأن رجل، وكانت هي إحداهما.»
قال البروفيسور معلقا: «لا أستغرب ذلك. ففي الوقت الحالي، إما أنها تختلق حفنة من الأكاذيب كي تلفت الأنظار إليها، أو أنها تعاني من هلاوس بسيطة نتيجة ضربة الشمس التي تعرضت لها. والاحتمال الثاني يعد ترفقا، لكنه يعني أن على عاتقنا مسئولية. ففي النهاية، هي من أبناء وطننا.»
بدأت الآنسة روز تتململ. عندما فتحت علبة سجائرها وأخرجت منها واحدة، كانت أصابعها ترتعش.
سألته: «ماذا إن كان ما تزعمه حقيقيا؟ ليس من الإنصاف أن نترك الفتاة في ترييستي دون أي مساندة. أنا قلقة للغاية لأني لا أعرف ماذا علي أن أفعل.»
لو سمعتها السيدة فروي، لصفقت بيديها العجوزتين المتيبستين. فأخيرا، كان موقف الآنسة روز يتسق مع توقعاتها. خيرة الناس سيعتنون بويني؛ لذا لا يمكن أن يصيبها مكروه، لكن على أية حال: «احفظها سالمة، وأعدها إلينا.»
لسوء الحظ، كان البروفيسور حصينا من قوة الدعوات. ارتسم على وجهه نظرة عبوس متشككة.
وقال: «يبدو لي أن قصتها لا أساس لها من الصحة فلا أصدقها، لكن حتى إن لم تكن تلك المعلمة المختفية مجرد أسطورة، لا أستطيع أن أفكر في سبب يدعوني للقلق بشأنها؛ إذ لا بد أن اختفاءها كان طواعية، فإن كان ثمة مكروه قد أصابها، أو وقع لها حادث، كان سيبلغ به على الفور شاهد عيان.»
وافقته الآنسة فلود-بورتر قائلة: «بالضبط؛ فالقطار مزدحم للغاية، وإذا كانت ملمة بخباياه لاستطاعت أن تختبئ من جامع التذاكر لأجل غير مسمى.»
قال البروفيسور ملخصا الأمر: «إذن، إن كانت مختبئة بالفعل، فسيكون لديها دافع شخصي قوي لتصرفها ذلك. أنا شخصيا أميل لعدم التدخل في المشكلات الخاصة أبدا. ستكون صفاقة وعدم لياقة منا أن نبدأ البحث عنها علانية.»
سحبت نفسا عميقا من سيجارتها.
وسألته: «أنت إذن لا ترى أني حمقاء تماما لأني أقدم مصلحة سكوتي؟»
أجابها البروفيسور: «بل كنت لأعتبرك قد خذلت كلبك إن ضحيت بمصلحته في مقابل مشكلة غير معقولة كتلك.» «هذا ما أراه أيضا. شكرا لك يا بروفيسور!» تفحصت الآنسة روز كفيها القويتين الورديتين. «لقد تلوثت يدي. أحرى بي أن أذهب للاغتسال.»
عندما خرجت إلى الممر، أسرت الآنسة فلود-بورتر للبروفيسور.
قالت: «لم يسعني أن أذكر الأمر أمام أختي - فهذا موضوع حساس بالنسبة إليها - لكننا مررنا لتونا بتجربة محطمة للأعصاب، وأنا أرى أن ما فعلناه من خير ليس بالقليل. هل أضجرك؟» «على الإطلاق.»
بدأت الآنسة فلود-بورتر تروي تلك الأحداث التي لعبت دورا في تشكيل سلوك الأختين؛ وبهذا كان لها أثر - غير مباشر - على مصير امرأة غريبة. «نحن نقطن في حي هادئ للغاية قريب من الكاتدرائية، لكن تعكر صفو الجميع عندما جاء شخص مريع ليسكن به. أحد المتربحين من الحرب، هكذا أسمي أمثاله جميعا. في أحد الأيام، كان يقود سيارته بسرعة جنونية - وهو سكير كعادته - فدهس امرأة. رأينا الحادث وأدلينا بشهادتنا، فحبس على أثر ذلك ستة أشهر؛ إذ لم تكن القضية ضده متماسكة.» «أهنئكما على حسكما بالمسئولية العامة.» «يؤسفني أننا كنا كذلك راضيين جدا عن نفسينا، حتى خرج من السجن. بعد ذلك صرنا هدفا له. آذانا ذلك الرجل بشتى الطرق بمساعدة صبيانه؛ فحطموا نوافذنا وأغاروا على مراقد الأزهار، وألقوا بأشياء مريعة عبر أسوار الحديقة، وكتبوا رسائل بذيئة بالطباشير على البوابة. لم نستطع أن نمسك بهم متلبسين، مع أننا لجأنا للشرطة فوضعوا حراسة خاصة على المنزل. بعد مدة نال الأمر من أعصابنا. أينما نكون وأيما نفعل، دائما ما كنا نترقب سماع صوت حادث آخر. كان أثر ذلك الأمر أكبر على أختي؛ إذ كانت تخشى بشدة أن يكون أحد حيواناتها الأليفة هو ضحيتهم التالية. لحسن الحظ، قبل أن تصل الأمور إلى ذلك الحد، ترك ذلك الرجل البلدة.»
قطعت الآنسة فلود-بورتر حديثها؛ فقد اجتاحتها الذكريات التي أيقظتها.
بدأ الأمر في ذلك الصباح الذي خرجت فيه إلى الحديقة لتجد أن أزهار الدلفينيون الفريدة خاصتها قد اقتلعت من جذورها أثناء الليل.
بعد ذلك بدأ التوتر يتزايد، واستمرت المضايقات، والخسائر المالية التراكمية، ولم تعد ثمة جدوى من الإصلاحات؛ إذ كان زجاج النوافذ يحطم مرة أخرى بعد استبداله. كان الأمر أشبه بالوقوف في مفترق طرق في يوم عاصف تتلطمك دوارة ريح غير مرئية، تظل تدور حول نفسها مرارا وتكرارا بعد أن تضرب ضربتها. كانتا تتوجسان خيفة كلما مر من جوارهما الصبية الخبثاء مسرعين بدراجاتهم، ويبتسمون لهما ابتسامة انتصار وقحة، ثم بعد مدة تحطمت أعصابهما، فجمح معهم خيالهما، وبدأتا تخشيان ما يخبئون لهما من شرور أفظع.
انتهى الأمر في تلك الليلة التي وجدت فيها الآنسة فلود-بورتر أختها روز تبكي. لو أن صخرة جبل طارق ارتجت فجأة مثل الهلام، لما ارتاعت لهذا الحد.
رفعت عينيها إلى البروفيسور فالتقتا بعيني البروفيسور المتعاطفتين.
سألته: «هل بإمكانك أن تلومنا عندما أقول لك إني بعد ذلك الأمر، أقسمنا على ألا نتدخل في أي شأن مرة أخرى، إلا إذا كان يتعلق بوحشية تجاه حيوان أو طفل؟»
عندما مرت آيريس من جوار النافذة، في إشارة إلى أنه صار بإمكانه العودة إلى مقصورته، نهض البروفيسور.
قال ناصحا إياها: «اطلبي من أختك أن تتوقف عن قلقها، وأن تعود إلى كلبها بأسرع ما يمكن. لن يكابد أحد أي عناء. وإن حدثت أي تعقيدات أخرى، بإمكانكما أن تثقا في أني سأتولى الأمر.»
بعد بضع دقائق، عندما كررت الآنسة فلود-بورتر رسالته على مسمع أختها، شعرت الأنسة روز براحة كبيرة.
قالت: «الآن بإمكاني أن أرجع إلى سكوتي مرتاحة البال، فأي شخص سيثق حتما في البروفيسور ثقة تامة.»
لكنها أغفلت نقطة مهمة، وهي أن البروفيسور كان يتحدث على أساس أن الآنسة فروي هي خيال صنعته الهيستيريا، لكن الأختين رأوها رأي العين.
الفصل العشرون
غرباء يتدخلون
بعد أن اختفت الآنسة فروي كأن لم تكن، تركت آيريس لتعتمد على نفسها مرة أخرى. عندما مضى شعورها المبدئي بالراحة بعد أن نحت ذلك اللغز عن ذهنها، بدأ قلقها يزداد تجاه ما تشعر به من أعراض. كانت ركبتاها ترتعدان، وكانت تشعر أن رأسها خاو كقشرة بيضة مفرغة.
كانت الآنسة فروي لتدرك أن الإنهاك الذي تعانيه الفتاة سببه أنها لم تتناول أي غذاء خفيف، هذا بجانب ما تعانيه من الآثار اللاحقة لضربة الشمس. في ذلك الموقف، كانت خسارتها لا تعوض؛ إذ إن هير - بنية حسنة - كان لا يملك إلا أن يعرض عليها المنبهات.
بينما كانت آيريس تتشبث بالقائمة، تصارع نوبات الدوار المتكررة، قالت في نفسها إنها مجبرة على الصمود حتى تصل إلى بازل.
قالت في نفسها بارتياع: «سيكون الوضع كارثيا إن خارت قواي. ماكس يافع للغاية وليس بوسعه أن يساعد. سيزج بي شخص متطفل إلى خارج القطار عند أول محطة، ويرسلني إلى المستشفى المحلي.»
وهناك يمكن أن يحدث لها أي شيء، كما حدث للفتاة في القصة المريعة التي روتها لها الآنسة فروي، أم أن الآنسة كومر هي من روتها لها؟
كانت تجد صعوبة كبيرة في الوقوف، لكن مع أنها أصرت أن تترك هير - عندما شعرت أن التحدث والاستماع قد صارا مجهدين - شعرت بالتردد إزاء فكرة العودة إلى مقصورتها؛ فهي قريبة للغاية من الطبيب وبعيدة للغاية عن أبناء وطنها. هناك في آخر الممر، تشعر أنها محاصرة خلف خطوط العدو.
كما أنها أيضا كان يسكنها شبح العانس الضئيلة ذات الحلة التويدية التي ليس من الحكمة أن تفكر بها طويلا.
كان الحديث الدائر بين الأختين فلود-بورتر بصوت حاد مرتفع - كان مسموعا خلال الباب المفتوح - بمثابة تشتيت لذهنها.
قالت الآنسة فلود-بورتر: «لقد راسلت الكابتن باركر كي يلقانا بسيارته في محطة فيكتوريا؛ ليساعدنا في تسريع إنهاء الإجراءات الجمركية.»
قالت الآنسة روز بتململ: «أتمنى أن يكون حاضرا. إن خذلنا فلربما فاتتنا المواصلة التالية. أنا أيضا راسلت الطاهي كي يجهز العشاء في تمام السابعة والنصف بالضبط.» «ماذا طلبت؟» «لم أطلب الدجاج بالطبع. سأحتاج إلى بعض الوقت كي أستطيع تقبل أكل دجاجة مرة أخرى. طلبت منه أن يعد شريحة مختارة بعناية من السلمون وفخذة ضأن صغيرة، والبازلاء إن أمكن، وإن كان موسمها قد انتهى فليعد الفاصولياء الخضراء والكوسة. تركت للطاهي اختيار التحلية.» «يبدو لي ذلك جيدا جدا؛ فأنا أتوق لتناول عشاء إنجليزي تقليدي مرة أخرى.» «وأنا كذلك.»
ساد الصمت لبرهة قبل أن يتجدد قلق الآنسة روز. «آمل ألا يحدث أي لبس بخصوص حجوزات عربات النوم في ترييستي.»
صاحت أختها قائلة: «يا إلهي! لا تقولي ذلك. لا أطيق فكرة الجلوس منتصبة القامة طوال الليل. هل سمعت مدير الفندق يجري مكالمة بشأنها؟» «بل كنت واقفة بجواره وهي يجريها. بالطبع لم أفهم أي شيء مما قال، لكنه أكد لي قطعا أنه حجزها لنا.» «حسنا، لنأمل الأفضل. لقد كنت أتصفح دفتر مواعيدي. سيقيم الأسقف آخر حفلة له في الحديقة بعد يوم من عودتنا.» «أوه، يجب ألا تفوتنا.»
ابتسمت آيريس نصف ابتسامة مريرة وهي تصغي إلى ذلك الحديث المميز الذي يدور بين مسافرتين غير محنكتين تشعران أنهما ابتعدتا كثيرا عن مسارهما المألوف.
قالت في نفسها: «وأنا كنت أنتظر منهما أن تخاطرا بتفويت حجوزاتهما وإفساد خطة عشائهما. يا له من أمل!»
أسندت ظهرها إلى النافذة مرة أخرى بينما رأت النادل ذا الشعر الأشقر يسير نحوها في الممر. رأته الآنسة روز يمر، فلحقت به.
وصاحت بنبرة أودعتها أقصى ما بوسعها من تغطرس: «انتظر. هل تتحدث الإنجليزية؟» «أجل سيدتي.» «إذن أحضر لي بعض أعواد الثقاب رجاء. أعواد الثقاب.» «أفهم سيدتي، حسنا.»
قالت آيريس التي صارت تتشكك في الجميع في نفسها: «أتساءل إن كان قد فهمها حقا.»
كانت شكوكها غير مبررة؛ إذ بعد برهة عاد النادل ومعه صندوق أعواد ثقاب. استخدم واحدا منها لإشعال سيجارة الآنسة روز، ثم ناولها الباقي محنيا رأسه لها احتراما.
قال للآنسة روز: «سائق القطار يفي بالتزاماته، وسيصل القطار إلى ترييستي في موعده المحدد.» أجابته بدورها: «أوه، ذلك أمر جيد بكل تأكيد.»
بدا متحمسا لخدمة الجميع. عندما نادت عليه آيريس بدورها، دار على عاقبيه برشاقة وكأنه متحمس لخدمتها.
لكن عندما عرفها تغير وجهه. اختفت ابتسامته وتلفت حوله، وبدا كأنه يحاول أن يهزم رغبته في أن يفر هاربا.
لكنه مع ذلك، استمع لها ممتثلا وهي تعطيه أمرا.
قالت له: «أنا لن أذهب إلى عربة الطعام لتناول العشاء. أريد منك أن تحضر لي شيئا لآكله في مقصورتي، تلك التي في آخر الممر. أريد كوبا من الحساء أو مرقة بوفريل، أو حليب أوفالتين. لا أريد أي جوامد. هل تفهمني؟» «أفهم سيدتي، حسنا.»
انحنى لها وذهب، لكنه لم يحضر الحساء.
نسيت آيريس طلبها فور أن أملته له. بدأت مجموعة من الركاب تتدفق في الممر بجوارها، وتسحقها في جانبه. كانوا جميعا يسيرون في الاتجاه نفسه، فنظرت إلى ساعتها.
رأت أن موعد تقديم وجبة العشاء الأولى قد اقترب.
قالت في نفسها بابتهاج بعد أن تحررت من إلحاح فكرة الدقائق المهدرة: «ثلاث ساعات فقط ونصل إلى ترييستي.»
كانت تعيق سير الموكب حيث تقف - إذ كان معظم الركاب جوعى - فكانوا مستائين من وجودها باعتبارها عقبة في طريقهم. لقيت منهم معاملة خشنة، ولكن لم يكن هناك جدوى من أن تصارع عكس ذلك التيار من البشر للخروج منه. فعندما حاولت ذلك، كادت تسقط أرضا عندما بدأ بعض الركاب الغليظين يدفعون غيرهم.
لا يبدو أن أحدا لاحظ المحنة التي لاقتها وهي تحاول الخروج من وسط الزحام. كان القطار يسير بأقصى سرعته، فكان جسدها يرتج ويرض وهي متشبثة بالقضيب الحديدي. خافت أن تسحق، فتعرقت راحتا يديها وتسارعت نبضاتها في هلع.
ثم أخيرا خف الزحام، وتنفست الصعداء وهي تنتظر حتى يمر الركاب الأكثر تهذيبا. حينها، عرفت من مزيج الخطوط والرقط والشرط باللونين الأبيض والأسود أن الأسرة متجهة إلى العشاء وقد شابكوا أيديهم. بعد أن تحرروا من قيد حضرة البارونة، كانوا يتحدثون ويضحكون، في مرح متطلعين لوجبتهم.
كان الوالدان ضخمين بما يكفي كي يعتصراها بلا هوادة وهما يحشران نفسيهما للمرور من جوارها، لكنها مع ذلك سعدت لرؤيتهما، إذ حاولت إقناع نفسها أنهما حتما يسيران في ذيل الموكب. ثم انسلت من جوارها الشقراء - الباردة ككتلة جليدية - في رباطة جأش لا تتزعزع، لا تشرد من شعرها شعرة واحدة.
كان الممر قد صار خاليا تقريبا، لكن آيريس ظلت مكانها، غير قادرة على مواجهة فكرة العودة للمقصورة والجلوس وحدها مع البارونة. لكن تهللت أساريرها عندما ظهرت البارونة برفقة الطبيب. لما كانت واثقة من أنها ستحظى بمقعد في عربة المطعم - مهما تأخرت في الحضور - فقد انتظرت حتى انفض جمع الغوغاء.
عندما مرت بهيئتها الضخمة المتشحة بالسواد من جانب آيريس، تكون في ذهنها تشبيه مناظر: حشرة تدهسها قدم عديمة الشفقة.
نظر إليها الطبيب نظرة مهنية متفحصة رصدت جميع أمارات القلق البادية عليها. أحنى رأسه في تحية رسمية ثم مضى في طريقه، واستطاعت هي أن تعود إلى المقصورة الخاوية بعد أن ظلت تتخبط وتتأرجح في الممرات.
ما إن جلست في مقعدها، بعد أن نظرت لا إراديا إلى الموضع الخاوي الذي كانت تجلس به الآنسة فروي، حتى دلف هير إلى المقصورة مسرعا.
وسألها: «هل ستأتين إلى جولة العشاء الأولى؟ انتبهي؛ فالجولة الثانية لا يقدم بها سوى بقايا الطعام.»
أجابته قائلة: «كلا، فالنادل سيحضر لي حساء إلى هنا؛ فقد خضت عراكا خشنا ولا أطيق حرارة الجو.»
راقبها وهي تمسح جبينها المتعرق. «يا إلهي! أنت تبدين منهكة تماما. دعيني أحجز لك مقعدا. كلا؟ حسنا إذن، لقد تعرضت لتوي لتجربة مثيرة. وأنا في طريقي إلى هنا، أمسكت بكمي يد مرتعشة لامرأة، وهمست لي امرأة بصوت مثير للشفقة: «هلا أسديت لي معروفا؟» التفت فإذا بي أتطلع إلى عيني زوجة القس الجميلتين. ولا داعي لأن أقول إني تعهدت بخدمة السيدة الواقعة في مأزق.»
سألت آيريس: «هل طلبت منك إحضار قربة ماء ساخن لزوجها؟» «كلا، بل طلبت مني إرسال برقية نيابة عنها فور أن نصل إلى ترييستي. وهنا يأتي الجانب الشائق؛ فقط طلبت ألا أخبر زوجها أو أدعه يشك في أي شيء. وبعدها، لا يمكنني أن أشير إلى الرسالة تلميحا.»
سألته آيريس بضجر: «ومن يهمه ذلك؟» «أنا آسف. أرى أنك منهكة تماما. لن أزعجك أكثر من ذلك. أراك لاحقا.»
ما كاد هير يغادر المقصورة حتى أطل برأسه مرة أخرى من الباب.
وقال لها: «لم أر ملاك رحمة أقبح من تلك الجالسة في العربة المجاورة، لكن ما جاء بي حقا هو ذلك: هل تعرفين من يكون جابريال؟» «واحد من رؤساء الملائكة.» «حسنا، يبدو أنك لا تعرفين.»
عندما مر الوقت ولم يأتها النادل بالحساء الذي طلبته، فاستنتجت أنه نسي طلبها بسبب انشغاله الشديد، لكنها كانت مرهقة للغاية فلم تبال، فلم يعنها سوى عقارب ساعة يدها التي تقربها في كل لحظة إلى ترييستي.
في الواقع، كان النادل الأشقر صاحب قلب من ذهب، ويد تهتز غريزيا كعصا العرافة في اتجاه أي مصدر للبقشيش. كان ليجد وقتا ليحضر لها بسرعة كوب الحساء الذي طلبته مهما كان منشغلا، لكن الشيء الوحيد الذي منعه هو أنه لا يعرف شيئا عن طلبها.
كمعظم أقرانه من الريفيين، كان يتقن اللغات بطريقة التبادل بين أبناء العائلات من جنسيات مختلفة. كان طموحا، فرأى أن اكتسابه للغة إضافية قد يرجح الميزان في كفته عندما يتقدم لوظيفة؛ لذا تعلم الإنجليزية من معلمه الذي تعلمها بدوره من كتاب صوتيات.
اجتاز النادل، الذي كان تلميذا فطنا، اختبارات مدرسته، وصار قادرا على أن يثرثر بسيل من العبارات الإنجليزية، لكن في المرة الأولى التي سمع فيها بريطانيا يتحدث اللغة، لم يكن يستطيع فهمها.
لحسن الحظ، كان السياح الإنجليزيون نادرين، وكانوا يقتصرون في أغلب حديثهم معه على متطلباتهم التي تخص وجباتهم. كانت أذناه قد بدأتا تعتادان الأمر؛ لذا نجح في الاحتفاظ بوظيفته بالحيلة وببراعته في التخمين.
عندما رأى سيجارة الآنسة روز غير المشعلة، خمن أنها تريد أعواد ثقاب، كما أن صوتها كان مرتفعا، وكانت مقتضبة في حديثها.
لكنه ذاق هزيمته على يد آيريس؛ فصوتها المبحوح وكلماتها غير المألوفة غلباه تماما. بعد تجربته الأولى الموترة للأعصاب، لم يسعه إلا أن يتراجع لإجابته التلقائية: «أجل سيدتي.» ويهرع للاحتماء بساتر.
قبل أن يعود الركاب الآخرون إلى المقصورة، جاء آيريس زائر آخر؛ البروفيسور. نزع نظارته كي يلمعها بتوتر، فيما بدأ يشرح طبيعة مهمته. «لقد تحدث إلي هير، وهو قلق بشأنك بصدق. لا أريد أن أثير قلقك. بالطبع أنت لست مريضة - أعني أننا لا نجزم بمرضك - لكننا نتساءل ما إذا كنت قادرة على متابعة الرحلة وحدك.»
صاحت آيريس بذعر: «بالطبع أنا قادرة على ذلك. أنا بصحة جيدة، ولا أريد أن يقلق أحد بشأني.» «لكن إن تردت صحتك لاحقا، فستضعين نفسك وتضعيننا جميعا في موقف حرج. لقد كنت لتوي أناقش ذلك الأمر مع الطبيب، وقد قدم لي اقتراحا من شأنه إنقاذ الموقف.»
صمت فبدأت نبضات قلبها تتسارع في خوف، إذ استشفت بحدسها ماذا سيكون الاقتراح.
تابع البروفيسور قائلا: «سيصحب الطبيب مريضة إلى مستشفى بترييستي، وقد عرض أن يتأكد من وصولك بأمان إلى دار رعاية أوصى بها لتبيتي الليلة فيها.»
الفصل الحادي والعشرون
أكاذيب
عندما عرض البروفيسور الاقتراح رأت آيريس فتحة الفخ، لكنه نسي أن يضع الطعم؛ فهي حرة نفسها، ولا يمكن لشيء أن يجبرها على أن تسقط فيه.
قالت: «لن أذهب إلى أي مكان مع ذلك الطبيب.» «لكن ...» «أرفض مناقشة الأمر.»
شرع البروفيسور في جدالها؛ لذا رأت أنه لا وقت للكياسة.
قالت له: «لا يسعني أن أتظاهر أني ممتنة لاهتمامك؛ فأنا أعده تدخلا في شئوني.»
تسمر البروفيسور عندما سمع تلك الكلمة الأخيرة.
قال: «أنا لا أرغب على الإطلاق في التدخل في شئونك، لكن هير قلق بشأنك صدقا، وقد طلب مني استخدام نفوذي لإقناعك.» «لا يستطيع أحد إقناعي بالذهاب برفقة ذلك الطبيب المريع.» «في تلك الحالة، لم يعد ثمة ما يقال.»
كان البروفيسور ممتنا للغاية لانزياح تلك المسئولية عن عاتقه. كانت الفتاة مصرة على معاداة كل من يمد لها يد العون. سيكون أمامه وقت كاف كي يدخن قبل الجولة الثانية من العشاء.
لم يرق لآيريس وجه البروفيسور، لكن ظهره الذي أداره لها والذي تكسوه حلته المصنوعة من نسيج «هاريس تويد» كان له طابع بريطاني مطمئن. أدركت في ذعر أنها من حملته على الذهاب.
بعفوية، نادته قائلة: «لن أذهب برفقة ذلك الطبيب؛ فهو شبيه بالموت، لكني - بافتراض أني انهرت، وهو أمر أجده سخيفا - فسأذهب برفقتك أنت.»
ظنت بذلك أنها ستسترضيه، لكنها لم تنجح إلا في إثارة ذعر كليهما .
قال البروفيسور بحدة حاول بها إخفاء توتره: «هذا مستحيل؛ فالظروف لا تحتم ذلك. لقد قدم لك الطبيب عرضا سخيا معينا، أفضل من يقدمه رجل طب.»
فتح لها باب الفخ مرة أخرى، لكنها هزت رأسها. لن تدخل إليه أبدا إلا إن خدعت.
كانت تلك فكرة مقلقة؛ إذ بدأت تعتقد أنها لا يمكنها الوثوق في أحد، حتى هير خذلها؛ ففيما كان قلقا بالفعل بشأن صحتها كان يمازحها بشأن السيدة بارنز، التي طلبت منه، حسب قوله، إرسال برقية لرجل يدعى جابريال، وإخفاء أمرها عن زوجها.
لما كان يستحيل تصور أن تكون زوجة القس متورطة في علاقة غرامية سرية، استنتجت آيريس أن هير كان يحاول تضليلها.
كرهت محاولته الواهية، خاصة أن السيدة بارنز كانت مرتبطة بذكرى مؤلمة؛ فهي من ساقت الآنسة فروي بعيدا، وجعلتها تعود لتتحسس طريقها في غياهب العالم المظلم.
لم تستطع آيريس أن تغفر لها ذلك؛ إذ كانت تفتقد بشدة الدعم الذي لا يستطيع أن يقدمه لها سوى تلك المعلمة الضئيلة. في ذلك الموقف، كانت لتعلم أنها ستكون بمأمن بين يديها الخبيرتين. كانت خائفة، مريضة، بلا أصدقاء؛ فقد أحرقت جسورها معهم.
كما أنها كلما فكرت في ذلك اللغز، شعرت أنها تقترب من حدود ذلك العالم الذي تسكنه الظلال المتحركة، حيث تطغي الخيال على الواقع، ولا يكون لها وجود إلا في حلم الملك الأحمر ملك بلاد العجائب. لو لم تتمالك نفسها فلربما يتوقف احتفاظها بسلامتها العقلية أو فقدانها لها على حقيقة وجود الآنسة فروي.
كان ثمة آخرون على متن ذلك القطار الذي يعج بالسائحين الذين يقضون عطلاتهم واقعين في مأزق أشد مما هي فيه. أحد هؤلاء كانت الفتاة المقعدة في العربة المجاورة. مع أنها كانت غائبة عن الوعي في أغلب الوقت، كانت كل ثانية تمر عليها واعية تختبر فيها هلع الصدمة التي أسقطتها في غياهب الظلام، وإن طالت تلك اللحظة شيئا ضئيلا فإنها تفسح المجال لغيمة من الشكوك المريعة. «أين أنا؟ ماذا سيحدث لي؟ إلى أين يأخذونني؟»
لحسن حظها، قبل أن يتسنى لها الحصول على إجابات لتلك الأسئلة، دائما ما تنطفئ الشعلة مرة أخرى؛ لذا كانت هي أفضل حالا من إدنا بارنز، التي كانت في كامل قواها العقلية وهي تكابد عذابا ذهنيا مطولا.
كانت في بالغ سعادتها وهي تترقب آخر نزهة جبلية لها عندما رأت الخطاب في خانة المكتب. شعرت بغصة تحذيرية خففت قليلا من وقع صدمتها من فحوى الخطاب عندما رأت خط يد حماتها.
كتبت السيدة الجليلة تقول: «ظللت أتساءل ما هو التصرف الأمثل. لا أود إثارة قلقكما أثناء رحلتكما الطويلة، لكني على الجانب الآخر أشعر أنه يتعين علي أن أهيئكما لخبر مخيب للآمال. كنت آمل أن يكون جابريال في أفضل صحة عند عودتكما، وقد كان في أفضل حال حتى الآن، لكنه أصيب بنزلة برد في صدره. هو مرتاح للغاية الآن، ويقول الطبيب إن كل شيء يسير حسب أفضل التوقعات؛ لذا لا داعي لأن تقلقا.»
مرت إدنا بارنز بعينها في لمحة على الخطاب قرأت خلالها ما بين سطوره. إن كان غرض حماتها من كتابته هو إثارة قلقها، فقد نجحت تماما في مسعاها؛ فقد ضمنته جميع عبارات الطمأنة المألوفة. «لا داعي للقلق.» «حسب أفضل التوقعات.» «مرتاح.» تلك هي الصيغة المخففة للتعبير عن حالة ميئوس من شفائها.
فنزلة برد في الصدر قد تخفي وراءها التهابا شعبيا أو حتى رئويا، وقد سمعت أن تلك الأسقام إن أصابت رضيعا قوي البنيان فقد يقضي نحبه بعد بضع ساعات من المرض. كاد قلبها ينفطر وهي تتساءل إذا كان قد مات بالفعل.
ثم ناداها زوجها ليسألها عن فحوى الخطاب. كانت إجابتها: «حرير مارجريت روز.»
كذبت بدافع غريزة الحماية القوية كي تجنبه العذاب الذي تكابده. لم يكن ثمة داع لأن يعاني كلاهما، إن استطاعت أن تحمل هي عنه ألمه. أخفت عذابها وراء ابتسامتها المعتادة، وفكرت مليا في سبب للمغادرة إلى إنجلترا في اليوم نفسه.
بينما كان القس يتناول حزمة الشطائر منها تجهيزا لانطلاقهما في نزهتهما، استغلت حلم الآنسة روز فلود-بورتر التحذيري واتخذته ذريعة لذلك.
رغم خيبة أمله أذعن لطلبها . قررت الأختان أيضا ألا تجازفا عندما سمعتا أن زوجة القس قد غيرت خطتها بناء على هاجس تطيري. كان العروسان قد قررا سلفا الذهاب؛ وبذلك اكتمل خروجهما من الفندق.
للمرة الأولى، كانت إدنا بارنز سعيدة لأن زوجها يعاني من دوار الحركة في القطار. بينما جلس مغمضا عينيه كازا على أسنانه، حظيت بفترة راحة من الادعاء. كان سلوانها الوحيد أنها تعلم أنه في طريقها إلى المنزل؛ لذا عندما حدث ما قد يهدد بحدوث تأخير اضطراري في ترييستي، شعرت باليأس.
حينها واجهت أول امتحان فعلي لمبادئها، وقد فاز فيها ضميرها؛ فقد كان خداعها لزوجها كي تقيه من المعاناه كذبة كبيرة، لكنها الآن كانت تقول في نفسها إن دافع الإنسانية يجب أن يأتي قبل الروابط العائلية؛ لأنه دافع إيثاري.
كانت مستعدة لأن تؤدي واجبها تجاه الآنسة فروي أيا كان الثمن، لكن عندما طمأنها أولئك الذين تثق في حكمهم أن المشكلة لا تستحق الاعتبار، تراجعت في قرارها.
فالسبب لا يستحق أن تبذل في سبيله تلك التضحية. من الواضح أن الأمر لا يعدو كونه ادعاءات اختلقتها فتاة مضطربة كي تلفت إليها الأنظار، لكن جابريال مريض، وهو بحاجة لها؛ لذا رجحت كفته.
بعد أن تعرفت على الآنسة كومر باعتبارها الآنسة فروي، أدركت فجأة منفعة وجود شاب متأهب للمساعدة بإمكانه إرسال برقية إلى حماتها. ولأنها كانت تشك أن بإمكانها أن تتلقى الرد دون معرفة زوجها - إذ ربما ينادي موظف ما اسمها بصوت عال - طلبت أن تنتظرها آخر الأنباء في كالييه. ستنعش الرحلة البحرية القس، وسيكون من القسوة أن تتركه على جهله حتى يصلا إلى الوطن.
مع أن عينيها كانتا حزينتين، ابتسمت ابتسامة خفيفة عندما فكرت في غيابه عن الوعي. مثل طفل كبير، كان يأسف على آلامه وأوجاعه، لكنه لم يكن يدري ما حبس عنه.
قالت في نفسها: «وحدها الأم تعلم.»
كان ذلك بالضبط هو ما استقر في قلب السيدة فروي وهي جالسة في ضوء الغسق تترقب بشوق عودة ابنتها.
الفصل الثاني والعشرون
إضاعة الوقت
بصفة عامة، كانت السيدة فروي تقطن في الجانب المشمس من الشارع، لكن ذلك المساء بدت ظلال أشجار الدردار قد امتدت حتى بلغت ذهنها؛ إذ شعرت بكآبة لا تعلم لها سببا.
لم يعد ضوء الشمس المخضر يسطع من وراء النباتات المتسلقة التي كست النوافذ، لكنها اعتادت الظلام؛ فلدواعي الاقتصاد كان المصباح لا يضاء إلا في آخر لحظة ممكنة، كما أنها لم تتأثر بالمنظر الكئيب خارج غرفة نومها التي تطل على أحد جوانب ساحة الكنيسة.
لأن أسرة فروي عاشت في البيوت المخصصة لخادمي الأبراشية لمدة طويلة، فقد تأصلت فيهم عادة السكن بالقرب من الكنسية. كانت قد عودت نفسها أن تتخيل، كلما نظرت إلى شواهد القبور المائلة التي صار أصحابها في طي النسيان، مشهد بعث مهيب، تنفتح فيه القبور فجأة، وتتطاير محتوياتها في الهواء كسيل من الشهب اللامعة.
تلك الليلة، عندما استحال الأخضر رماديا تماما، ساورها أول مخاوفها. «أتساءل إن كان صحيا أن ننام قريبين إلى ذلك الحد من تلك الجثث المتعفنة.»
في الظروف العادية، كانت لتهزأ بتلك الفكرة، لكنها لم تستطع أن تزحزح القرد الأسود الذي جثم على عاتقها. ظلت المخاوف والهواجس الغامضة تساور عقلها.
قالت لنفسها إنها ستكون ممتنة للغاية لعودة ويني سالمة. السفر حتما يحمل مخاطر، وإلا ما كانت شركات السكك الحديد لتصدر سياسات التأمين. ماذا إن مرضت ويني أثناء الرحلة واضطروا لأن يتركوها في غرفة انتظار ببلد أجنبي؟
يمكن أن يحدث لها أي شيء؛ حادث قطار، أو حتى ما هو أسوأ. المرء يقرأ عن تلك الأمور المريعة التي تحدث للفتيات اللاتي يسافرن بمفردهن. ويني لم تعد فتاة فعليا - حمدا لله - لكنها تعد صغيرة بالنسبة لمن هم في عمرها.
في تلك اللحظة، تمالكت السيدة فروي نفسها.
ذكرت نفسها قائلة: «لم يبق سوى ليلتين. من المفترض أن تكوني في بالغ سعادتك، لا أن تظلي مكتئبة تعانين وجعا بالبطن. والآن لتكتشفي ما وراء كل ذلك.»
بعد مدة قصيرة، ظنت أنها توصلت إلى السبب الفعلي لاكتئابها. كان السبب هو بقعة التوت البري التي لطخت أفضل مفرش طاولة تملكه، والتي لم تزل تماما بعد بالملح.
قالت: «أيتها الحمقاء، سيزول عندما يغلى في المغسلة.»
نظرت باستهزاء إلى شواهد القبور، ثم خرجت من الغرفة بخطى ثقيلة ونزلت الدرج بحثا عن زوجها.
على غير العادة، وجدته في الردهة جالسا في الظلام.
سألته: «لم لم تشعل المصباح أيها الكسول؟» «سأفعل حالا.» كان صوت السيد فروي باهتا على نحو غير معتاد. «لقد كنت أفكر طويلا. تلك عادة سيئة. غريب أن وينسوم سافرت مرات عديدة، لكن تلك هي المرة الأولى التي أتخوف فيها على سلامتها. تلك القطارات التي تقطع أوروبا، أظن أني بدأت أشيخ، وأشعر أن الأرض تجذبني إليها.»
تسارع قلبها فجأة وهي تصغي له. إذن، فقد تلقى هو أيضا التحذير الخفي.
دون أن تتكلم، أشعلت عود ثقاب، وأشعلت به فتيل المصباح وأنارته، ثم وضعت عليه مدخنته. بينما كانت تنتظر أن يدفأ الزجاج، نظرت إلى وجه زوجها الذي كان ظاهرا في الوهج الخافت.
بدا وجهه أبيض شاحبا بارز العظام، كوجه رجل يفترض أن يأوي إلى فراش في ركن مبتل أسفل نافذتها لا رجل يفترض أن يشاركها فراشها الوثير.
فجر مظهره غضب تلك السيدة القويمة الكارهة للكآبة.
قالت له موبخة: «لا أريد أن أسمع منك ذلك الكلام مرة أخرى. أنت لا تقل سوءا عن السيدة بارسونز؛ فهي تبلغ من العمر ستة وستين عاما فقط، ومع ذلك عندما كنا عائدين من البلدة في تلك المرة الأخيرة، تذمرت من أن الحافلة ممتلئة وأنها مضطرة للوقوف. قلت لها: «يا عزيزتي، لا تدعي الجميع يعرف أنك لست معتادة على الدعة.» ثم قلت لها: «خذي مقعدي؛ فأنا صغيرة السن».»
سألها السيد فروي بامتنان: «وهل ضحك ركاب الحافلة؟»
زال شحوب وجهه في دائرة ضوء المصباح الخافت. قبل أن تجيبه زوجته حلت حبال الستائر، وسحبت ستائر النافذة تغلقها، حاجبة ضوء الشفق الكئيب.
قالت: «أجل، لقد قهقهوا جميعا، ثم بدأ أحدهم يصفق، لكن عندما شعرت أن المزحة قد طالت بما يكفي، بترتها بأن نظرت إليهم.»
مع أن السيدة فروي كانت تفخر بحس دعابتها ، كان حس الوقار لديها أقوى منه. رفعت رأسها عاليا كأنها لا تزال تحاول إسكات جمهورها، وسألته: «أين سقراط؟» «يؤسفني يا عزيزتي أنه ينتظر بالخارج حتى يحين موعد ملاقاة القطار. أتمنى لو استطعت أن أجعله يفهم أن الجمعة هو اليوم المنشود.»
قالت السيدة فروي: «سأتولى أنا ذلك. سقراط!»
دخل الكلب الضخم مهرولا على الفور، فمع أنه مدلل للغاية فلا يطيع الأوامر في العادة، كان يحترم نبرة حادة بعينها في صوت سيدته.
أخرجت السيدة فروي ثلاث قطع من الكعك اليابس من علبة من القصدير ورصتها في صف على الأريكة المنخفضة، وقالت: «انظر يا عزيزي. مع أمك ثلاث كعكات لتعطيكها. تلك لليلة، لكن ويني لن تعود الليلة. وتلك ليوم غد، لكن ويني لن تعود غدا. وتلك ليوم الجمعة، وويني ستعود يوم الجمعة، وحينها يمكنك أن تذهب لملاقاة القطار. تذكر! تلك الكعكة.»
رفع سقراط بصره إليها وكأنما يحاول جاهدا أن يفهم. تشع عيناه ذكاء تحت خصلات فرائه التي تنسدل عليها؛ إذ ترك رأسه دون تشذيب.
قالت السيدة فروي: «لقد فهم. لطالما كنت قادرة على التحدث إلى الحيوانات. ربما نتشارك الطاقة الروحية نفسها؛ فأنا أعرف ما يدور بذهنه، ودائما ما أستطيع أن أجعله يعرف ما يدور بذهني.»
التفتت مجددا تجاه الأريكة المنخفضة والتقطت أول كعكة.
قالت موضحة: «تلك كعكة الليلة، وقد انقضت تلك الليلة؛ لذا يمكنك أن تأكلها.»
بدأ سقراط يندمج في اللعبة. بينما كان يبعثر الفتات على البساط، تحدثت السيدة فروي إلى زوجها.
قالت: «وها قد انقضت الليلة بالنسبة لنا أيضا؛ فحمدا لله على ذلك! أتمنى أن تتذكر أنه لا يصح أن تسعى أنت وراء مشكلات ما كانت لتأتي إليك أو تنوي زيارتك طوعا. علام تضحك؟»
كان السيد فروي يقهقه وهو يشير إلى سقراط الذي كان يلتهم الكعكة الأخيرة.
قال مقلدا إياها في تهكم وديع: «لقد فهم.»
جعل مظهر وجهه السيدة فروي تنسى خيبة الأمل التي أصابتها للتو؛ إذ بدا أصغر عدة أعوام، ولم يعد يراودها شك حول أين يفترض أن يبيت ليلته.
ربتت على ظهر سقراط، وقبلت أنفه، ونفضت عن فرائه فتات الكعك اليابس.
وقالت لزوجها بنبرة لاذعة: «أجل يفهم، بل يفهم أكثر منك. ألا ترى أنه يحاول أن يعجل بمرور الوقت؟»
الفصل الثالث والعشرون
ضع رهانك
بجانب السيدة فروي، ود آخرون لو عجلوا بمرور الزمن. بعضهم كان على متن القطار الذي كان ينطلق بأقصى سرعته كي يصل إلى ترييستي في موعده المحدد.
إحداهم كانت السيدة تودهانتر التي أخفت تعجلها وراء ستار من اللامبالاة المتصنعة. أينما ذهبت كانت تلتفت إليها الأنظار، وتحسدها النساء على تلك الهالة الحالمة التي تحيط بها؛ إذ كانت تمتلك كل ما قد ترغب أي امرأة في أن تحظى به؛ من جمال ووقار وملابس فاخرة وزوج ثري رفيع المكانة.
لكنها في الواقع كانت تتوق بشدة لأن ترجع إلى زوجها.
كانت متزوجة من كهل ضخم البنية يعمل مقاول بناء، ويدعى سيسل بارميتر. في وطنها، تسكن السيدة لورا بارميتر في منزل جديد فاخر للغاية، تتوفر فيه جميع التحسينات التي يدخلها زوجها على المباني السكنية التي يشيدها للغير بينما يفتقر إلى أي من مساوئها. كانت تنعم بدخل وفير، ومصروف سخي، وخدم أكفاء، وعيش رغد، وزوج محب يثق بها، وطفلين ضخمين.
وفوق ذلك كله كانت تحظى باحترام الناس.
كانت بمثابة ملكة بين أبناء طبقتها الاجتماعية، لكنها مع ذلك لم تكن راضية عن حالها في قرارة نفسها، وكانت تطمح لما هو أكثر. أثناء تجارب الأداء لعرض مسرحي محلي تتلاشى فيه الفروق الطبقية، قابلت محاميا صاعدا حمل على المشاركة في العرض أثناء زيارته للمقاطعة. لعب هو دور الملك ولعبت هي دور الملكة.
فتنه حينها جمالها الأخاذ، وقدرتها على اقتباس أبيات من أشعار سوينبرن وبراونين انتقتها من كتاب «أكسفورد للشعر». بعد بضع مقابلات في لندن، أسفل شعار التفاحة، أخذها معه في مغامرة غرامية متأججة.
زلت قدم السيدة لورا، لكنها ظلت محتفظة بعقلها؛ فوراء انجرافها معه كان يقف دافع خفي. كانت قد قرأت قصيدة «التمثال الكامل والنصفي» أثناء إحدى المحاضرات حول براونينج، فتقمصت روحها؛ لذا قررت أن تغامر بالرهان على رمية نرد جريئة، فرصة أن يطلق كل منهما زوجه.
بعد أن تجتاز الفترة العصيبة التي ستلي طلاقهما، ستحتل مكانتها المستحقة في المجتمع باعتبارها الزوجة الجميلة لمحام بارز؛ فالعالم ينسى بسرعة، كما أنها واثقة من قدرتها على إرغام زوجها على منحها حضانة طفليهما.
لكنها خسرت الرهان، وكان براونينج ليفخر بروحها المعنوية العالية التي قابلت بها خسارتها.
كان المحامي متزوجا من عجوز لاذعة اللسان، لكنها تمتلك الجاه والثروة. عندما اكتشفت السيدة لورا أنه لا ينوي على الإطلاق تكليل مغامرتهما تلك بالزواج، منعها كبرياؤها من إبداء خيبة أملها.
ربما ما سهل عليها تصنع اللامبالاة هو خيبة أملها؛ فتلك المغامرة الغرامية لم تأخذ مسارها الموعود، لكنها علمتها أن الرجل المهني لا يختلف كثيرا عن رجل التجارة في الصفات الأساسية، وأن هيئة كليهما قبل أن يحلق لحيته ويزر ياقته تكون واحدة.
بجانب ذلك، كان لدى المحامي سيئة عفي منها مقاول البناء؛ كان يغط بصوت مرتفع.
ومما زاد الطين بلة أنه كان لا يعير اهتماما لمساوئه، ومع ذلك كانت معاييره في استحسان النساء دقيقة للغاية لدرجة جعلت الوفاء بها أمرا مرهقا. لم تستطع أن تسترخي على الإطلاق، أو أن تكون على سجيتها، دون أن تلاقي منه نقدا أو نفاد صبر.
وبما أنها كانت امرأة عملية، فقد قررت أن تقطع العطلة كي تعود إلى زوجها بينما لا تزال الفرصة سانحة. لحسن حظها، لم تكن قد أحرقت جسورها معه. اشترى لها زوجها تذكرة إياب إلى تورين، وأخبرته ألا ينتظر منها أي خطابات بريدية؛ إذ كان يعتزم الذهاب في رحلة بحرية إلى جزر شيتلاند.
كانت تنوي فراق المحامي في تورين - حيث انضم لها في رحلة الذهاب - ثم تبيت فيها ليلة كي تختم حقائب سفرها بملصقات الفندق.
وينتهي كل ذلك بجمع شمل أسري سعيد، وتفاهم أفضل؛ إذ تعلمت أن تقدر رصانة زوجها؛ وبهذا تنجو سفينة زواج أخرى من عاصفة مغامرة عبثية وميثاق أخلاقي محطم.
بينما جلس الزوجان تودهانتر في مقصورتهما الخاصة في انتظار تقديم جولة العشاء الثانية، كانا محط أنظار السائحين الذين يمرون ببطء من جوار نافذتهما. لا بد أنهما لا يزالان يعرفان بذلك الاسم الذي سجلا به دخولهما إلى الفندق؛ إذ كان المحامي حريصا على ألا يوقع باسمه.
كان اسمه «براون».
لكن والديه كانا قد بذلا ما بوسعهما من أجله، وكان لقب «السير بيفريل براون» مشهورا بخطورته، بجانب صورته الشخصية المذهلة التي كانت تظهر كثيرا في الصحف المصورة.
كما تقبلت هزيمتها من براونينج بصدر رحب، استمرت السيدة لورا في لعب دورها. كانت لهجتها الطبيعية أحيانا تحل محل حديثها المتشدق، مع ذلك كانت تبدو فريدة ومتفردة مثل أميرة حسناء، بمنأى عن الرعاع، لكن أصابعها ظلت تنقر فرش مقعدها المخملي الذهبي القديم، بينما ظلت هي تنظر إلى ساعتها.
قالت بنفاد صبر: «لا يزال أمامنا ساعات وساعات. يخيل إلي أننا لن نبلغ ترييستي أبدا، فما بالك بتورين؟»
سألها تودهانتر باستنكار: «أتتوقين لفراقي؟» «أنا لا أفكر بك، لكن الأطفال يصابون بالحصبة، والأزواج الذين تهجرهم زوجاتهم يلجئون للخيانة؛ فالعالم مليء بالضاربات على الآلة الكاتبة، وهن جميلات.» «في تلك الحالة لن يسعه أن يلومك إن آل الأمر بينكما للمكاشفة.»
أجفلت عندما سمعت الكلمة.
صاحت بحدة قائلة: «المكاشفة؟ لا تخفني. هل تعتقد أن ثمة احتمالا بذلك؟»
داعب شفته، وقال لها: «بل أظن أننا في مأمن لدرجة كبيرة، لكنني توليت بعض القضايا الغريبة في مسيرتي العملية. المرء لا يعرف أبدا ما قد يكشفه القدر. من سوء طالعنا أن صادفنا زائرين إنجليزيين آخرين في الفندق، كما أن جمالك الأخاذ يصعب أن يظل مغفولا عنه.»
أزاحت السيدة لورا يده. كان ما تنشده هو الطمأنة، لا الإطراءات.
قالت: «لقد قلت لي إنه لن يكون ثمة مخاطرة.» كانت قد تناست أن خطتها الأصلية هي إجبار زوجها على مقاضاتها، فأضافت بأسى: «كم كنت مغفلة!»
سألها تودهانتر: «لم صرت فجأة متشوقة إلى ذلك الحد للعودة إلى زوجك؟» «بصراحة فظة، كل منا يسعى وراء مصلحته، وهو بوسعه أن يمنحني أكثر مما بوسعك أنت أن تمنحني.» «أولم أمنحك ذكرى لن تنسيها أبدا؟»
تأجج الغضب في عيني السيدة لورا، فضحك تودهانتر. كان قد مل جمالها الفاتر وثقافتها المتصنعة، لكن الآن وقد دبت فيها الروح فجأة، أفاق إلى حقيقة أنها تنفلت من بين أصابعه.
قال: «لقد كنت أمازحك. بالطبع لن يعرف أحد بشأن مغامرتنا؛ فليس بوسعي المخاطرة بأمر كذلك، لكن لولا أني استبقت الأحداث عندما سألتني تلك الفتاة عن السيدة التي كانت تسترق النظر لوقعنا في ورطة.»
سألته لورا التي أدركت للتو أن تودهانتر لن يكلف نفسه عناء مناصرة امرأة غير جذابة في خريف عمرها: «لم؟»
قال تودهانتر ضاحكا: «لم؟ لأنها اختفت. لو أني لم أنكر وجودها، لاضطررت لأن أدلي بشهادتي في ترييستي، ولك أن تتخيلي عناوين الصحف: «اختفاء سيدة إنجليزية على متن القطار الأوروبي السريع: صورة للسيد تودهانتر الذي كان عائدا من شهر العسل، عندما ... إلخ.» لن يطول الأمر حتى تكتشف الصحافة الإنجليزية هويتي. تلك أحد المساوئ المحدودة للشهرة.»
لم يبد الانبهار الذي نشده على السيدة لورا؛ إذ كشفت لها كلماته تلك عن أمر جديد.
وفي نهاية المطاف ربما لم تخسر اللعبة؛ إذ إنها لم تنته بعد. مع أن تودهانتر لم يكن ينوي المخاطرة بالوقوع في فضيحة عندما أقنعها بالقدوم معه في تلك الرحلة، رأت فرصة لحبك واحدة وإرغامه على فعل ما تريد.
إن ذهبت للبروفيسور وأكدت له وجود الآنسة فروي، فستكون النتيجة حتما هي حدوث تعقيدات في المستقبل. البروفيسور رجل لا غبار على نزاهته وتقديمه للصالح العام، وهو ما سيجعله يفتح تحقيقا، مهما كلفه ذلك من متاعب شخصية.
فجأة، التمعت عيناها البنفسجيتان؛ فباعتبارها زوجة السيد تودهانتر المزعوم كانت تعد عنصرا مهما في الصورة؛ عنصرا لن يسهو عنه المراسلون أو يكتمونه. لطالما كانت صورها الفوتوغرافية جذابة.
بعد ذلك، سترفع قضية طلاق تكون مثار الاهتمام، وسيجبر السير بيرفيل - بدافع الالتزام الأخلاقي - أن يتزوجها لتصير السيدة براون الثانية.
عندما خطرت لها تلك الفكرة، تنهدت تنهيدة عميقة؛ فهذا يعني أن عجلة الحظ ما زالت تدور.
وأنها لم تخسر بعد رهانها.
الفصل الرابع والعشرون
وتدور عجلة الحظ
جلست السيدة لورا تتطلع إلى النافذة التي انعكست صورة المقصورة المضاءة على زجاجها الذي يتسارع خلفه الظلام. ابتسمت لانعكاس وجهها المعتم، وعينيها المظللتين، وشفتيها المنتصرتين. عجلة الحظ لا تزال تدور بالنسبة لها.
ولأن قدريهما متشابكان، كانت عجلة حظ الآنسة فروي تدور أيضا. كانت العانس الودودة واقعة في مأزق، لكنها كانت متفائلة عنيدة. تشبثت بأمل في أن ينصلح كل شيء في نهاية المطاف، وأن تعود أخيرا بعد طول غياب إلى البيت.
كان حبها لديارها يشبه ذلك الولع المحموم الذي يحمل الوطنيين الغيورين على هجر مسقط رأسهم، ويحمل الرجال على خيانة زوجاتهم. مثلهم، تركت وراءها أكثر ما تحب؛ من أجل فرحة العودة.
كان غيابها المميز تجربة حماسية. أثناء الأشهر الستة الأولى في منفاها ذاك، كانت منبهرة بتجربة العيش في محيط شبه ملكي، وهي تجربة كانت حديثة عهد بها. كل شيء كان مبالغا فيه وغير حقيقي، حتى إنها كان ينتابها ذلك الشعور المربك بأنها داخل قصة خيالية. هامت على وجهها وأضاعت طريقها وسط متاهة من الردهات ذات الأعمدة والشقق المذهبة. بدا أن السلالم الرخامية بلا نهاية، وأن ثمة عددا غير محدود من الأروقة ضعفت جميعها في المرايا الضخمة؛ وبهذا كان نصف القلعة على الأقل مجرد وهم.
حملت المناظر الطبيعية بجمالها الذي يحبس الأنفاس الطابع غير الواقعي نفسه. في خطاباتها لأسرتها، تخلت عن محاولاتها وصف الجبال الزرقاء والأرجوانية، التي تبلغ قممها عنان السماء، والأنهار الزبرجدية المتفجرة، والوديان الخضراء اليانعة، والأجراف الشاهقة.
فكتبت تقول: «لا أجد ما يكفي من الكلمات لوصفها، لكنها جميعا ببساطة رائعة.»
حسب الموعد المحدد، في مطلع الشهر السابع لغيابها، انكسفت شمس نشوتها للمرة الأولى، وبدأت تدرك مساوئ السكن في قلعة. بادئ ذي بدء، لم تعد تضيع طريقها، ولم تعد السلالم الرخامية اللامحدودة؛ إذ إنها عرفت مواضع المرايا.
لكن كان ثمة تفاصيل أخرى بغيضة، منها البراغيث التي تسكن السجاد كث الوبر والمفروشات الفاخرة؛ إذ كان عدد الكلاب كثيرا وعدد الخدم قليلا.
وغرفتها الواسعة، التي تشبه شقة ملكية مسرحية، كانت غير مريحة وباردة؛ إذ كانت مدفأتها الضخمة المصنوعة من الخزف الملون - والتي تشبه قطعة فنية في مذبح كاتدرائية - لا تزود بالقدر الكافي من الحطب.
كان يقدم عشرة أصناف على العشاء، لكن لا يوضع أمام من يتناول العشاء سوى شوكة واحدة وسكين واحدة، ينظفهما بمسحهما بالخبز.
الرجال جميعهم وسيمون ومهذبون، لكن لا يبدو أن أحدا منهم يدرك أنها فتاة ذات شعر مجعد هوايتها المحببة هي رفض من يطلبون يدها.
قبل انقضاء آخر خمسة أشهر لها، غمرها الحنين للوطن حتى تحول شوقها لمنزل إنجليزي، يطل على باحة كنيسة ريفية وخلفه بستان من أشجار التفاح، إلى شغف. كانت قد سأمت المناظر المسرحية، فودت لو بدلت بجميع تلك الجبال والأنهار ركنا من مرج إنجليزي استقرت به أجمة من أشجار الدردار وبركة بط.
في الليلة التي سبقت عودتها غمرتها الحماسة؛ إذ كانت تتطلع لرحلتها فلم تستطع النوم. لم تصدق الأمر، مع أن أمتعتها قد حزمت وعنونت بالفعل. إحدى الحقائب كانت تحوي ملاءات متسخة، تنوي غليها بعناية. كانت تغسل ملابسها الشخصية في الحمام خلسة؛ فقد رأت العديد من الدلاء تكب في النهر الأخضر البديع الذي كان بمثابة مغسلة عامة.
بينما استلقت وتقلبت سمعت هدير محرك أخمدته المسافة، فكان كأزيز بعوضة متضخم. كان صوت القطار السريع الليلي الذي أيقظ النائمين المشتاقين لوطنهم في الفندق في بقعة أبعد من الوادي تبعته أفكارهم، كأنه زمار معدني ضخم يعزف لحنا ساحرا.
مثلما سينادي آيريس فيما بعد، انتشل العانس الودود من سريرها. هرعت إلى النافذة في الوقت المناسب كي تراه يمرق خلف الخور كسهم ضوئي يخترق غياهب الظلام.
قالت في زهو: «في مساء الغد، أستقل أنا أيضا قطارا سريعا.»
كانت سعادتها غامرة وهي تترقب رحلتها الطويلة خطوة بخطوة وحدا بعد حد حتى تصل إلى محطة القطار الصغيرة التي كانت مجرد محطة توقف بسيطة مبنية وسط الحقول الخاوية. لن تجد أحدا في استقبالها هناك؛ فأبوها يخاف أن يقفز سقراط الأخرق في خضم فرحته الغامرة أمام محرك القطار ويحاول أن يلعقه.
لكنها ستجدهم بانتظارها عند نقطة أبعد من الزقاق. دمعت عيناها عندما فكرت في ذلك اللقاء، لكن حتى حينها ما ستكون قد بلغت نهاية رحلتها بعد، ليس قبل أن تعدو خلال بوابة معتمة بيضاء وحديقة تضيئها النجوم لترى الضوء يتدفق من باب مفتوح.
قالت الآنسة فروي بغصة في حلقها: «أمي.»
ثم لمس قلبها خوف مفاجئ.
قالت في نفسها: «أنا لم أشعر من قبل بالحنين إلى الوطن. أهو نذير؟ ماذا إن وقع أمر ما وحبسني عن العودة إلى الديار؟»
بالفعل وقع أمر، أمر وحشي للغاية وغير متوقع، حتى إنها لا تصدق أنه حدث حقا. كان مغامرة لا يمكن أن تحدث لأي شخص غيرها.
في البداية، كانت واثقة من أن أحدا ما سيأتي لإنقاذها عما قريب. قالت لنفسها إن من حسن طالعها أن قابلت تلك الفتاة الإنجليزية الفاتنة. كانتا من وطن واحد، وبإمكانها أن تعتمد عليها بكل ثقة؛ لأنها تعرف أنها كانت لتقلب القطار رأسا على عقب بحثا عنها، إذا كان الوضع معكوسا.
لكن بمرور الوقت بطيئا، دون أن يحدث شيء، بدأ الشك يتسلل إلى عقلها. تذكرت أن الفتاة قد أصيبت بضربة شمس خفيفة وكانت على غير ما يرام. ربما ساء حالها، أو حتى وقعت فريسة للمرض الشديد، كما أنه يصعب شرح الوضع عندما لا يتحدث المرء لغة أهل البلد.
هناك احتمال أسوأ، ربما حاولت آيريس التدخل فوقعت فريسة لتلك الآلة الهائلة التي انحشرت هي في أحد تروسها. عندما راودتها تلك الفكرة، تعرقت شفتها من يأسها وخوفها.
ثم فجأة شعرت بالقطار يتوقف. خفت هديره وقعقعته حتى صارت كصوت سحق زاحف، ثم بارتجاجة هائلة توقف المحرك.
قالت في نفسها بظفر: «لقد افتقدوني، والآن سيفتشون القطار.»
ثم عادت تتخيل الضوء المنبعث من خلال الباب المفتوح.
بينما هي تنتظر في ترقب فرح، كانت لتتفاجأ إن علمت أن العروس الجميلة - التي تبدو كنجمة سينمائية - تفكر بها.
مع أنها لم تكن سوى دمية يحركها الآخرون، كانت هي العنصر الأساسي لمكيدة تهدف لأن تعيد إليها حريتها؛ ففي تلك اللحظة كان البروفيسور يقف في الممر خارج مقصورة السيدة لورا الخاصة. لم يكن عليها سوى أن تستدعيه كي تتحرك الأحداث التي ستقود في النهاية إلى تحرير الآنسة فروي.
وحيث إنه كان أمامها وقت كاف قبل أن يبلغ القطار ترييستي، أجلت ذلك حتى تتأكد لها حكمة قرارها. بمجرد أن تأججت في ذهنها الفكرة لم يسعها أن توقف وهج الشهرة.
غير أنها في الحقيقة كانت قد حسمت أمرها بالفعل. انكشفت لها عيوب المحامي، إلا أنه يظل هو الجائزة التي راهنت عليها في الأساس؛ فعندما تحوز لقب السيدة براون سيصبح السير بيرفيل مجرد زوج، وهي تعرف كيف تتعامل مع ذلك الحيوان المنزلي المفيد. حتى الآن، كانت تشعر بالخزي بعد أن عرفت أن خطته لا تتضمن الزواج منها، وأنها في خضم توقها لإثارة انبهاره ونيل استحسانه تكونت لديها عقدة نقص.
لكن تكتيكات الهجوم البارعة كانت تناسبها أكثر. كان صوتها متعجرفا عندما تحدثت إلى المحامي.
سألته وهي تتطلع إلى رصيف قذر يظهر دون وضوح في الضوء المرتعش الذي تبثه بضعة مصابيح: «لم توقفنا؟»
قال المحامي مفسرا: «الحدود.» «تبا! هل علينا أن ننزل من القطار ونمر بنقطة التفتيش الجمركي؟» «كلا، بل يصعد المسئولون على متن القطار. ما الذي ينوي ذلك المجنون الأشعث فعله؟»
قطب المحامي جبينه عندما رأى هير يندفع إلى مكتب البرق بينما يصيح بوجه الحارس الذي تبعه وكان يصيح به بدوره. من الواضح أنهما كانا يخوضان مباراة تشاتم من الطراز الأول، لكنها كانت غير مفهومة للركاب الإنجليزيين الذين فاتهم أفضل النقاط التي أحرزت فيها.
في الواقع، خطر للشاب النبيه أن بوسعه أن يوفر وقته الثمين في ترييستي إن استغل توقف القطار في إرسال البرقية التي طلبت منه السيدة بارنز إرسالها إلى مدينة باث بإنجلترا، لكن تلك الفكرة لم تجعله يحوز استحسان أبناء وطنه.
تذمر المحامي وهو ينظر إلى ساعة يده: «ذلك الأخرق يعطلنا.»
لكن فاجأه أن وجد لورا هادئة تماما تجاه الخطر الذي يهدد جدولهما الزمني.
قالت بتراخ: «وهل يهم ذلك؟ فسنصل على أي حال.» «لكن ربما فاتتنا مواصلتنا؛ فهي لا يفصلها سوى القليل عن موعد وصولنا. هذا يذكرني بأمر. كنت أتساءل إذا كان في صالحك أن نفترق قبل أن نصل إلى إيطاليا؛ فربما صادفنا شخصا نعرفه هناك.» «أنا شخصيا لا أرى أن إيطاليا بمثابة ميدان بيكاديلي، لكنها لا تزال بلدا معروفا. فماذا تريد أن تفعل؟» «بإمكاني أن أستقل قطار ترييستي-باريس السريع. هل تستطيعين تدبير أمورك بمفردك في ميلان؟» «على أكمل وجه. سأعثر على أحد ما، أو أحد ما سيعثر علي. على أي حال أستطيع أن أتدبر أمري.»
حمل صوتها نبرة ثقة - كتلك المقترنة بصرف الطهاة إلى عملهم - إذ كان البروفيسور قد عاد للتو إلى مقصورته. نهضت من مقعدها متأهبة لاتباعه، عندما ظهر موظفو الجمرك في نهاية الممر.
كانت عملية التفتيش تلك ذات أهمية قصوى للآنسة فروي؛ لأن لورا لم تشأ أن يقاطعها أحد، أرادت أن تنتظر ريثما تفتش أمتعة البروفيسور. خلال تلك الفترة، استشعر المحامي موقفا دعاه لطرح بضعة أسئلة إيحائية.
سألها: «لم تلك الجدية البالغة؟» «أنسيت أن ذلك قد يكون أمرا جادا بالنسبة لي؟» «وكيف ذلك؟ فنحن لن نفترق للأبد، أليس كذلك؟ بإمكاني أن ألتقيك في لندن.» «كم هذا لطيف!»
الآن ولم يعد كبرياؤها يحول بين طبيعتها الأنثوية وتعبيرها عن ذاتها، شعرت لورا أنها سيدة الموقف؛ فهي تحمل بيدها البطاقة الرابحة.
قالت: «أتساءل إن كنت سأطيق حمل لقب براون، بعد أن كنت السيدة بارميتر.» «وهل ستسنح الفرصة؟» «إن وقع طلاق فسيصعب أن تخذلني؛ فالأمر لم ينته بعد، أليس كذلك يا عزيزي؟» «لكن يا عزيزتي لن يقع طلاق.» «لست واثقة تماما. أعرف أنك بينت لي بوضوح شديد أنك لا تنوي أن تضع بيد زوجتك دليلا يحملها على تطليقك، لكنها ستقرأ عنا في الصحف، وليس ثمة امرأة تطيق ذلك.» «أنت تبدين واثقة تماما من ذيوع صيتك. ربما أنت مطلعة على احتمالات ذلك أكثر مني؟»
نظر إليها المحامي شزرا وكأنها شاهد عدائي؛ إذ أدرك الخطر الذي يختبئ وراء ابتسامتها.
كان غرضها التعجيل بأمر ما.
قال ببرود: «بإمكاني أن أطمئنك بخصوص نقطة واحدة. إن رفع زوجك دعوى ضدك فقد تخسرين لقبك البراق ذلك، لكني لن أطلب منك أن تقدمي تلك التضحية الكبرى؛ فهناك سيدة بروان بالفعل. زوجتي لن تطلقني أبدا.»
نظرت إليه آيريس باستنكار.
وسألته: «أتعني أنها ستتلقى الخبر وهي مستلقية دون أن يهتز لها طرف؟» «هل يهم على أي وضع ستتلقاه؟ ما أقصده هو أننا متفقان تماما. سيكون في غير مصلحتنا المشتركة أن نفترق، لكني لا أظن أن خطر التشهير قائم بالفعل. ماذا عنك؟»
كان يعلم أنه ربح الجولة، ولم يخف ذلك عنها أيضا. حرك صوته الفاتر الذي لا تتغير نبرته عاطفتها المتأججة.
قالت: «إن كان قائما، فيبدو لي أنني سأكون الخاسرة الوحيدة. فأنت تتباهى بأن زوجتك لن تطلقك، لكن زوجي سيفعل، وأنا أحمد الله على ذلك؛ فعلى الأقل أنا متزوجة من رجل حقيقي يملك مشاعر طبيعية لائقة.»
وضع المحامي نظارته أحادية العدسة على عينه في محاولة غريزية لحفظ ماء وجهه.
قال: «أخشى أني خيبت ظنك. لم أكن أعلم أني جعلتك تأملين فيما هو أكثر من مجرد عطلة ممتعة غير تقليدية.»
قبل أن يتسنى للورا الرد، دخل موظف الجمرك إلى مقصورتهما، وكان مهذبا للغاية وودودا عندما طلب فحص أمتعة السيد الإنجليزي البارز وعروسه الحسناء وجوازي سفرهما.
بعد أن غادر، ظهر البروفيسور مجددا في الممر وهو لا يزال يدخن غليونه.
سرت القشعريرة في جسد لورا فور أن وقعت عيناها عليه؛ إذ ذكرها بما كادت تفقده بسبب تصريح متعجل. كانت لتخسر بيتها الفاخر، ومكانتها الاجتماعية، واحترامها، وربما حتى طفليها؛ بسبب رجل لا ينوي الزواج منها.
قالت لنفسها: «حمدا لله أني استشففت نيته قبل أن أفعل!»
كان مكسبها خسارة للآنسة فروي؛ فالقطار السريع يحمل على متنه راكبة خفية، لم يفحص أحد جواز سفرها مع أنه سليم؛ لأنها مسافرة محنكة، أدركت حقيقة ما حدث عندما بدأ القطار يتحرك ببطء للمرة الثانية.
قالت في نفسها: «الحدود.»
لكن في الفترة بين صعود موظفي الجمرك على متن القطار ومغادرتهم، اجتاحتها دوامة من المشاعر؛ إذ خرجت من جوف الليل إلى نور الشمس، مرورا بشفق الترقب المتدرج، ثم جاء الأمل والقلق المؤجلين، قبل أن يبتلعها الظلام مرة أخرى.
وعاد القطار ينطلق مسرعا.
الفصل الخامس والعشرون
اختفاء غريب
بعد أن غادر البروفيسور، استرخت آيريس في مقعدها وأصغت لهدير التيار المتذبذب لإيقاع القطار المضطرب. كان البخار قد بدأ يتكون على زجاج النافذة المعتم، فجعل من العسير رؤية أي شيء خارجها، عدا خط من الأضواء يرى كل حين وآخر عندما يمر القطار بسرعة من أمام محطة صغيرة.
منذ أن أثبتت قوانين المنطق أن لا وجود للآنسة فروي، كانت تشعر بإنهاك لدرجة جعلتها غير مهتمة بمحيطها. لم تجد في نفسها طاقة تكفي حتى لأن تظل حانقة على البروفيسور لتدخله في شئونها.
قالت في نفسها متأملة: «جميع المسافرين أنانيون. لقد كانت الأختان فلود- بورتر هما السبب. خشيتا أن تعلقا معي؛ لذا أثرتا على البروفيسور، وأتوقع أنه استشار الطبيب بشأن ما يمكن فعله.»
اعتدلت في جلستها في محاولة لإراحة ألم ظهرها. أرهقها الاهتزاز المتواصل للقطار، وشعرت بأن رقبتها متيبسة وكأنها مصنوعة من الجص الباريسي وستنفلق إلى نصفين إن حركتها حركة مفاجئة. في تلك اللحظة تاقت إلى فراش مريح تأوي إليه لترتاح بعيدا عن القعقعة والطنين المتواصلين.
كان ذلك ما اقترحه الطبيب؛ نوم ليلي مريح، لكن مع أنها بدأت تشكك في حكمته من السباحة عكس التيار، ظلت ثابتة على إصرارها على عدم الامتثال لنصيحته.
في تلك اللحظة، دخل عليها هير وجلس قبالتها في مقعد الآنسة كومر.
سألها مستبشرا: «هل ستتوقفين في ترييستي؟»
أجابته آيريس بعناد: «كلا.» «لكن هل أنت واثقة أنك قادرة على متابعة الرحلة؟» «وهل يعنيك ذلك؟» «كلا، لكن على أي حال أنا قلق للغاية بشأنك.» «لم؟» «لا أعلم البتة؛ فذلك ليس من عادتي.»
ابتسمت آيريس ابتسامة واهنة رغما عنها. كانت لا تقدر على نسيان الآنسة فروي، فذكراها كانت بمثابة شعور خفي ملح، كضرس توقف نموه مؤقتا. ومع ذلك كان لحضور هير تأثير مسكن موضعي للألم؛ فرغم بؤسها كانت تشعر بحماسة غريبة عندما تكون معه وحدها في تلك الرحلة الكابوسية.
قال لها: «ابتهجي؛ فقريبا تكونين في الديار، وسط زمرة أصدقائك.»
بدت تلك الفكرة منفرة لآيريس فجأة.
قالت بنفاد صبر: «لا أريد أن تقع عيناي على أي منهم، ولا أريد العودة. ليس لي بيت. أشعر أنه لا يوجد ما يستحق العناء.» «ماذا تفعلين في حياتك؟» «لا شيء سوى العبث.» «مع الآخرين؟» «أجل. جميعنا نقوم بالأمور نفسها. أمور خرقاء. ليس فيهم شخص واحد غير مزيف. أحيانا يرعبني الأمر؛ فأنا أهدر شبابي. إلام سينتهي كل ذلك؟»
لم يحاول هير التخفيف عنها أو إجابة سؤالها، بل حدق في الظلام بالخارج وعلى شفتيه تراقص شبح ابتسامة. عندما بدأ حديثه تحدث عن نفسه. «حياتي تختلف كثيرا عن حياتك؛ فأنا لا أعلم قط ماذا ستكون وجهتي التالية، لكن حياتي دائما خشنة. تحدث أمور لا تكون دائما سارة، لكن إن تسنى لي اصطحابك معي إلى وظيفتي التالية، فسيكون ذلك بمثابة تغيير كامل بالنسبة لك؛ إذ ستحرمين كل وسائل الراحة المتاحة في منزل فاخر، لكنني أراهنك على أنك لن تشعري بالضجر قط مجددا.» «يبدو ذلك لطيفا. هل تطلب يدي؟» «كلا، بل أنتظر ريثما تبدئين بقذفي بفطائر المهلبية كي أتفاداها.» «لكن العديد من الرجال يطلبون يدي للزواج، كما أني أود الذهاب إلى مكان وعر.» «حسنا. الآن صار بإمكاني أن أبحث الأمر بجدية. هل تملكين المال؟» «أملك شيئا منه؛ مجرد فتات.» «هذا يناسبني؛ فأنا لا أملك منه شيئا.»
بالكاد كانا يعيان ما قالاه في حديثهما العشوائي الذي خاضاه باللغة الوحيدة التي يفهمانها، تخالف كلماتهما الواهية التوق البادي في عينيهما.
قال هير قاطعا فترة من الصمت: «أتدرين؟ كل ذلك ليس إلا هراء؛ فأنا ما أقوله إلا لإبعاد تفكيرك عن مشكلتك.» «أتعني الآنسة فروي؟» «أجل، تلك المرأة اللعينة.»
تفاجأ عندما غيرت آيريس الموضوع.
سألته: «كيف هو عقلك؟» «يتراوح بين الذكاء الشديد والمتوسط، هذا عندما يكون صافيا. الجعة هي أفضل وقود له.» «هل تستطيع كتابة قصة بوليسية مشوقة؟» «كلا، فأنا لا أحسن التهجئة.» «لكن هل بإمكانك أن تحل لغز واحدة ؟» «أجل، أنجح بذلك في كل مرة.» «إذن، ما رأيك أن تقدم لي تفسيرا؟ لقد نجحت ببراعة في إثبات أن الآنسة فروي لا يمكن أن تكون حقيقية، لكن إن كان وجودها حقيقيا، فهل بإمكانك أن تكتشف ما عساه أن يكون قد حدث لها، أم أن ذلك صعب عليك للغاية؟»
انفجر هير ضاحكا وقال: «لطالما ظننت أني إن أعجبت بفتاة، فستكون قائدة فرقة موسيقية لها شعر مموج. لم يخيل لي قط أني سأضطر لأن ألعب دورا مساندا لمعلمة عجوز. أعتقد أن الدهر ينتقم مني؛ فمنذ زمن طويل عضضت معلمة، وقد كانت معلمة بارعة بحق. حسنا، لنبدأ.»
أشعل غليونه وقطب جبينه بينما راقبته آيريس باهتمام بالغ. بدا على وجهه - الذي زال عنه التواني واللامبالاة - أمارات التركيز، فبدا كأنه رجل مختلف. كان تارة يمرر أصابعه خلال شعره عندما تنتصب خصلة شعره الثائرة، وتارة أخرى يضحك ضحكات خافتة مكتومة، ثم ما لبث أن صاح صيحة انتصار. «لقد نجحت في حبك قصة ملائمة. يتخلل الخداع بعض أجزائها، لكنها تظل متماسكة. هل تودين سماع القصة التي تدعى «الاختفاء الغريب للآنسة فروي» التي ألفتها؟»
أجفلت آيريس من نبرته المرحة.
قالت له: «سيسرني أن أفعل.» «إذن، لك ما أردت، لكن أولا عندما صعدت على متن القطار، هل كان بالعربة المجاورة راهبة واحدة أم اثنتان؟» «لم ألاحظ إلا واحدة عندما مررنا بالمقصورة. كان وجهها مريعا.» «مم! قصتي تتطلب وجود واحدة أخرى، فيما بعد.» «هذا ملائم، فثمة أخرى. لقد قابلتها في الممر.» «هل رأيتها منذ ذلك الحين؟» «كلا، ولكني لم أكن لألاحظ على أي حال؛ فالزحام شديد.» «هذا جيد. هذا يثبت أنه ما كان أحد ليلحظ على الأرجح إذا كان ثمة راهبة واحدة أم اثنتان يرعيان المريضة المضمدة، لا سيما أن الزحام شديد في نهاية الممر. كما ترين كان علي أن أقلب أمر تلكما الراهبتين المبجلتين في رأسي؛ لذا فهما مهمتان جدا.» «أجل. تابع.» «أنا لم أبدأ بعد. كان أمر الراهبتين مجرد تمهيد. إليك القصة الأساسية. الآنسة فروي جاسوسة بحيازتها معلومات تحاول تهريبها خلسة إلى خارج البلاد؛ لذا يجب اغتيالها. وأي ظروف ستكون أنسب لذلك الغرض من رحلة قطار؟»
سألته آيريس بوهن: «أتعني أنهم ألقوا بها على القضبان أثناء مرور القطار بأحد الأنفاق؟» «دعي عنك تلك السخافة، وذلك الشحوب أيضا. إن كانوا قد ألقوا بها على القضبان لعثر على جثتها ولطرحت الأسئلة الغريبة. كلا، يجب أن تختفي. وما أرمي إليه هو ما يلي. إن اختفت أثناء رحلة، فسيضيع الكثير من الوقت الثمين قبل أن يمكن إثبات أنها مفقودة حتى. في البداية سيظن أهلها أن وسيلة مواصلات فاتتها أو أنها توقفت في باريس لليلة أو ليليتين للتسوق؛ لذا عندما يبدءون بالبحث عنها سيكون أثرها قد انمحى تماما.» «لكنهم لن يعرفوا ما يجب عليهم فعله؛ فهما عجوزان لا حول لهما ولا قوة.» «يا لسوء طالعهما! أنت تجعلين قصتي تبدو مثيرة للشفقة تماما، لكن حتى إن كانا من ذوي النفوذ ويعرفان الإجراءات اللازمة، سيجدان نفسيهما لقاء مؤامرة من الصمت عندما يبدآن في التحري عنها.» «يا للهول! هل الركاب جميعهم مشتركون في المؤامرة؟» «كلا، فقط البارونة والطبيب والراهبتان. بالطبع سيكون هناك مؤامرة من الصمت السلبي، كما ذكرت لك من قبل؛ فلن يجرؤ أي من الركاب من أهل البلدة أن يناقض أيا من أقوال البارونة.» «لكن لا تنس أن البارونة قالت شيئا لم تفهمه أنت لجامع التذاكر.» «أتلك حكايتي أم حكايتك؟ لكن ربما أنت محقة، ربما تواطأ معهم موظف أو اثنان من موظفي السكة الحديدية. في الواقع، لا بد أن تلاعبا ما قد حدث عند مفترق الطرق بخصوص مقعدها المحجوز؛ إذ كان يجب أن يضمنوا أن تجلس في مقصورة البارونة، وأن تكون تلك المقصورة في مؤخرة القطار.» «وأن تكون مجاورة لمقصورة الطبيب كذلك، لكن ماذا حدث لها؟»
كانت آيريس قد قررت الاحتفاظ برباطة جأشها، ومع ذلك قبضت أصابع يدها في ترقب وهي تنتظر.
قال هير بتأمل: «هنا يأتي دور ذكائي. الآنسة فروي ترقد في المقصورة المجاورة لتلك، مغطاة بالأوشحة متخفية وراء الضمادات والقصاصات، حتى إن أمها ما كانت لتتعرف عليها الآن.» «كيف؟ متى؟» «حدث ذلك عندما كنت تغط في النوم. حينها يدخل الطبيب ويسأل الآنسة فروي إن كان بإمكانها أن تؤدي خدمة بسيطة لمريضته. أنا واثق أني لا أعلم كيف أقنعها بذلك، ومعه ممرضة طوع بنانه، لكنها ستذهب معه.» «أنا واثقة أنها كانت لتفعل ذلك.» «فور أن تدلف إلى المقصورة، تجد بانتظارها أكبر مفاجأة في حياتها. بادئ ذي بدء، تجد جميع الستائر منسدلة والظلام يعم المقصورة. ترتاب في الأمر، لكن قبل أن يتسنى لها أن تصرخ، ينقض عليها ثلاثتهم.» «ثلاثتهم؟» «أجل! فالمريضة أحد أفراد العصابة. تقيدها إحداهما، وتكتم الأخرى أنفاسها حتى لا تتمكن من الصراخ، بينما ينهمك الطبيب في حقنها بعقار يجعلها تفقد الوعي.»
شعرت آيريس بدقات قلبها تتسارع وهي تتخيل ذلك المشهد. قالت: «ذلك ممكن الحدوث.»
ابتسم لها هير ابتسامة فرحة. «أتمنى لو أنك كنت حاضرة وأنا أقص حكايات مباريات الهوكي التي خضتها؛ فأنت تبدين رد الفعل المناسب تجاه الأكاذيب؛ أعني الأكاذيب المحبوكة بمهارة بالطبع. بالمناسبة، إحدى الراهبتين رجل؛ تلك ذات الوجه القبيح.» «أظن أنها كذلك.» «لا تكوني متحاملة؛ فالرجال ليسوا جميعا قبحاء. على أي حال، تسقط الآنسة فروي فاقدة الوعي، فيتسنى لهم تضميدها بقوة، ولصق الضمادات الطبية على وجهها لإخفاء هويتها، ثم يقيدونها، ويكممون فمها، ويمددونها حيث كانت ترقد المريضة المزيفة التي ترتدي بالفعل الزي الموحد، إلا أنها كانت تخفيه تحت البطانيات؛ لذا لم يكن عليها سوى إزالة الضمادات اللاصقة ووضع حجاب على رأسها المضمد كي تبدو كراهبة تقليدية. الراهبة رقم اثنين.»
أومأت آيريس برأسها. «لقد رأيت راهبة ثانية في الممر.» «لكن في ذلك الحين، تعثرين على بعض الركاب الإنجليزيين ممن سيذكرون الآنسة فروي، حتى إنك حملت زوجة القس على تأييدك. كما شرحت لك من قبل حسبما أذكر، كان على المتآمرين أن يأتوا بشخص ما، ويتكلون إلى الحيلة؛ لذا ينسدل الستار مجددا، فيما ترتدي الراهبة الثانية - التي كانت تلعب دور المريضة الأصلية - زي الآنسة فروي.»
ظلت آيريس صامتة بينما بدت الكآبة على هير. «أقر بأنها قصة واهية، لكن ذلك هو أقصى ما بوسعي.»
بالكاد سمعته آيريس؛ إذ كانت تستجمع شجاعتها كي تطرح سؤالا. «ماذا يكون مصيرها عند وصولهم إلى ترييستي؟»
قال هير مفسرا: «ذلك هو الجزء الذي سيعشقه قرائي. سيضعونها في عربة إسعاف ويأخذونها إلى منزل معزول، يطل على مسطح مائي عميق مهجور - جدول أو فرع من بحيرة أو ما شابه. تعرفين حتما ما أعني - مياه سوداء متعكرة تكتنف رصيفا بحريا مهجورا، ثم سيربطونها بثقل وما إلى ذلك، ويلقون بها بعناية وسط الطمي والوحل، لكني لست عديم الرحمة بالكلية. سأدعهم يتركونها مخدرة حتى نهايتها التعيسة؛ لذا فلن تشعر العجوز الودودة بأي شيء. هاك القصة. ما الأمر؟»
هبت آيريس من مقعدها وكانت تجذب الباب محاولة فتحه. قالت لاهثة: «كل ما قلته قد يكون حقيقيا. يجب ألا نهدر أي وقت. يجب أن نفعل شيئا.»
أجلسها هير في مقعدها مرة أخرى.
وقال: «اسمعي يا ...» كانت كل شيء بالنسبة له، ومع ذلك غاب اسمها عن ذاكرته تماما. «تلك مجرد قصة ألفتها لأجلك.»
صاحت آيريس: «لكن يجب أن أصل لتلك المريضة؛ فهي الآنسة فروي. يجب أن أتأكد بنفسي.» «دعي عنك تلك السخافة. المريضة التي ترقد في المقصورة المجاورة حقيقية، وقد تحطم جسدها. إن اقتحمنا المقصورة عنوة وشرعنا في إثارة أي جلبة فسيطردنا الطبيب، وسيكون محقا في ذلك أيضا.»
سألته آيريس بيأس: «إذن فلن تساعدني؟» «كلا بكل تأكيد. أنا آسف لأني لا أكف عن ذكر ذلك، لكني لا أستطيع نسيان أنك تعرضت لضربة شمس، وعندما أتذكر التجربة التي تعرضت لها وكيف أني خلطت بين مدربي ...» «وأمير ويلز. أعلم، أعلم.» «أنا آسف للغاية لأني جاريتك، لكني لم أفعل سوى أني أخبرتك كيف كانت الأمور لتتم، لكني كتلك العجوز التي ترى زرافة للمرة الأولى. بصدق، «أنا لا أصدق ذلك».»
الفصل السادس والعشرون
توقيع
وافقته آيريس قائلة بتبلد: «بالطبع هي قصة اختلقتها. يا لي من حمقاء!»
بينما كانت تحاول كظم خيبة أملها، بدأ شخص ما - على مسافة منهم من الممر - يتحدث بصوت مرتفع على غير المعتاد. كانت كلماته غير مفهومة لها، وكان لها وقع تعويذة سحرية لهطول المطر على أذنيها، لكن تهللت أسارير هير.
قال وهو يهب على قدميه: «أحد معه مذياع لاسلكي، إنها نشرة الأخبار. سأعود على الفور.»
عندما عاد، أخبر آيريس بما سمعه. «ها هي جريمة قتل مثيرة أخرى تضيع سدى؛ فأدلة الطب الشرعي في قضية مقتل المحرر تشير إلى أنه أردي بالرصاص في منتصف الليل تقريبا، بينما غادر المتأبه بعد العشاء مباشرة متجها إلى كوخ الصيد الذي يملكه؛ لذا لا يسعهم إدانته بها. يا للخسارة!»
بينما هو يتحدث، لاح في ذاكرة آيريس أمر ما، كبيوت العنكبوت الحلزونية التي تهفو في الهواء في صباح يوم خريفي ساكن، انتبهت بينما كان هير ينظر إلى ساعته.
قال لها: «لقد اقترب موعد جولة العشاء الثانية، فهل ستأتين؟» «كلا، لكن الآخرين سيعودون عما قريب.» «وما همك أنت؟ هل تخافين منهم؟» «لا تكن سخيفا، لكنهم يتجمعون كلهم في ذلك الجانب، وأنا ... وأنا لا أحب أن أكون قريبة لتلك الدرجة من ذلك الطبيب.» «لست خائفة إذن. حسنا، ستكون مقصورتنا خاوية بينما نتعشى أنا والبروفيسور. وأنا مستعد لتأجيرها من الباطن لمستأجر جيد مقابل ثمن زهيد.»
بعد أن غادر، شعرت آيريس بالوهن القديم يتسلل إليها. علمت من صوت هرير ممطوط، يشبه صوت نحيب روح معذبة، تبعه صوت يشبه هدير طلقات مدفع رشاش، أنهم يمرون عبر نفق. وهذا يشير إلى احتمال وقوع أمر مريع.
ماذا إن كان أحد في تلك اللحظة يلقي بجثة خارج القطار؟
ذكرت نفسها أن قصة هير من وحي خياله واستطاعت طرحها عن ذهنها، لكن قصة أخرى - قرأتها في مجلة ويفترض أنها حقيقية - حلت محلها.
كانت تحكي عن سيدتين وصلتا مساء إلى فندق أوروبي، في طريق عودتهما من جولة بالشرق. حفظت الابنة جيدا رقم غرفة أمها قبل أن تذهب هي إلى غرفتها. عندما عادت في وقت لاحق لم تجد أي أثر لأمها، ووجدت بالغرفة أثاثا جديدا وورق حائط جديدا.
عندما طرحت الأسئلة، أكد العاملون بالفندق جميعا، بداية من المدير ومرورا بمن تحته جميعا، أنها جاءت إلى الفندق بمفردها. لم يكن اسم الأم مدونا في سجل النزلاء. ودعم المؤامرة سائق سيارة الأجرة والحمالون في محطة القطار.
اختفت الأم وكأنها لم تكن.
لكن بالطبع كان لذلك تفسير. في غياب الابنة، ماتت الأم بالطاعون الذي كانت قد أصيبت به في الشرق. تلك الشائعة وحدها كفيلة بإثناء ملايين الزوار عن زيارة المعرض الذي سيقام في المدينة. لما كانت مصالح مهمة إلى ذلك الحد تقف على المحك، كان لا مناص من التضحية بفرد واحد.
بدأت كفا آيريس تتعرقان وهي تتساءل عن احتمال أن يكون اختفاء الآنسة فروي مناظرا لذلك الحادث لكن على نطاق ضيق للغاية. في حالتها لن يتضمن مؤسسة كبيرة معقدة، أو مؤامرة مدهشة، بل مجرد تحالف بين حفنة من ذوي المصالح.
وقد بين لها هير كيف من الممكن لذلك أن يحدث.
بدأت تحاول مطابقة الوقائع مع تلك النظرية. أولا، مع أن البارونة ثرية، فإنها تشارك عامة القوم في مقصورة. لم؟ لأنها قررت القيام بتلك الرحلة في اللحظة الأخيرة فلم يتسن لها حجز مقصورة؟ لو كان الأمر كذلك، لما استطاعت الأختان فلود-بورتر والزوجان تودهانتر حجز مقصورة خاصة.
أكان ذلك شحا منها إذن؟ أم أنها أرادت أن تجلس في مقصورة معينة في نهاية الممر، بجوار عربة الطبيب، حيث لن يراهما أحد أو يزعجهما؟
علاوة على ذلك أهي صدفة أن يكون باقي ركاب المقصورة من السكان المحليين ممن تتحكم في مصائرهم إلى حد كبير؟
ظلت تلك الأسئلة دون إجابة، بينما لاحت غيمة جديدة من الشكوك في ذهن آيريس. كان من غير العادي أن تترك الستائر دون إسدال في مقصورة المريضة. تركت في واجهة العرض - إن جاز التعبير - للإعلان عن بضاعتهم. أكان الغرض من ذلك هو تمهيد الطريق لنسخة من الاستراتيجية القديمة؛ إخفاء شيء حيث يكون على مرأى من الجميع؟
لكن، ما الذي فعلته الآنسة فروي المسكينة؟ كان هير محقا عندما قال إنه لا يعنيه سوى الدافع. إلى حد علم آيريس، أوفت الآنسة فروي بواجباتها بأمانة شديدة، حتى إن رب عملها الموقر شكرها بنفسه على الخدمات التي أدتها له.
فجأة شهقت آيريس بانفعال.
وقالت بصوت هامس: «ذلك هو السبب.»
كان من المفترض أن يكون الرجل البارز في كوخ صيده وقت وقوع الجريمة، لكن الآنسة فروي، والتي كانت مستلقية في فراشها دون أن تنام في غير كياسة، باغتته بخروجها من الحمام الوحيد بالقصر، حيث كان يغتسل قبل أن ينسل خارجا.
بهذا تكون قد أسقطت حجة غيابه.
فمعرفتها تلك ستمثل خطرا مؤكدا لأنها كانت ستعود كي تشتغل بالتدريس لأبناء قائد الحركة الشيوعية؛ فالجميع يعرف أنها تدمن الثرثرة والنميمة، وهي حتما ستفخر بحيازتها ثقة الرجل البارز، ولن تخفي ذلك. ولأنها مواطنة بريطانية - لا مأرب لها من وراء الأمر - سترجح كفة شهادتها في مقابل مجموع شهادات المعنيين.
عندما صافحها ذلك الرجل البارز بأدب جم، كان بذلك يسطر نهايتها.
تصورت آيريس الاجتماع العائلي الذي أجري عند مطلع الفجر، والاستدعاءات المستعجلة للحلفاء الضروريين. كانت الرسائل السرية تتناقل بهمهمة عبر الهواتف حتما. في ضوء ذلك الظرف الطارئ، تقرر بدافع الضرورة أن إسكات الآنسة فروي لا يمكن أن يكون جريمة كاملة.
حاولت كبت جماح خيالها. «ماكسميليان أو ماكس تتذكرينه. حبك لي قصة من خياله. كان يبالغ بالوقائع كي تلائم قصته. ربما أفعل الأمر نفسه. لا جدوى من القلق بشأن امرأة ربما لا وجود لها؛ ففي النهاية ربما تكون مجرد وهم كما يزعمون. أتمنى لو استطعت التيقن.» لم تكن قد نسيت اسمه منذ أن قال لها: «هير اسم طويل يصعب أن تتذكريه.»
تحققت أمنيتها تلك بأسلوب مثير. كان الجو داخل العربة قد صار خانقا، وتدريجيا تحول البخار المتجمع على زجاج النافذة إلى قطرات ماء بدأت تنساب لأسفل.
تابعت آيريس ببصرها إحداها وهي تنزلق من أعلى النافذة المتسخة إلى زاوية منها.
وفجأة أجفلت عندما لاحظت اسما كتب بخط دقيق على الزجاج الذي يغطيه البخار.
لما مالت نحوه، استطاعت أن تقرأ بوضوح التوقيع. كان «وينفريد فروي».
الفصل السابع والعشرون
اختبار الحمض
حملقت آيريس في الاسم وهي تكاد لا تصدق أن عينيها لا تخدعانها. كان الخط دقيقا ذا منحنيات دائرية غير حادة، كخط تلميذة مدرسية، وكان ينطق بشخصية المعلمة الودودة، التي تقف بين وقار الكهولة وريعان الصبا.
كان دليلا مؤكدا على أن الآنسة فروي جلست مؤخرا في المقعد بتلك الزاوية. تذكرت آيريس بإبهام أنها رأتها تحيك شيئا ما عندما دخلت المقصورة لأول مرة. عندما خطت اسمها على الزجاج المعتم بطرف إبرتها، كانت تنفس عن شيء من حماستها للعطلة.
قالت آيريس وهي تطير فرحا: «لقد كنت محقة في النهاية.»
شعرت براحة غامرة لخروجها من غياهب كابوسها، لكن ما لبث أن طغى على فرحتها شعور بكارثة حتمية.
لم تعد تحارب الظلال، بل تواجه خطرا فعليا.
فثمة مصير مريع ينتظر الآنسة فروي، وهي الشخص الوحيد على متن القطار الذي يدرك ذلك المأزق، والوقت يمر دون هوادة. نظرت إلى ساعتها فوجدت أنها التاسعة إلا عشر دقائق. في أقل من ساعة سيصل القطار إلى ترييستي.
وترييستي الآن تحمل دلالة بشعة؛ إذ إنها بمثابة غرفة الإعدام.
كان القطار يسير بسرعة هائلة، في محاولة لاستعاضة الوقت المهدر. كان يقعقع ويصر وهو يسلك المنحنيات، تهتز عرباته كأنها لا تعبق برائحة حمولتها من البشر. شعرت آيريس أنهم في قبضة قوة غضبى عديمة الشفقة، هي بدورها ضحية نظام لا يرحم.
فسيتعرض السائق لجزاء عن كل دقيقة يتأخرها عن موعد الوصول المحدد.
دفع حس آيريس بإلحاح الموقف لأن تهب واقفة من مقعدها، إلا أنها ما لبثت أن فعلت حتى ترنحت مجددا؛ إذ ضربتها موجة مفاجئة من الدوار. نتيجة لتلك الحركة المتهورة، شعرت بنبض داخل رأسها وبآلام مبرحة خلف محجري عينيها. أشعلت سيجارة في أمل واهن أن يكون لها تأثير مهدئ.
أنبأها ضجيج الأصوات الآتي من الممر أن الركاب قد بدءوا يعودون من العشاء. كانت الأسرة والشقراء أول الواصلين. كانوا جميعا في مزاج رائق بعد أن تناولوا وجبتهم فلم يعبئوا بآيريس التي نظرت لهم شزرا من مقعدها. أحنقها سكوتهم عن المؤامرة، حتى مع أنهم يجهلون أن خطرا يهدد الآنسة فروي، بل سرهم فحسب أن قدموا خدمة بسيطة للبارونة.
تبعتهم السيدة التي ترتدي حلة الآنسة فروي التويدية وقبعتها ذات الريشة. فور أن وقعت عيناها على تلك المنتحلة، ارتفعت حرارة آيريس مجددا وهي تتساءل في نفسها إن كانت تلك هي بالفعل الممرضة الثانية التي التقتها في الممر.
فكلتاهما لها عينان سوداوان باهتتان وبشرة شاحبة وأسنان نخرة، لكن الفلاحات اللاتي رأتهن في غرفة الانتظار لم يختلفن عنها في شيء تقريبا. لما استحال أن تصل إلى أي استنتاج نهضت آيريس واندفعت خارجة إلى الممر.
كانت متحفزة للتصرف وتنوي اقتحام المقصورة المجاورة، لكن البارونة اعترضت طريقها بجسدها الضخم المتشح بالسواد الذي كاد يسد الممر الضيق. عندما شبت آيريس لتتطلع إلى ما وراء كتفها، أدركت أنها محاصرة في منطقة الخطر بالقطار، بعيدا عن جميع من تعرفهم.
اعتراها فجأة شعور بالعجز والخوف وهي تشيح ببصرها عن الوجه العابس إلى الظلام الدامس الذي يمرق خارج النافذة. زادت صرخات المحرك الجنونية واهتزازات القطار العنيفة من شعورها بأنها داخل كابوس. مرة أخرى، بدأت ركبتاها ترتعدان وخشيت بشدة أن تفقد وعيها.
لكن خشيتها من أن تفقد وعيها فتصير تحت رحمتهم جعلتها تصارع الدوار بكل ما أوتيت من قوة. بعد أن لعقت شفتيها الجافتين، تمكنت من الحديث إلى البارونة. «دعيني أمر رجاء.»
عوضا عن أن تفسح لها الطريق، تطلعت البارونة إلى وجهها المختلج.
وقالت: «أنت تتألمين. هذا ليس أمرا جيدا؛ فأنت يافعة وتسافرين دون رفقاء. سأطلب من الممرضة هنا أن تعطيك قرصا لإراحة ألم رأسك.»
قالت آيريس بحزم: «كلا، شكرا لك! رجاء، هلا تنحيت جانبا؟»
لم تلتفت البارونة لطلبها، أو لرفضها، بل صاحت بأمر حازم فخرجت الممرضة ذات الوجه القاسي إلى مدخل مقصورة المريضة. لاحظت آيريس لا شعوريا أن كلمات البارونة لا تتسق وكونها طلبا عاديا، بل كانت أمرا بالتحرك الفوري.
كان البخار قد بدأ يتجمع على زجاج نافذة مقصورة المريضة بفعل الحرارة، لكن آيريس حاولت أن تلقي نظرة بالداخل. بدا كأن الجسد الساكن الممدد على المقعد لا وجه له، بل مجرد غشاوة بيضاء.
فيما تساءلت في نفسها عما يستقر تحت تلك الضمادات لاحظت الممرضة اهتمامها، فتقدمت بغتة وأمسكت بذراعها كأنها ستسحبها إلى الداخل.
تطلعت آيريس إلى ثغرها القاسي، والظلال الداكنة حول شفتيها والأصابع القوية التي تكسوها شعرات سوداوات قصيرة، وقالت في نفسها: «إنه رجل.»
دفعها الذعر لأن تقدم على حركة غريزية دفاعا عن نفسها. بالكاد كانت تعي ما تفعل وهي تدس طرف سيجارتها المشتعلة في ظهر كف السيدة. من دهشتها، أرخت قبضتها وهي تنطق بما يشبه القسم.
في تلك اللحظة، اندفعت آيريس عنوة من جانب البارونة وانطلقت تركض في الممر وهي تشق طريقها خلال سيل الركاب العائدين من العشاء. مع أنهم أعاقوا طريقها، كانت ممتنة لوجودهم لأنهم شكلوا حاجزا بينها وبين البارونة.
بعد أن هدأ ذعرها، بدأت تدرك أن جميع من بالقطار يضحك منها على ما يبدو. الحارس لم يخف ابتسامته الساخرة وهو يلوي شاربه القصير المنتصب. رأت لمحات من أسنان بيضاء وسمعت ضحكات ساخرة مكتومة. من الواضح أن الركاب يرون أن مسا من جنون قد أصابها، وأنهم مستمتعون بعرض مسل.
سخريتهم تلك جعلت آيريس تدرك الموقف. تنبهت لذاتها وشعرت بالخجل كأنها في حلم تسير فيه عارية.
سألت نفسها: «يا للهول! ماذا فعلت؟ الممرضة لم تفعل سوى أنها قدمت إلي مسكنا أو ما شابه، وأنا أحرقت رسغها. إن كانوا حقا نزهاء فسيحسبون أنني مجنونة.»
ثم استيقظ ذعرها مرة أخرى عندما تذكرت الآنسة فروي. «لن يسمعوا إلي، لكن علي أن أجعلهم يفهمون الحقيقة بشأنها. هذا القطار طويل للغاية. لن أصل إلى مقصدي أبدا. وجوه. وجوه ضاحكة. الآنسة فروي. يجب أن أصل في الموعد المناسب.»
شعرت أنها سجينة كابوس مريع كأنما ثقلت فيه أطرافها بأثقال من رصاص ويأبى جسدها أن يستجيب لإرادتها. كان الركاب يعيقون طريقها، فكانت كلما تقدمت خطوة للأمام ترجع خطوتين للخلف. في خيالها المضطرب، كانت وجوه أولئك الغرباء رسومات هزلية للطبيعة البشرية، خاوية وفاقدة للحس وبلا قلب. فبينما الآنسة فروي في طريقها لأن تقتل لا يكترث أي منهم لشيء سوى العشاء.
بعد جهاد طويل في عدة أقسام من القطار - عندما استحالت الممرات الواصلة إلى كونسيرتينات تعزف ألحانا لصرير الحديد - وصلت إلى عربة المطعم. عندما سمعت طنين احتكاك الخزف وهمهمة الأصوات هدأت عاصفة ذهنها، فظلت واقفة عند المدخل يصارع حسها بالعرف خوفها وذعرها الغريزيين.
كان الحساء يقدم، وكان من يتناولون العشاء يحتسونه بنهم؛ إذ انتظروا وجبتهم طويلا. أدركت آيريس في لحظة من صفاء الذهن أن محاولة إقناع رجال جائعين بدءوا يتناولون عشاءهم للتو لا أمل منها.
مرة أخرى، لاقت نظرات عدائية وهي تسير في الممر بين الطاولات. ضحك نادلان يتهامسان ضحكة مكتومة، فرأت أنهما يسخران منها حتما.
كان البروفيسور، الذي تشارك طاولة مع هير، أول من رآها، فلاح على وجهه الطويل نظرة توجس خاطفة. كان يتجاذب أطراف الحديث مع الطبيب، الذي بقي ليحتسي القهوة والنبيذ؛ إذ لم تكن المقاعد للعشاء الثاني مشغولة جميعها.
حدقوا جميعا بآيريس فسرت قشعريرة في جسد آيريس من ذلك الاستقبال. حتى عينا هير لم تحملا ترحابا؛ إذ تطلع إليها بعبوس قلق.
استجدت البروفيسور في يأس. «بربك تابع احتساء حسائك، لا تتوقف، لكن اسمعني رجاء؛ فذلك أمر بالغ الأهمية. أعلم يقينا أن الآنسة فروي موجودة، وأعلم أن مؤامرة تحاك ضدها، وأعلم سبب تلك المؤامرة.»
هز البروفيسور كتفيه بإذعان وتابع احتساء حسائه. بينما كانت تروي قصتها غير المترابطة باندفاع، هالها ضعف حججها، فيئست من إقناعه قبل أن تنهيها. استمع إليها في صمت تام، وبدا منشغلا بإضافة نسبة الملح المضبوطة إلى حسائه.
بعد أن أنهت حكايتها، نظر إلى الطبيب رافعا حاجبيه مستفهما، فطفق ذلك الأخير يخوض في شرح سريع. أدركت آيريس وهي تراقب وجوههم بعينين قلقتين أن هير انزعج مما يقال؛ إذ قاطع الحديث. «هي لم تحبك تلك القصة، بل أنا من فعلت. ألفتها على سبيل التسلية، فصدقتها الفتاة المسكينة؛ لذا إن كنتم ستتهمون أحدا بالخبل فلتتهموني أنا.»
قطع حديثه وقد أدرك فجأة ما كشفه، لكن آيريس كانت ذاهلة للغاية فلم تلاحظ أي تعريضات فيما قال.
قالت تترجى البروفيسور: «والآن، ألن تأتي معي؟»
نظر إلى الطبق الخاوي الذي وضعه النادل أمامه استعدادا لتقديم وجبة من الأسماك.
سألها بتثاقل: «ألا يمكن لذلك أن ينتظر إلى بعد العشاء؟» «ينتظر؟ ألا تفهم؟ الأمر عاجل لأقصى درجة. عندما نصل إلى ترييستي، سيكون الأوان قد فات.»
مرة أخرى، استشار البروفيسور في صمت الطبيب الذي ظلت عيناه مثبتتين على آيريس وكأنما يحاول تنويمها بالإيحاء. عندما تحدث أخيرا تحدث بالإنجليزية كي تفهمه. «ربما من الأفضل أن نذهب على الفور لنرى مريضتي. أنا آسف على إفساد عشائك يا بروفيسور، لكن الشابة في حالة شديدة من التوتر العصبي، وقد يكون من الآمن أن نحاول طمأنتها.»
نهض البروفيسور من مقعده وقد ارتسم على وجهه تعبير يشبه من وقع شهيدا لحس عدالته. مجددا، قطع الموكب الصغير ممرات القطار المترنح في صف واحد. عندما أوشكوا على بلوغ وجهتهم، التفت هير إلى آيريس وتحدث إليها بنبرة هامسة حادة. «لا تتصرفي بحماقة وتقدمي على أي تصرف متهور.»
تولاها الجزع عندما أدركت أن نصيحته جاءت بعد فوات الأوان؛ فقد كانت الممرضة تري يدها بالفعل للطبيب والبروفيسور. لاحظت آيريس دون تركيز أنها تلف رسغها بضمادة جروح وكأنما تريد حجبها عن الفحص المتمعن.
التفت إليها الطبيب وتحدث بنبرة مطمئنة معسولة. «يا فتاتي العزيزة، ألا ترين أن إحراق ممرضتي المسكينة تصرف متهور للغاية؟ هي لم تفعل سوى أنها عرضت عليك قرص دواء لا ضرر منه لتخفيف ألم رأسك. أترى كيف يتشنج وجهها يا بروفيسور؟»
تراجعت آيريس عندما لمس جبهتها بسبابته الباردة ليبين قصده.
فجأة، تذكرت أنه عندما يكون المرء على وشك أن يخسر لعبة دفاعية، يكون الهجوم هو أمله الوحيد. استجمعت شجاعتها، وتمكنت من الحديث بصوت هادئ. «لا يسعني أن أتأسف بما يكفي بشأن ذلك الحرق. لا يغفر لي أن أقول إنني كنت في حالة من الهلع، لكن لدي ما يبرر حالتي تلك؛ فثمة أمور كثيرة جدا لا أفهمها.»
قبل الطبيب التحدي.
سألها: «أمور مثل ماذا؟» «حسنا، أخبرني البروفيسور أنك عرضت أن تصحبني إلى دار رعاية في ترييستي.» «وهو عرض لا يزال قائما.» «لكن يفترض أنك تهرع بمريضة إلى المستشفى لإجراء عملية خطيرة لها، فكيف يتسنى لك أن تشغل نفسك بغريبة؟ ذلك يدفع المرء للتشكك في خطورة إصاباتها، أو في أنها تعاني أي إصابات على الإطلاق.»
داعب الطبيب لحيته. «قدمت عرضي ذلك لا لسبب سوى إعفاء البروفيسور من مسئولية ثقيلة على نفسه، مسئولية تقع في مجال اختصاصي لا في مجال اختصاصه، لكني يؤسفني أن أخبرك أنك تبالغين في تقدير أهميتك. كانت نيتي هي أن أمنحك مقعدا في عربة الإسعاف التي ستصحبنا للمشفى، وبعد أن نصحب مريضتنا للداخل سيتبع السائق التعليمات ويصحبك إلى دار رعاية أوصيت بها. لم يكن ذلك من أجل أن تلقي رعاية متخصصة، بل كي تحظي بقسط جيد من النوم لتتمكني من متابعة رحلتك في اليوم التالي.»
بدا العرض منطقيا للغاية، فلم يسع آيريس إلا أن تتراجع وتطرح سؤالها التالي. «أين الممرضة الأخرى؟»
سكت البروفيسور طويلا قبل أن يجيب. «لا يوجد سوى ممرضة واحدة.»
عندما تطلعت آيريس إلى وجهه الجامد الذي عززته لحيته السوداء المدببة، أنبأها حدسها أن الاعتراض سيكون غير ذي جدوى؛ إذ سيسفر عن النتيجة نفسها؛ الإنكار من جميع الجوانب. فلن يكون أحد سواها قد رأى الممرضة الثانية. وبالمثل، لن يصدق أحد أن توقيع الآنسة فروي أصلي. هذا إن لم تمحه قطرات البخار.
توجه الطبيب إلى البروفيسور بالحديث.
قال له: «أنا آسف على إبقائك أكثر، لكن لدينا هنا سيدة شابة تعتقد في أمور مريعة. يجب أن نحاول إقناعها بأنها متوهمة.»
سار إلى جسد مريضته المغطى، ورفع طرف إحدى البطانيات كاشفا عن ساقين مهندمتين، وسألها: «هل تميزين ذلك الجورب أو ذلك الحذاء؟»
هزت آيريس رأسها نفيا وهي تنظر إلى الجورب السميك الحريري، والحذاء الرسمي البني ذي الإبزيم الواحد الذي يرتفع عنقه إلى الربلتين.
قالت: «أنت تعرف أني لا أميزهما، لكن ربما كان حظك أفضل إن رفعت ضمادة واحدة فحسب وسمحت لي أن أرى وجهها.»
قطب الطبيب وجهه في ذعر، وقال: «أها، أرى أنك لا تدركين الوضع. علي أن أخبرك بأمر غير سار. أصغي إلي.» نقر بطرف إصبعه جبهة المريضة الملفوفة بالضمادات. «ليس ثمة وجه تحت ذلك على الإطلاق. لا وجه. بل مجرد كتل من اللحم المكشوف. ربما تمكننا من منحها وجها جديدا تماما إن حالفنا الحظ. سنرى.»
تحركت أنامله وحامت لبرهة فوق الضمادات التي تغطي عيني المريضة، ثم قال: «ما زلنا ننتظر حكم طبيب العيون بشأن هاتين العينين. حتى ذلك الحين، لا نجرؤ على تعريضهما لمجرد ومضة من الضوء. ربما يكون قد أصابها العمى الكلي؛ فإحداهما تحولت إلى عجينة، لكن العلم بإمكانه أن يصنع المعجزات.»
ابتسم لآيريس وتابع حديثه. «لكن أبشع إصابة هي إصابة الدماغ، لكني سأعفيك من وصفها؛ فالغثيان يبدو عليك بالفعل. أولا، علينا أن نعالج تلك الإصابة. بعدها نهتم بباقي الإصابات. هذا إن ظلت المريضة على قيد الحياة.»
قالت له آيريس: «أنا لا أصدقك. تلك كلها أكاذيب.»
قال الطبيب بنبرة هادئة: «في تلك الحالة، بإمكانك أن تقنعي أنت نفسك. ما عليك سوى أن تنزعي إحدى تلك الضمادات اللاصقة عن وجهها لتتأكدي، لكن حذار، فإن فعلت فسيبدأ النزيف مجددا وستموت المريضة على الفور بفعل الصدمة. ستدانين أنت بجريمة قتل وتعدمين شنقا، لكن لأنك واثقة تماما من الوجه الذي سيطالعك من وراء تلك الضمادات، فلن تترددي. هلا نزعت تلك الضمادة؟»
شعرت آيريس بأصابع هير تقبض على ذراعها بينما وقفت مترددة. أنبأها حدسها بأن الطبيب يمارس خدعة، وأن عليها أن تنتهز أي فرصة وإن كانت الأخيرة لإنقاذ حياة الآنسة فروي.
لكنه أدى عمله على أكمل وجه؛ فقد جعلتها فكرة ذلك الوجه المشوه الذي تتفجر منه ينابيع الدم تتراجع خوفا. وماذا ينتظرها بعد ذلك؟ حبل المشنقة أو السجن مدى الحياة في مصحة بروودمور النفسية. كان ذلك مصيرا مريعا لم تتحمل التفكير فيه.
همست: «لا، لا أستطيع.»
قال الطبيب باستهزاء: «أها، أنت تتحدثين كثيرا لكنك لست شجاعة كثيرا.»
للمرة الأولى، خطر لآيريس أنه لم ينو قط تعريض مريضته للخطر. إن كان قد فعل، لكان ذلك بمثابة انتحار مهني. كان يقف متأهبا هو وممرضته، في تربص لحركاتها.
لكن على أي حال، كان لديه مأرب خفي؛ إذ بدت عليه خيبة الأمل.
في ذلك الحين، كانت آيريس تشعر بحزن أكمد قلبها من جبنها الذي حبسها عن التمادي في الاستفسار، وأدركت أن لديها خصمين داخل المقصورة.
الطبيب، ونفسها.
الفصل الثامن والعشرون
ارفعي يدك
انتبهت آيريس من ذهولها لتدرك أن البروفيسور كان يتحدث عن العشاء.
كان يقول باستبشار: «إن عجلت بالعودة إلى عربة الطعام يا هير، فلربما شرحت للنادل أن وجبة السمك قد فاتتنا.» «لكنه سيدعي أنها لم تعد طازجة؛ فهم مضطرون للتعجيل بالعشاء الثاني قبل أن نبلغ ترييستي.»
طقطق البروفيسور. «في تلك الحالة، يجب أن نعود على الفور. هلا سبقتني وطلبت لنا حصتين إضافيتين من اللحم، فنحن ذهبنا دون أن نتناول وجبة السمك؟» «ليس ذلك خطأهم؛ فنحن من ذهبنا وتركنا وجبة السمك، لكني سأرى ماذا بإمكاني أن أفعل بهذا الخصوص.»
تريث هير والتفت إلى آيريس في شيء من التردد، وسألها: «هل تمانعين؟»
أجابته بضحكة هيستيرية؛ إذ خطر لها فجأة أن البروفيسور مع كونه واثقا في قدرته على إدارة تحقيقها، لا يسعه المخاطرة بموهبته اللغوية حينما يكون المعني مصلحة حيوية.
ثم قالت: «عد بالله عليك؛ فلا شيء يهم أكثر من العشاء، أليس كذلك؟»
استاء البروفيسور الذي كان وجهه قد تهلل عند ذكر الطعام من عتابها. مع أنه كان يتضور جوعا، شعر أنه مضطر للدفاع عن حس العدالة الدقيق المعروف عنه.
سألها: «هل أنت منصفة؟ لقد دفعنا ثمنا باهظا لقاء تلك الوجبة؛ لذا من حقنا المطالبة بجزء منها على الأقل. كما أنك لا تنكرين حتما أننا لم ندخر وقتا أو وسعا في محاولة إقناعك بخطئك.»
هزت رأسها نفيا، لكن عبء يأسها ألجم لسانها. بدا لها أنه لم يعد بيدها أن تفعل أي شيء آخر لمساعدة الآنسة فروي، فأي محاولة تدخل لن تجدي نفعا، بل ستعرضها لردة فعل انتقامية.
لم يكن خوفها من نفوذ الطبيب نابعا من الجبن فحسب، بل أيضا من المنطق؛ فلكونها الوحيدة على متن القطار التي تصدق في وجود الآنسة فروي، يحتم المنطق أنها لن تفيدها إلا وهي حرة الإرادة.
فرصتها الوحيدة تكمن في إقناع البروفيسور أن ثمة حاجة حقيقية لمتابعة التحقيق. هي لا تحبه، لكنه يمتلك تلك الخصال التي لها وزن في مثل تلك الأزمة؛ فهو عنيد، وعطوف، لكن ذو رباطة جأش، ولا يحيد عن الإنصاف. إن تأكد له فعليا أنه محق، فليس بوسع شيء أن يهزه، وسيسعى بمثابرة لنيل غايته رغم أنف أي معارض.
لكن لسوء طالعها، كان تفكيره في تلك اللحظة منصبا على عشائه.
صفي ذهنها المشوش فيما كان يهم بمغادرة العربة.
قالت: «إن كنت محقة يا بروفيسور، فستقرأ في الصحف عن سيدة إنجليزية مفقودة، عن الآنسة فروي، عندما تعود إلى إنجلترا. وحينئذ، سيكون الأوان قد فات على إنقاذها. ألن يطاردك الذنب لما تبقى من حياتك لأنك تأبى تصديقي الآن؟»
قال البروفيسور مقرا: «ربما أندم على الأمر، إلا أنه لا يرجح أن تحين فرصة لذلك الندم.» «لكن لو أنك فعلت أمرا بسيطا للغاية، فلن تضطر للندم على الإطلاق، كما لن تضطر لبتر وجبة عشائك.» «وماذا تريدينني أن أفعل؟» «رافق الطبيب إلى المشفى بترييستي وراقب نزع ضمادة أو شريط لاصق عن وجه المريضة، فقط بالقدر الذي يكفي كي تتبين أن بها إصابة حقيقية.»
مع أن اقتراحها ذلك أذهل البروفيسور، أمعن التفكير فيه ببطء بضميره الحي المعتاد. شجع ذلك آيريس على تتبع غنيمتها تلك بحجة جديدة. «أنت تقر حتما بأن ليس بوسعي أن أفعل أي شيء؛ فأنا لست مخبولة، وقد يعد ذلك قتلا عن غير عمد، كما أن الطبيب لن يسمح لي بذلك؛ لذا فالأمر يخلص إلى ذلك. اختباره النفيس لا يعني أي شيء على الإطلاق.»
إبان كلماتها تلك، تسلل الارتياب من الطبيب إلى عقله للمرة الأولى. بدا ذلك على وجهه المجعد وأصابعه الناقرة. اعتاد دائما أن يحسب التكلفة قبل أن يفكر في أي مشروع، مع أنه كان من المعتاد ألا تثنيه عن حس الواجب اليقظ لديه.
في تلك الحالة كانت الخسائر عديدة، أبرزها المالية. هو ليس مسرفا، لكن راتبه لا يغطي سوى مستوى المعيشة الذي يحظى به في كامبريدج؛ لذا يضطر لاجتزاز تكاليف عطلاته من رأس ماله. كي يحظى بتغيير ذهني كامل، يسافر على الأقل ثلاث مرات في العام؛ مما يضطره إلى الاقتصاد في إنفاقه.
لأن الجزء الأكبر من التكاليف في تلك الرحلة المميزة كان من نصيب رحلة القطار الطويلة؛ فقد حجز تذاكرها من خلال إحدى وكالات السفر الرخيصة المتخصصة في الأسعار المخفضة؛ لذا لا تتيح له تذكرته أن يقطع رحلته في أي مكان.
مما يصعب الأمر أنه يعوزه النقود؛ فقد دفعه كرهه للسفر في إحدى المواصلات العامة للرضوخ إلى إغراء مشاركة مقصورة خاصة مع هير في رحلة العودة.
كما أن لديه سببا آخر أكثر إلحاحا لعدم التوقف في ترييستي والمبيت فيها؛ فالتأخير سيعني أن يضحي بالتزام يعتز به؛ فهو مدعو لقضاء عطلة نهاية الأسبوع القادم برفقة زميل عجوز - مثقف منزو - يعيش في ركن منعزل من ويلز. إن وصل إلى إنجلترا يوم السبت لا الجمعة، فسيكون قد تأخر كثيرا.
راقبه الطبيب بإمعان وهو يقطب وجهه ويداعب عظمتي وجنتيه.
سأله: «ألا يناسبك التوقف في ترييستي؟» «لا يناسبني قطعا.» «هذا مؤسف؛ إذ إن مصلحتي تحتم علي أن أرجوك أن تفعل ما تطلبه منك تلك السيدة الشابة.»
سأله البروفيسور وهو مغتاظ من ذلك الهجوم المزدوج على عطلة نهاية أسبوعه: «لم؟» «لأني بدأت أقتنع أن ثمة سببا وراء قلق تلك السيدة المسكينة. هي دائما ما تردد اسم «الآنسة فروي»، فهل ذلك اسم شائع في إنجلترا، مثل «سميث»؟» «لا عهد لي به.» «لكنها سمعته من قبل، وهو مرتبط لديها بتجربة مريعة. أنا لا أعلم ما حدث، لكني أعتقد أن ثمة سيدة تدعى «الآنسة فروي»، وأن مكروها ما قد ألم بها. أعتقد كذلك أن تلك الشابة المسكينة كانت على علم بالأمر، لكن الصدمة قد محت ذكراه.»
قاطعته آيريس: «تلك سخافة؛ فأنا لن ...»
قاطعها هير بحدة: «صه!»
كان يصغي باهتمام بالغ؛ إذ كان قد بدأ يتساءل إن كان الطبيب قد وجد التفسير الحقيقي لأوهام آيريس؛ فقد ظلت غائبة عن وعيها حتى قبيل أن تتمكن من اللحاق بالقطار، مع أن تفسير ذلك كان ضربة الشمس، ربما كان ذلك تفسيرا ساقه إليها شخص معني يريد تشويش ذاكرتها.
تابع الطبيب قائلا: «أنت تتفهم حتما أني لا أرغب في أن أقع تحت طائلة الشك إذا أعلن عن فتاة مفقودة لاحقا.»
قال البروفيسور: «تلك فكرة محالة، كما أن سلطات المستشفى ستدعمك فيما تقول.» «لكن كيف لي أن أثبت أن تلك التي أتيتهم بها هي المريضة لا منتحلة ما؟ لكن إن رافقتني إلى المستشفى أيها البروفيسور وانتظرت حتى ينتهي الجراح من الفحص المبدئي، فلن يكون هناك مجال للشك. أنا ألوذ بسمعتك الحسنة.»
ابتسم البروفيسور ابتسامة كئيبة؛ إذ كان جائعا بشدة. مع أنه بارع في لعب البريدج، لم يكن لديه دراية بالبوكر؛ ومن ثم بدا له عرض الطبيب إثباتا قاطعا على أن نظرية آيريس العجيبة ليس لها أدنى أساس من الصحة.
قال: «أظن أننا نبالغ في توخي الحذر المهني.» على عكس هير، كان معتادا على حفظ الأسماء، فتابع قائلا: «الآنسة كار تدعي أنها ذهبت إلى عربة المطعم برفقة سيدة تدعوها الآنسة فروي، ومنذ ذلك الحين وجدنا أن تلك السيدة اسمها الآنسة كومر. هي ليست على ما يرام، وهذا يفسر الخطأ الذي وقعت به. في ظل تلك الظروف، لا يوجد أدنى دليل على أن الآنسة فروي الفعلية - هذا إن كان لها وجود - موجودة على متن القطار على الإطلاق.»
سأله الطبيب: «إذن، إذا وقعت مشكلة في المستقبل، فهل بإمكاني أن أطلب إليك دعم أي أقوال قد أدلي بها؟» «بالطبع. سأعطيك بطاقتي.»
ثم دار البروفيسور على عقبيه قاصدا العشاء.
تكهن هير بأن آيريس على وشك الانفجار.
حتى تلك اللحظة، استطاع أن يكبح جماحها بإحكام قبضته على ذراعها تحذيرا لها، لكنها كانت قد بلغت أقصى حدود صبرها.
قال: «لا تفتعلي مشكلة، فلن يجدي ذلك نفعا. عودي إلى المقصورة الخاصة.»
بدلا من الاستجابة لطلبه رفعت صوتها . «آنسة فروي. هل بإمكانك سماعي؟ ارفعي يدك إن كنت تسمعينني.»
الفصل التاسع والعشرون
ترييستي
سمعتها الآنسة فروي، ورفعت يدها.
مع أن الضمادات كانت تحجب بصرها، ميزت صوت آيريس من بين همهمات أصوات أخرى. أدركت بارتباك أن ثمة أناسا يتحدثون، لكن نبراتهم كانت مبهمة ومتقطعة، وكأنما تأتي من مكان بعيد، فكان لها طابع مكالمة بعيدة مشوشة.
حاولت التحدث إليهم، لكنها لم تستطع بسبب الكمامة. حاولت ذات مرة أن تحركها قليلا بالضغط عليها بشدة، متذكرة كيف كان أبوها يمازحها بشأن قوة لسانها. وضعت كل ذرة من قواها في صرخة الاستغاثة تلك، لكنها أصدرت صوتا شاذا مشوشا، كصوت حيوان يتألم.
لم يسمعها أحد، وأحكم خاطفوها ربط الكمامة على فمها؛ مما زاد من عدم ارتياحها. كانت ذراعاها مربوطتين إلى جسدها من فوق مرفقيها، وساقاها مربوطة إحداهما بالأخرى عند الكاحلين بضمادة طبية. لم يحاول الطبيب إخفاءها عندما كشف عن حذائها وجوربها كي تتعرف عليهم آيريس. كان يعلم أن وراء تلك الضمادات الكثيرة، يصير تمييز المرء صعبا نوعا ما.
لكن يديها كانتا حرتين فيما فوق الرسغين؛ إذ كانت الضمادات قد نفدت، وعلى أي حال كانتا لا تقويان إلا على التلويح بوهن. رقص قلب الآنسة فروي فرحا وهي تقول في نفسها إن فتاتها النبيهة تعرف أن أي استجابة فورية لمطلبها، مهما كانت بسيطة، تعني أن المريضة ميزت اسمها وتعطي إثباتا على هويتها.
لذا بسطت أصابع يدها كالمروحة ولوحتها في الهواء في استغاثة مثيرة للشفقة.
ثم ما لبث أن أظلم عقلها الذي لم يكن بوسعها التحكم فيه. كانت العقاقير تجعله مشوشا ومعكرا، لكن كل حين وآخر، كانت تصفو زاوية منه، كبقع الشراب الحمراء التي تتخلل المربى أثناء غليانها. في لحظات الصفاء تلك، كانت تجتاحها دوامة من الذكريات، لكن عقلها كان دوما يعود إلى لحظة الصدمة الأولى.
كانت لحظة رهيبة ووحشية. كانت تجلس في مقصورتها حين دخل الطبيب وسأل إن كان أحد بمقدوره أن يساعده على رفع مريضته. أوضح أن الممرضة غادرت المقصورة لبضع دقائق وأن المريضة المسكينة المسئول عنها بدأت تتململ وكأنما تشعر بشيء من التململ.
كان من البديهي بالنسبة للآنسة فروي أن تستجيب لطلبه؛ فهي لم تكن مستعدة دوما لتقديم يد العون فحسب، بل كانت متشوقة أيضا لرؤية ضحية حادث التصادم عن قرب، بجانب أنها ربما تعرف المزيد عن الحادث؛ إذ سيكون شيئا ترويه لإثارة حماسة الأسرة عندما تروي مغامراتها مساء الجمعة.
عندما دخلا إلى مقصورة المريضة، طلب منها الطبيب أن ترفع رأس المريضة بينما يرفع هو جسدها. انحنت فوق الجسد الممدد بتعاطف جم؛ إذ تذكرت التباين بين حالهما.
قالت في نفسها: «أنا معافاة وسعيدة. أنا عائدة إلى البيت.»
فجأة خرجت ذراعان يغطيهما الكتان الأبيض وأطبقتا على رقبتها.
كانت المريضة العاجزة تقبض بيديها على حنجرتها بلا هوادة. في تلك اللحظة المريعة، تذكرت مشهدا مرعبا في مسرح «جراند جويجنول»، عندما خنقت جثة مكهربة الرجل الذي أعادها إلى الحياة الاصطناعية بواسطة تيار كهربائي، ثم ازدادت القبضة إحكاما، وبدأت ترى وميض أضواء تحت جفنيها، ثم غابت عن الوعي.
لفترة من الزمن، كان الكسوف المغيم على عقلها تاما، ثم تدريجيا تخللت شقوق متناهية الصغر حواسها الغارقة في الظلام. أدركت أنها مقيدة ومكممة، وأن عينيها مغشيتان، بينما سمعت أصواتا مكتومة تناقش مصيرها.
لم يكن مصيرا مشرقا. مع أنها كانت تجهل جريمتها، كان لديها فكرة مبهمة عن عقوبتها. كانت على اتصال بعربة إسعاف ستلاقيهم في ترييستي، بيد أنها لن تصحبها إلى مستشفى.
لكن رغم قيدها وعطشها والآلام الجسدية والعذاب الذهني، لم تتخل قط عن الأمل.
كان يقال في العائلة إنها أخذت ذلك عن الخالة جين. طوال حياتها، تمنت تلك السيدة الفيكتورية أن تمتلك دمية ناطقة، ودراجة بثلاث عجلات، وعملا في الغناء الأوبرالي، وزوجا، وإرثا. لم تحظ بأي من تلك الأمور، لكنها لم تتخل عن أي من أمانيها، أو تشك في أنها ستتحقق في نهاية المطاف.
عندما حانت نهايتها، كانت في عمر السابعة والسبعين وتتقاضى معاشا خيريا من عائلتها، لكنها أطبقت جفنيها للمرة الأخيرة وهي متشبثة بأمل كبير في حصولها على تلك اللعبة الناطقة ، وكذلك الإرث الذي سيضمن لها حياة رغيدة وموتا كريما.
ساعدت الخالة جين في تفسير سبب مواجهة الآنسة فروي لكل خيبة أمل جديدة بهدوء تام، لكن رأفة بها كانت لحظات صفاء ذهنها قصيرة. أغلب الوقت، كانت في حلم خدر تحاول فيه إلى الأبد الوصول إلى الديار.
كانت دوما ما تنجح في بلوغ البوابة ورؤية مسار الحديقة المضاء ذي التجاويف المبالغ بها، حينئذ تنكشف لها حفرة وراء حجر في غير مكانه. يبدو سياج الشجيرات وأزهار الأسطر الصينية زاهي اللون على نحو غير عادي في ضوء المصباح، بينما يحمل الهواء البارد عبير أزهار الأقحوان الفائح.
لكن مع أنها كانت قريبة لدرجة أنها ترى القرميدة الحمراء المشروخة في أرضية الممر، كانت تعلم أن ثمة خطبا ما، وأنها لن تبلغ قط الباب. كانت تجاهد للخروج من أحد تلك الأحلام المغرية عندما سمعت آيريس تنادي اسمها وتطلب منها أن ترفع يدها.
لسوء حظها لم تعلم أن ثمة خللا في نظام التواصل لديها. لم تكن أي من قنواته واضحة، فلم يستوعب عقلها الرسالة التي التقطتها أذناها إلا بعد أن دفع الطبيب - في هلع يشوبه الحنق - بزواره حرفيا إلى الممر. حتى بعد أن فعل، مر بعض الوقت قبل أن تتواصل جميع مراكزها العصبية مع مركز المعلومات، وحينها كان الأوان قد فات.
كانت الستائر قد أسدلت كلها، فلم يشهد أحد سوى الممرضة إشارة أصابعها الملوحة في الهواء التي راحت سدى.
خارج الباب، مسح الطبيب وجهه بانفعال، وقال بصوت يهدجه الانفعال. «لقد كان ذلك فعلا مريعا من جانبي. لقد أخطأت أن سمحت لكم جميعا بالدخول، لكني لم أتصور قط أن الغباء سيبلغ بكم محاولة إيذاء مريضتي المسكينة.»
تراجعت آيريس أمام غضبه، فتوسل إلى البرفيسور.
قال: «أنت تتفهم يا بروفيسور أن الهدوء التام ضروري بالنسبة لمريضتي؛ فالإصابة البالغة التي لحقت بالدماغ ...»
قاطعته آيريس بينما كان القطار يمر داخل أحد الأنفاق محدثا تلك الصرخة التي تصم الآذان: «كيف لها أن تنعم بالهدوء في رحلة قطار؟»
قال الطبيب مفسرا: «هذا أمر مختلف تماما ؛ فالمرء بإمكانه أن يغط في النوم مع الضجيج المروري، لكنه يستيقظ إن سمع أي صوت غير معتاد. إن كانت قد سمعتك فلربما استيقظت، بينما أنا أبذل أقصى ما بوسعي - من باب الرأفة - كي أبقيها غائبة عن الوعي.»
قال البروفيسور مطمئنا إياه: «أتفهم ذلك تماما، وأنا آسف لحدوث ذلك.» كان صوته باردا للغاية وهو يتوجه بحديثه لآيريس. «أحرى بك أن تعودي إلى مقصورتك يا آنسة كار.»
قال هير مستحثا إياها: «أجل، لنذهب.»
شعرت آيريس أنهم جميعا يقفون ضدها. في تحد مفاجئ شنت هجوما منفردا.
قالت لهم: «فور أن نصل إلى ترييستي، سأتوجه إلى السفارة البريطانية.»
كانت كلماتها شجاعة، لكن رأسها كان يدور وركبتاها ترتعدان بقوة جعلتها تشعر أنها غير قادرة على تنفيذ تهديدها ذلك، لكن مع هذا ملأتها نياتها تلك بوهم النفوذ، ثم ما لبث هير أن عرقلها بطريقته المحترفة المعهودة في مباريات الراجبي وحملها وسار بها في الممر باندفاع شديد، بينما تبعه البروفيسور بخطوات متثاقلة.
ودع الطبيب قائلا: «أملي الوحيد هو أن أحصل على عشاء أيا ما كان.»
أربك ما حدث آيريس فلم تقاوم معاملة هير التعسفية. لم تفهم لماذا لم تلق صرختها أي استجابة. زعزع ذلك ثقتها بنفسها وجعلها تشعر بأن جبنها الأخلاقي الذي جعلها تفشل في كشف هوية المريضة الغامضة كان مبررا.
لكن حتى إن كانت بالفعل مريضة تعرضت لحادث حقيقي، يظل الخطر الذي يهدد الآنسة فروي قائما. عندما أعادها هير إلى المقصورة الخاصة سألته سؤالا فاصلا. «هل أنت معي أم ضدي؟ هل ستتوقف في ترييستي؟» «كلا، ولا أنت كذلك.» «أفهم، إذن أنت لم تعن ما قلته بشأن إعجابك بي وكل ذلك.» «بل عنيت كل ذلك بالتأكيد.» «حسنا إذن، إن لم ترافقني إلى السفارة فسأنهي علاقتنا.»
داعب هير ياقة قميصه بيأس.
وسألها: «ألا تدركين أني صديقك الوحيد؟» «إن كنت صديقي حقا فلتبرهن على ذلك.» «أتمنى لو استطعت ذلك، لكني لا أملك الشجاعة. باعتباري صديقك الأقرب، أحرى بي أن أصرعك كي تظلي فاقدة الوعي حتى اليوم التالي وتريحي رأسك المسكين.»
قالت آيريس بحنق: «أوه، أنا أكرهك. بحق السماء اذهب من هنا.»
في المقصورة المجاورة، آل إلى مسمع الأختين فلود-بورتر مقاطع من ذلك الحوار.
قالت الأخت الكبرى بحدة: «تلك الفتاة فلحت حتما في أن تحظى ببعض الإثارة في رحلة قطار.»
فيما كان الشابان يتشاجران بشأنها، كانت الآنسة فروي ترقد متسمرة وقد سكنت يداها. استوعبت تدريجيا أن أحدا لا يراها؛ لذا ذهب تلويحها سدى، لكنها شعرت بشيء من الراحة عندما ذكرت آيريس أنها ستلجأ إلى القنصلية البريطانية. سمعت صيحتها المتمردة عبر الباب المغلق.
وعلى الفور أدركت أن ملاحظتها تلك لم تذهب سدى؛ إذ كانت مشاورات تجري بصوت منخفض داخل المقصورة.
قال صوت رجولي: «ترييستي.» كان ذلك هو صوت سائق الطبيب الذي يرتدي زي الراهبة الممرضة الموحد الذي يبدو غريبا عليه. «ماذا سنفعل الآن؟»
أجابه الطبيب: «يجب ألا نهدر أي وقت في ترييستي، يجب أن نقود السيارة بسرعة طوال الليل حتى نصل إلى بر الأمان.» «لكن أين سنتخلص من الجثة الآن؟»
ذكر له الطبيب مكانا.
وقال مفسرا: «إنه في طريقنا؛ المرفأ مهجور، وهو يعج بأسماك الإنقليس.» «جيد. سيكونون جوعى. وقريبا جدا، لن يصبح ثمة وجه كي يتعرف عليه أحد، هذا إن عثر عليها لاحقا. هل ستلقي بملابسها وأمتعتها هناك أيضا؟» «أحمق! سيستدل بهم على هويتها إن ألقينا بهم هناك. كلا، سنأخذهم معنا في السيارة. ستحرقهم دون تأخير فور وصولنا.»
مع أن عقل الآنسة فروي كان مشوشا، نبهتها ذبذبة ما بحواسها إلى أنهما يتحدثان عنها. ارتعدت غريزيا وهي تتصور المياه السوداء الراكدة التي يمتزج بها الطمي وتتناثر بها النفايات. كانت تبغض الفساد بشدة.
إلا أن المغزى الحقيقي غاب عنها.
تابع السائق توقع الصعاب. «ماذا إن طرح أحد الأسئلة في مستشفيات ترييستي؟» «حينها سنقول إن المريضة ماتت أثناء نقلها.» «لكن ماذا إن طالبوا برؤية جثتها؟» «سنريهم إياها. لن يكون ذلك صعبا فور أن نعود؛ فالمشرحة ستمدني بجثة امرأة وسأعمد إلى تشويهها.» «مم! أتمنى أن أرجع إلى الوطن سالما، لكن يظل هناك تلك الفتاة .»
علق الطبيب قائلا: «أجل، غريب كيف ينظر الإنجليزيون إلى أنفسهم باعتبارهم شرطة العالم! حتى الفتاة لديها تلك العادة، لكن من الخطأ أن نحسبهم أمة غبية. ذلك البروفيسور يملك ذكاء. هو ليس بغبي، لكنه لحسن حظنا شريف ويظن أن الكل شرفاء كذلك. سيدعم كل أقوالي.»
قال السائق بإصرار: «أتمنى لو أعود.»
قال رب عمله مذكرا إياه: «المخاطرة كبيرة، وكذلك المكافأة.»
توقف طنين الأصوات الرجولية التي تشبه صوت دوران عجلة الحظ، والتي بلغت أذني الآنسة فروي شبه المصمومتين. تخيل السائق الورشة التي سيبتاعها، بينما كان الطبيب يخطط للتقاعد من المهنة.
لم يستسغ مهمته الحالية، لكنه كان مدينا بولائه للعائلة الحاكمة وكان العصيان في غير صالحه. فور أن أرسلت البارونة في طلبه في سرية أثناء الليل، خرج بأفضل خطة تسنى له حبكها في لحظتها لإزاحة عائق في طريق عظيم الشأن.
كان يعلم لم وقع الاختيار عليه؛ إذ إنه نفسه لم يكن ليستخدم مشرطا جراحيا دقيقا لقطع حبل يلطخه القطران. كانت سمعته ملطخة بسبب حوادث مؤسفة وقعت حديثا في المستشفى المحلي؛ ففضوله العلمي كان يغلب رغبته في القضاء على المرض، وكان محلا للشك بسبب إجرائه لجراحات مطولة دون داع، يدفع المريض حياته ثمنا لها.
منذ بدايتها، لم يكن الحظ حليف مغامرته بسبب تدخل تلك الفتاة الإنجليزية. لولاها لنجحت خطته تلك؛ لبساطتها، ولقلة عدد المتواطئين بها. كان يعلم أنه وسائقه سيحملان روحيهما على كفيهما بينما يسرعان عائدين إلى وطنيهما خلال طرقات خطرة، وسيسلكان أجرافا شديدة الانحراف على عجلة واحدة، محاولين استباق القطار السريع إلى موطنهما.
لكن بمجرد عودتهما ستنتهي جميع الطوارئ. سيجهز تفسيرا ملائما لتقديمه في أي تحقيق. لن يصبح بحوزة أي شخص معلومة مريبة كي يفصح عنها، وسيقطع كل خيط يربط الآنسة فروي بالمريضة المتوفاة.
سأل السائق فجأة: «هل ستتخلص من الفتاة الإنجليزية في المجارير أيضا؟»
أجابه الطبيب: «كلا، فأي تداعيات أخرى ستكون خطيرة، لكن عندما نصل إلى ترييستي لن تكون في حالة تسمح لها بأن تسبب لنا المزيد من المتاعب.»
سمعت الآنسة فروي كلماته، فخانها تفاؤلها للمرة الأولى. ضربتها موجة من الحنين المرتاع، فتصورت أسرتها في البيت؛ إذ كانت قد أرسلت لهما جدولا زمنيا لتحركاتها، وخمنت أنهما سيتتبعانه على الخريطة.
صدقت توقعاتها؛ ففي اللحظة الحالية كانا يفكران بها. بذلا ما بوسعهما لمحاربة شعورهما غير المعهود بالاكتئاب، فأوقدا نارا أغلب وقودها جوزات الصنوبر، وارتكبا جرم تناول وجبة غداء فاخرة من البيض المقلي.
كان سقراط ممددا على السجادة يراقب ألسنة اللهب. رغم الترحاب الدافئ الذي لاقاه كان لا يزال مغلوبا على أمره بعد أن خاب أمله؛ إذ كان قد هرع لملاقاة القطار بأمل جديد عصيانا للأمر.
نظر السيد فروي إلى زوجته فلاحظ أن الشفاه السفلية من ثغرها الدقيق القوي كانت متدلية، وأنها تجلس متراخية في كرسيها. للمرة الأولى أدرك أنها تكبره عمرا، وأنه هو أيضا صار عجوزا.
ثم نظر إلى الساعة.
قال لزوجته: «لقد أوشكت وينسوم أن تصل إلى نهاية الجزء الأول من رحلة عودتها إلى الديار، فقريبا تصل إلى ترييستي.»
مررت السيدة فروي تلك المعلومة إلى الكلب. «يا سقراط، سيدتك الصغيرة صارت في الطريق بالفعل الآن. كل لحظة تقترب أكثر فأكثر. بعد نصف ساعة ستكون في ترييستي.»
ترييستي.
الفصل الثلاثون
إنكار
استطاع النادل أن يستخلص بعض العشاء للبروفيسور وهير، اللذين التهما وجبتيهما في صمت. بعد أن انتهيا من الجبن والرقائق، أدخل الطبيب عربة المطعم وجلس على مائدتهما.
قال: «آسف على الإزعاج، لكني أريد أن أجتمع بكما بخصوص السيدة الإنجليزية الشابة.»
كظم البروفيسور صيحة دهشة؛ إذ خشي أن تكون آيريس قد أقدمت على تصرف طائش جديد.
قال للنادل: «أحضر لي القهوة دون حليب. ما المشكلة الآن إذن؟»
قال الطبيب مفسرا: «باعتباري رجل طب، أجد نفسي إزاء مسئولية. السيدة في حالة ذهنية خطيرة.»
سأل البروفيسور الذي لم يقبل يوما بفرضية دون إثباتات: «على أي أساس بنيت ذلك الاستنتاج؟»
هز الطبيب كتفيه. «بالطبع لا يخفى حتى على من يفتقر إلى الذكاء أنها تعاني من وهم؛ فقد ابتكرت شخصية لا وجود لها، لكن ثمة أعراضا أخرى؛ فهي تنفعل بسهولة، وتشك في الجميع، ولديها ميول للعنف.»
لاحظ أن هير قطب وجهه تلقائيا، فقطع حديثه والتفت إلى الشاب. «عذرا! هل السيدة الشابة خطيبتك؟»
قال هير مهمها: «كلا.» «لكنها حبيبة أو صديقة عزيزة ربما؟ لكن لن أتفاجأ إن علمت أنها غضبت منك بشدة مؤخرا. فهل فعلت؟»
قال هير مقرا: «لست محبوبا كثيرا في الوقت الحالي.» «شكرا لك أن أفضيت لي بذلك! إذ إنه يؤكد تشخيصي. دائما ما يكون الانقلاب ضد أكثر من يحبونهم مؤشرا على المرض العقلي.»
رأى أنه حظي بتعاطف هير، فتابع حديثه. «لن يكون ثمة خطر حقيقي إن اتخذنا إجراء وقائيا. من الضروري في تلك المرحلة أن يحظى العقل بالراحة. إن تسنى لها أن تنام لمدة طويلة، فأنا واثق أنها ستستيقظ وقد استردت عافيتها، لكن إن تركناها تصر على إرهاق أعصابها حد الإعياء، فإن الضرر الذي سيلحق بعقلها ربما يكون غير قابل للإصلاح.»
قال هير موافقا إياه: «أعتقد أنه محق يا بروفيسور. هذا ما كنت أفكر فيه.»
سأله البروفيسور بحذر: «ماذا تقترح؟»
أجاب الطبيب: «أقترح أن تقنعها بتناول مخدر غير مؤذ أعطيك إياه.» «ستعارض ذلك.» «سيتعين إذن أن تتناوله عنوة.» «هذا مستحيل. لا يسعنا التحكم في أهوائها.» «ربما تستطيع إذن أن تلجأ للحيلة لجعلها تتناوله.»
ظل البروفيسور صامتا بعناد، فهم الطبيب بالنهوض عن الطاولة.
قال: «أؤكد لك أن على عاتقي ما يكفي من المسئوليات فيما يخص مريضتي، لكني شعرت أن من واجبي تحذيركما؛ فقد أقسمنا نحن الأطباء على خدمة الإنسانية، سواء تقاضينا أجرا لقاء ذلك أم لا، لكن بعد أن شرحت لكما الوضع صار بإمكاني أن أترك لكما القرار؛ فقد أرحت ضميري.»
كان الطبيب على وشك المغادرة بكرامة عندما ناداه هير. «لا تذهب يا دكتور. أنا أشاطرك الرأي بخصوص ذلك الأمر، فلدي تجربة شخصية مع الأوهام والارتجاج الدماغي.» ثم التفت بحماسة إلى البروفيسور وقال: «ألا يمكننا أن نتدبر حيلة ما للقيام بذلك؟»
تمددت شفة البروفيسور العلوية تعبيرا عن الاعتراض.
وقال: «لا يسعني أن أكون طرفا في أمر كهذا. سيكون التدخل في حرية الآنسة كار أمرا مقززا، فهي حرة نفسها.» «إذن أنت تفضل الالتزام بما يمليه العرف والوقوف متفرجا بينما تفقد صوابها؟»
ابتسم البروفيسور ابتسامة لاذعة.
قال لهما: «في رأيي، هي ليست معرضة لذلك الخطر على الإطلاق. لدي خبرة بخصوص مثل تلك الحالات، فأنا بحكم مهنتي أتعامل مع شابات مضطربات عصبيا، وأرى أن الآنسة كار تعاني حالة هيستيرية لا أكثر.»
سأله هير: «ماذا تقترح إذن؟» «أظن أن صدمة علاجية من شأنها أن تعيدها إلى صوابها.»
تقوى البروفيسور بوجبته فشعر أنه سيد الموقف. أنهى احتساء قهوته ومشروبه الكحولي، وطرح فتات خبز عن صديرته، ثم نهض على مهل.
وقال: «سأتفاهم بالمنطق مع الآنسة كار.»
ثم غادر عربة المطعم بخطوات متمهلة وطفق يترنح في الممرات. أثناء مروره بمقصورة الآنستان فلود-بورتر، شعر بميل للتخلي عن مهمته والانضمام لهما لتجاذب أطراف الحديث. بدت السيدتان متماسكتين لا تشوبهما شائبة؛ إذ كانتا قد أنهيتا بالفعل تحضيرات الوصول إلى ترييستي، فكان يأمل أن يكشف متابعة الحديث معهما عن صديق مشترك.
لكنه كان عازما على أداء واجبه الذي فرضه على نفسه، فدخل المقصورة وجلس قبالة آيريس. من النظرة الأولى، علم أنها ظلت تشعل سيجارة وراء الأخرى، لكنها ما تلبث أن تلقي بها دون أن تدخنها تقريبا. لم يكن فعلها ذلك سوى أمارة على التوتر العصبي، لكنه مع ذلك نظر باشمئزاز إلى أعواد الثقاب المستهلكة التي تناثرت على الأرضية والمقاعد.
سألها بنبرة من يخاطب طفلا مشاكسا: «هلا قبلت مني نصيحة ودية؟»
أجابته آيريس بتمرد: «كلا. أريد أن أسمع الحقيقة من باب التغيير.» «الحقيقة ربما تكون صادمة قليلا بالنسبة لك، لكنك طلبت سماعها؛ لذا سأخبرك بها. أخبرني الطبيب للتو أنه نتيجة لضربة الشمس التي تعرضت لها، فإن خللا بسيطا ومؤقتا أصاب عقلك.»
كان البروفيسور حقا يعتقد أنه يتعامل مع فتاة عصابية تختلق الأكاذيب بداعي حبها للإثارة؛ لذا راقب رد فعلها بثقة مشوبة بالرضا عن النفس. عندما رأى الهلع في عينيها شعر أن تجربته تلك كانت مبررة.
سألت بصوت هامس: «أتعني أني جننت؟» «كلا، ليس ثمة ما يستدعي الخوف، لكنه قلق على سلامتك لأنك تسافرين وحدك، وربما يضطر لأن يتخذ خطوات لضمان سلامتك، إلا إن استطعت أن تظلي هادئة تماما.»
سألته آيريس: «أي خطوات؟ أتعني دار الرعاية تلك؟ سأقاوم ذلك. لا يستطيع أحد أن يجبرني على أن أفعل أي شيء يخالف إرادتي.» «في ظل تلك الظروف، سيكون اللجوء للعنف خيارا غير حكيم على الإطلاق؛ إذ إنه لن يفيد إلا في تأكيد مخاوف الطبيب، لكني أريد أن أوضح لك الوضع. أصغي إلي.»
لوح البروفيسور بسبابته مهددا وتحدث بنبرة لها وقع في النفس. «ما عليك سوى أن تظلي هادئة وسيصبح كل شيء على ما يرام. لن يتدخل أحد في شئونك بأي طريقة إلا إن ذكرتهم بوجودك. دون أي مواربة، لقد جعلت من نفسك مصدرا للإزعاج العام، ويجب أن يتوقف ذلك.»
لم يكن البروفيسور عديم الرأفة كما بدا؛ فتجربته غير السارة مع طالبته التي كانت متيمة به جعلته متحيزا ضد العواطف، لكنه ظن أن ما يفعله في صالح آيريس.
لذا لم يكن لديه أي فكرة أنه ألقى بآيريس في جحيم من الخوف. امتقع وجهها كله وهي تنكمش في ركن من المقصورة. كانت خائفة منه، خائفة من جميع من في القطار، حتى هير يبدو أنه انضم للمؤامرة ضدها. بدا لها أن العالم بأسره قد صار حلفا تكاتف لتهديد سلامتها العقلية.
أشعلت سيجارة أخرى بأصابع مرتعشة، وحاولت أن تستوعب الموقف. كان من الواضح لها أنها تدخلت في أمور مهمة، وتباعا لزم إسكاتها، وأن البروفيسور بعث إليها ليرشوها بالحصانة مقابل صمتها.
حتى إن كانت ترفض تلك الصفقة بغضب، كانت مضطرة لمواجهة الحقيقة المرة. هي لا تملك حتى شبه فرصة لمحاربة أولئك الأشخاص ذوي النفوذ. إن استمرت في سعيها لإيجاد الآنسة فروي فلن يكون على الطبيب سوى أن يستغل نفوذه ليزج بها في إحدى دور الرعاية بترييستي.
تذكرت القصة التي روتها لها الآنسة فروي عن السيدة التي حبست بمصحة عقلية خاصة. ربما يحدث لها الأمر نفسه. أي معارضة من جانبها ستستخدم إثباتا على فقدانها لصوابها. بإمكانهم أن يبقوها حبيسة تحت تأثير العقاقير، حتى تنهار تحت الضغط.
لن يدرك أحد أنها مفقودة إلا بعد وقت طويل؛ إذ لا ينتظر أحد عودتها إلى إنجلترا؛ فهي لم تتكبد عناء حجز غرفة في فندق، وسيظن أصدقاؤها أنها ما زالت خارج البلاد. عندما يتحرى عنها محاميها أو البنك الذي تتعامل معه سيكون الأوان قد فات. سيتتبعون أثرها إلى دار الرعاية، وعندما يصلون سيجدون مجنونة.
في خضم ذهولها، ألقت بنفسها في مستنقع من المخاوف المشوشة والمخاطر المبالغ بها، لكن مع أن موجة عاتية من الهلع كادت تغمر تفكيرها المنطقي، ظل جزء من عقلها يحتكم للمنطق.
أقنعها أن إنقاذ الآنسة فروي قضية لا أمل منها على الإطلاق.
سألها البروفسيور بتصبر عندما ألقت بسيجارتها دون أن تدخنها: «ما جوابك؟»
فجأة اجتاح آيريس اشتياق ملتاع عندما تذكرت قطار كالييه-دوفر السريع، والتلال البيضاء، ومحطة فيكتوريا. شعرت بالحنين إلى إنجلترا وإلى زمرة أصدقائها اللامبالين. ومض أمام عينيها الشعار المألوف «الأمان أولا» بأحرف مشتعلة.
كرر البروفيسور: «ما جوابك؟ هل عدت إلى رشدك؟»
كانت منهكة بشدة وكان خوفها يشلها، فتاهت في وديان الآمال الضائعة. ذكرت نفسها أن الآنسة فروي ليست سوى غريبة حاولت مساعدتها، وأن استمرارها في المحاولة لن ينتج عنه سوى تضحية مزدوجة لا جدوى منها.
أجابت بتبلد: «أجل.» «هل ستفتعلين أي ثورات غضب أخرى؟» «كلا.» «جيد. والآن هلا اعترفت لي بأنك من اختلقت الآنسة فروي؟»
شعرت آيريس أنها سقطت في الجحيم مع يهوذا الإسخريوطي وجميع الخونة وهي تنكر الحقيقة. «أجل. لقد اختلقها خيالي. لا وجود للآنسة فروي.»
الفصل الحادي والثلاثون
صحن حساء
تابع الطبيب البروفيسور ببصره وهو يغادر عربة المطعم.
قال بفتور: «هذا رجل ذكي. يود أن يشفي مرضا بالتوبيخ، لكن ربما كان محقا. للمرة الأولى في مسيرتي المهنية، آمل أن يثبت أني على خطأ.»
راقب وجه هير العابس بإمعان، ثم سأله: «ماذا ترى أنت؟»
قال الشاب متذمرا: «أنا واثق من أنه يرتكب خطأ مريعا.»
قال الطبيب مقتبسا : «رجل يعلم، ويعلم أنه يعلم، فهو حكيم. حسنا إذن، ماذا نفعل؟» «لا أعلم البتة.» «هل تشعر أن البروفيسور يفوقك ذكاء ربما؟» «كلا، لا أشعر بذلك على الإطلاق؛ فمجالا عملنا مختلفان.» «ربما لست معتادا إذن على فرض سلطتك؟» «كلا، فعلي أن أتحكم بمئات الرجال صعبي المراس، وبعضهم يكون على أهبة الاستعداد لافتعال المشكلات.» «إذن، بصراحة، أنا لا أفهم ترددك، إلا إن كنت تخاف غضب السيدة الشابة عندما تكتشف أنها خدعت؛ فلديها ما تسميه «شخصية قوية»، وما أسميه أنا «طبعا حادا»، فزوجتي امرأة لطيفة للغاية. حسنا، أنت من تقرر ما إذا كنت تفضل كلمات حانقة من امرأة سليمة العقل أم ابتسامة رقيقة من امرأة مخبولة.»
تمتم هير: «لا تلح علي. يجب أن أفكر في الأمر.»
قال الطبيب مذكرا إياه: «لم يبق متسع من الوقت.» «أعلم ذلك، لكن تلك مخاطرة كبيرة.» «على الإطلاق. هاك بطاقتي، سأكتب لك عليها إقرارا بأن العقار لا ضرر منه، وحال وقوع أي أضرار جسيمة، إن مرضت السيدة بعدها بسبب الدواء، فسأفعل المزيد، وسأعطيك عينة منه لتعود بها إلى إنجلترا كي تحللها.»
جذب هير شفته. كان يدرك أن عرض الطبيب جيد، لكنه لم يستطع طرد شكه في المجهول.
بدا أن الطبيب قرأ أفكاره.
فقال: «ربما كان ترددك سببه أنني لست الطبيب سميث الإنجليزي اللندني، لكن إن كنت في مدينة غريبة، وأصابك ألم بالأسنان، فستبحث عن الشفاء لدى أول طبيب أسنان تصادفه. تذكر أن اسما مدونا على لوحة نحاسية يليه أحرف معينة، هو الضمان الوحيد الذي تقدمه المهنة للعامة على حسن النية.»
ترك هير يقلب حجته في رأسه وهو مستمر في الإساءة لوجهه وشعره، ثم ما لبث أن نظر إلى ساعة يده، ثم أشهر رسغه أمام عيني الشاب. «انتبه للوقت. يجب أن أعود إلى مريضتي.»
هب هير على قدميه وكأنما صعقه تيار كهربي. «انتظر لحظة أيها الطبيب. كيف يمكننا أن نعطيها ذلك الدواء؟»
أدرك الطبيب أنه عبر الجسر فأسرع يشرح الأمر.
قال بعتاب: «الفتاة المسكينة لم تتناول العشاء. بالطبع ستأخذ لها صحنا صغيرا من الحساء، فلن تسنح أي فرصة لذلك على متن القطار الإيطالي، حتى تلتحم به عربة الإفطار.» «يا لحماقتي! لم أفكر قط في أنها ستكون جائعة، لكن إن نامت، فكيف سأتدبر أمر تبديل القطار في ترييستي؟» «يا سيدي العزيز، لا تتوقع المعجزات. أنت عجول جدا. العقار لن يؤدي مفعوله الكامل حتى تصير على متن القطار الإيطالي. حينها ستنام طويلا، لكن في ترييستي ستكون هادئة وثقيلة الحركة وطيعة فحسب.» ثم ضاقت عينا الطبيب وأردف: «كما ستكون خدرة للغاية فلن تقلق بشأن السيدة الشبح.» «يوافقني ذلك. سأقبل بالمخاطرة.»
رافقه الطبيب إلى عربة المطبخ وخاض معركة مع الطاهي المعترض. في نهاية المطاف، كانت الغلبة لصاحب السلطة الطبية. بعد ذلك بوقت ليس بطويل، انطلق هير بعينين قلقتين وشفتين مطبقتين، في رحلته المصيرية في ممرات القطار حاملا سلطانية مملوءة حتى نصفها.
لكنه كان يحمل ما هو أكثر من مجرد حساء؛ فداخل التجويف الدائري للسلطانية كان يستقر قدر امرأة.
بينما كان يسير مترنحا في طريقه، وبصدفة صنعها التوقيت، توجه ذهن السيدة فروي في المنزل الحجري الصغير بإنجلترا صوب الطعام.
قالت للسيد فروي: «آمل أن تكون ويني قد أكلت شيئا قبل أن تصل إلى ترييستي؛ فعشاؤها لن يسد رمقها طوال الليل، كما أنها دائما ما تأخذها الحماسة فلا تأكل شيئا أثناء الرحلة؛ فهي لا تأكل سوى القليل من أول وجبة غداء تتناولها في البيت.»
ابتسم زوجها ابتسامة مذنبة؛ إذ كان يعلم السبب وراء انعدام شهية ويني.
في أثناء ذلك، كان هير لا يزال خائفا من المسئولية التي تضعها على عاتقه الخطوة التي اتخذها. طمأن نفسه بأنه في الواقع يحمل لآيريس هدية تحفظ عليها سلامتها العقلية، إلا أنه لم يستطع التخلص من تخوفه. عذبه التردد، فعرض على نفسه اختبارا أخرق. «إن لم أسكب منه شيئا فسيكون الأمر على ما يرام، لكن إن فعلت فسأتراجع عن الأمر.»
تابع سيره بتذمر، وهو يتوخى كل العناية والحذر فيما كان القطار يزيد من سرعته على ما يبدو. تطاير الحساء بقوة إزاء حافة السلطانية، يوشك أن ينسكب منها، لكن على نحو عجيب كان دائما ما يدور في دوامة داخل حدود وعائه.
تذكر هير خدعة سيرك بسيطة اعتاد أن يمارسها عندما كان طفلا مستعملا طوقا كبيرا حول وسطه وكوب ماء. من الواضح أن القاعدة نفسها تسري الآن، وأن الحساء لا ينسكب بفعل سرعة الحركة.
لكن قبل أن يصل إلى جزء المقصورات الخاصة من القطار تعرض لنكسة تامة. فبينما كان يعبر الممر الموصل، ارتطم به بقوة طفل صغير يطارد طفلة أصغر منه فتلقي معمودية حساء، واسما كريها.
بتر هير شتيمته كي يمسح أصابعه.
قال مهمهما: «هذا يحسم الأمر. لم يعد بيدي شيء.»
في تلك الأثناء، كانت آيريس في قبضة عاصفة ذهنية. عندما غادر البروفيسور كان الخوف يشلها. بدا أن باعثا حيويا في عقلها قد انهار، فلم يعد ذهنها سوى كتلة مشوشة واهنة. كانت الآنسة فروي قضية خاسرة؛ لذا أنكرت وجودها، لكن دون غاية أو أمل أو احترام للذات لم يعد لديها سوى الخواء.
قالت لنفسها: «لقد كنت فرصتها الوحيدة، وها قد انهرت أنا أيضا.»
كانت معرفتها عذابا حاولت عبثا نسيانه، لكن ظلت الصور المصغرة تومض أمام عينيها المغمضتين. عجوزان يقفان متضامين في مدخل باب مضاء، ينتظران. وسقراط، الكلب الأخرق غزير الوبر، وهو يندفع ليلاقي صاحبته التي لن تعود أبدا إلى بيتها.
كانت صورة الكلب هي أكثر ما أثر بها؛ إذ افترضت أن خرف الشيخوخة قد نال من الوالدين العجوزين. قالت في نفسها إن الصدمة ستجهز عليهما معا على الأرجح؛ إذ لا بد أن كلا منهما مخلص للآخر أو معتاد عليه لدرجة أنه لن يطيق متابعة حياته من دونه. حينها ماذا سيكون مصير الكلب الذي سيترك شريدا يتضور جوعا في كوخ ريفي؟
قلقت بشأنه حتى تمكنت منها الحمى. فيما ارتفعت حرارتها بدأ رأسها يؤلمها بشدة، حتى إنه خيل لها أن سلسلة من الانفجارات الصغيرة تحدث بداخله تزامنا مع دورات العجلات الثائرة. «أنت تق تربين. أنت تق تربين.»
ثم تغير الإيقاع ليتحول إلى دقدقة سريعة مضطربة. «أقرب-فأقرب-فأقرب- فأقرب.»
أقرب إلى ترييستي. كان القطار السريع رهينا لقبضة الجدول الزمني التي لا ترحم. سرت نبضات المحرك في جسد آيريس مثل شرايين راجفة لقلب تجاوز حدود مقدرته. كان يرتج ويزأر فوق القضبان، كوحش حديدي يسابق خصما خفيا.
كان يجب أن يسبق الزمن.
عندما دخل هير إلى المقصورة، بالكاد رفعت عينيها ولم تتحدث إليه.
سألها: «أما زلت تكرهينني؟»
قالت بتبلد: «أنا لا أكره سوى نفسي.»
تطلع خلسة إلى وجهها المتشنج ووجنتيها المتوهجتين، الذين أكدوا في نظره تشخيص الطبيب بتوتر أعصاب بلغ حد الخطر، فطمأن نفسه أنه يقدم لها خدمة جليلة؛ كونه عاجزا عن إفقادها وعيها بتلك اللكمة الضرورية على فكها.
قال بنبرة مذنبة: «لقد أحضرت لك القليل من الحساء.»
تراجعت نافرة منه حتى وهي تشكره عليه. «هذا لطف منك، لكني لا أستطيع لمسه.» «حاولي. سيعيد إليك عافيتك.» «حسنا إذن، هلا تركته وذهبت؟» «كلا، فتلك حيلة قديمة جدا. فور أن أذهب ستسكبينه خارج النافذة. لن أتركه وأذهب.»
أمسكت آيريس برأسها، وقالت متوسلة: «أشعر بإعياء شديد.» «هذا يعود لنقص التغذية. اسمعي يا فتاتي، ثمة تاريخ من المثابرة مرتبط بسلطانية الحساء البسيطة تلك؛ فقد ذبحت طاهيا كي أحصل عليها في الأساس، ثم بينما أنا في طريقي إلى هنا سكب طفل شقي الحساء كله. فقلت: «قسمة ونصيب.» ثم ما لبثت أن قلت: هي لم تأكل شيئا طوال اليوم، ولن تأكل شيئا حتى إفطار يوم غد، فعدت أدراجي وذبحت طاهيا آخر، كل هذا من أجل أن أحضر لك سلطانية أخرى.»
قالت آيريس بإذعان: «أوه، حسنا، لكن هل أنا مضطرة لإبداء امتناني؟»
ارتشفت أول ملعقة حساء على مضض بعبوس وكأنما تتجرع شربة دواء مقززة، ثم تريثت، بينما انتظر هير في ترقب بالغ.
سألته: «أي حساء ذلك؟ مذاقه يشبه الدواء للغاية.»
قال هير كاذبا: «إنه الحساء نفسه الذي نهمته على العشاء. هذا كل ما أعرفه.» «حسنا إذن، من الأفضل أن أنهيه.»
رفعت السلطانية إلى شفتيها، وتجرعته باشمئزاز.
قال هير مطمئنا إياها وهو يأخذ السلطانية الفارغة من يديها المرتعشتين: «ستشعرين بتحسن قريبا.»
جلسا في صمت لبعض الوقت، وظل يراقبها آملا أن يلاحظ عليها أولى أمارات النعاس. هو يعلم أن العقاقير لها تأثير مختلف على كل فرد، وأنه من الصعب قياس الجرعة المناسبة لآيريس بسبب حالتها غير العادية.
قال في نفسه بنفاد صبر: «إن حدث خطب ما فسأضطر لتحمل مسئوليته.»
كل حين وآخر، كان يسمع نبرة أنين بصوت البروفيسور الذي رفعه إلى آخره في المقصورة المجاورة كي يسمع فوق هدير القطار. كان يجلس في المقصورة المجاورة، يوطد علاقته بالآنستين فلود-بورتر، على أمل أن تكشف عن صديق مشترك يربطه بهما.
قال معلقا: «أنتما تعيشان في سومرسيتشاير، وهي مقاطعة مكثت فيها كثيرا. أتساءل إذا ما كان بيننا أي أصدقاء مشتركين.»
قالت الآنسة روز بحنق، داحضة أي مطالب بالصداقة: «أنا أكره جميع من يسكن هناك.»
أضافت الآنسة فلود-بورتر: «بسبب صيد الأيائل.»
أراحه التفسير فبدأ البروفيسور بلطف وحنكة ينتشل بضعة أشخاص جديرين بالاحترام من ذلك الحظر العام، كللت جهوده بالنجاح عندما تعرفت السيدتان على أحد الأسماء. «أجل، أناس لطفاء. هم أصدقاء مقربون لنا.»
توطدت صلتهم وبدءوا جميعا يرفعون أصواتهم.
تعرفت آيريس على أصواتهم؛ إذ بعد مضي بعض الوقت قالت لهير: «ذلك صوت البروفيسور، أليس كذلك؟ أتمنى أن تخبره أني أرغب في قسط من النوم، لكني لا أستطيع بسبب الصخب الذي يحدثه، ثم اذكر بين طيات حديثك شيئا عن كونه مصدر إزعاج عام، هلا فعلت؟ سيكون ممتنا لك؛ فهذا ما نعتني به.»
كانت كلماتها مرحة على نحو غير متوقع، فتطلع إليها هير متفاجئا. لم يدر إذا ما كان يتخيل تلك التغيرات، لكن عينيها صارت أقل إجهادا، وزال عن وجهها الاحتقان الشديد نتيجة الحمى.
قال في نفسه بغضب جم: «لقد أعطاني الطبيب دواء مزيفا؛ فهي لا تهدأ، بل تزداد نشاطا؛ بذلك المعدل ستتأجج غضبا في ترييستي.»
في واقع الأمر، أعاق جهلهما بظروف عمل الدواء مؤامرتهما الصغيرة؛ ففي المرات النادرة التي مرضت فيها آيريس، كانت استجابتها للعلاج تكاد تكون فورية، وفي حالتها غير العادية تلك كسرت رقمها القياسي الشخصي؛ فمع أن تأثيراته يفترض أن تكون قصيرة المدى، شعرت آيريس أن الحساء رد إليها حيويتها بأعجوبة، فيما كان الدواء قد بدأ يهدئ عاصفة ذهنها، مثل طبقة من الزيت تنتشر فوق سطح بحر هائج.
شعرت بفورة من العافية المزيفة، تلتها دفقة من الثقة وهي تتسلق إلى خارج جحيم الخونة الذي ألقت بنفسها فيه.
قالت في نفسها: «القضايا الخاسرة هي القضايا الوحيدة التي تستحق الجهاد من أجلها.»
شعرت براحة لاستعادتها عافيتها، فابتسمت لهير الذي ابتسم لها بدوره.
وسألها: «ألم أخبرك أنك ستتحسنين بعد احتساء ذلك الحساء المغذي قوي المفعول؟»
أجابته: «كان مذاقه كحساء المومياوات، لكنه رد إلي حيويتي؛ فذهني صار أصفى. أدرك الآن أن البروفيسور كان محقا؛ فقد جعلت من نفسي أضحوكة.»
منح هير نقطة لصالح الدواء.
سألها غير مصدق: «أتعنين، أتعنين أنك دفعت بالآنسة فروي إلى خارج القطار؟» «رجاء لا تأتي على ذكرها مجددا، فلا وجود لها بالطبع. هذا ما قلته للبروفيسور.»
شعرت آيريس بغصة لحظية وهي تتطلع إلى عينيه البريئتين.
قالت في نفسها: «إنه لأمر مؤسف أن أخدعه.»
كانت قد قررت اللجوء لحيلة قتالية. ستتصنع الوداعة كي تصرف عن نفسها الشكوك. عند الوصول إلى ترييستي، ستدبر حيلة للتملص منهم، ثم تستأجر سيارة أجرة تتبع بها سيارة الإسعاف. لن يتوقعوا أي اهتمام خارجي بتحركاتهم؛ إذ ستكون حتما قد خرجت من حساباتهم.
بعد أن تنبه سائق الأجرة مسبقا لحفظ العنوان الذي أخذت إليه الآنسة فروي، ستأمره أن يهرع إلى السفارة البريطانية. لطالما توسمت في الإيطاليين البسالة ورهافة المشاعر؛ لذا كانت واثقة من أنها ستنال تعاطفهم وأنهم سيتخذون إجراء فوريا.
كان عقلها المشوش من قبل يعمل الآن بسرعة فائقة. قالت في نفسها إن نجاح خطتها يعتمد على قدرتها على خداعهم جميعا. يجب أن تعود إلى مقصورتها التي تعج بجواسيس الطبيب، وتتصنع الوداعة واللين المطلوبين.
قالت لنفسها: «يجب ألا أبالغ في التصنع؛ إذ ربما يثيرون ضجة بشأني إن ظنوا أني مريضة.»
كانت تتكل على الفوضى التي تعم عندما يبدل الركاب بأمتعتهم القطار في المحطة. يجب أن ترسل هير في مهمة ما؛ فهو العائق الوحيد في طريقها. أما باقي الركاب فسيصدقون طبعهم، ولن يعبئوا إلا بشئونهم.
رفعت عينيها لتلتقي بعيني هير الصادقتين. كان يفكر بقسط النوم الطويل العميق الذي ينتظرها في القطار الإيطالي.
قال في نفسه: «إنه لأمر مؤسف أن أخدعها.»
الفصل الثاني والثلاثون
الحلم
مع أن القطار لم يكن قد وصل بعد إلى ترييستي، كان يملؤه الضجيج والعجيج الذي يلازم وصوله إلى وجهته. بدأ الركاب في إغلاق حقائب السفر المفتوحة وارتداء معاطفهم وقبعاتهم. انتقلت إلى البروفيسور المتمهل عدوى القلق، فترك الآنستين فلود-بورتر ودخل إلى مقصورته الخاصة.
قال ملمحا لآيريس: «لا أود إزعاجك، لكننا سنصل إلى ترييستي عما قريب.»
لم تبد آيريس أيا من ممانعتها المفرطة السابقة للعودة إلى مقصورتها.
قالت متحمسة لإثارة إعجاب البروفيسور بإذعانها: «يجب أن أحضر حقيبة سفري.»
كافأها بابتسامة استحسان. للمرة الأخيرة، قطعت الرحلة المتقلقة في ممرات القطار. لم يضحك منها أحد أو يلاحظ وجودها حتى؛ إذ كان كل منهم منشغلا بأموره. كانت حقائب السفر والحقائب الصغيرة قد أنزلت بالفعل من أعلى رفوفها ورصت خارج المقصورات؛ مما زاد من تكدس الممرات. وكانت الأمهات يصحن في صغارهن الذين يطارد أحدهم الآخر في الممرات كي يجمعنهم.
مسحن أفواههم العابسة التي تلطخها الشيكولاتة بأطراف مناديلهن التي بللنها. وكان قشر الموز يلقى من النوافذ، والصحف تكدس تحت المقاعد.
كانت الحرارة والازدحام خانقين لدرجة جعلت آيريس تسر لبلوغها مقصورتها، لكن قبل أن تدخلها تراجعت مجفلة عندما خرج الطبيب من مقصورة المريضة القعيدة. بدا وجهه يابسا وشاحبا مثل لب شجرة صفصاف فوق الرقعة السوداء التي هي لحيته المدببة، وبدت عيناه اللتان عظمتهما نظارته ككرتين سوداوين متورمتين.
عندما نظر إليها، شعرت أنه لا جدوى من محاولة خداعه. كلاعب شطرنج محنك، سيتوقع أي حركة يحتمل أن تقدم عليها، وسيكون مستعدا لمواجهتها بضربة مضادة.
سألها: «هل تشعرين بتحسن يا سيدتي؟» «أجل، أشعر بخمول فحسب. كل شيء صار مجهدا، وفور أن أجلس لن أود أن أتحرك مجددا.»
تحمست آيريس لنجاح خطتها عندما تبادل الرجلان نظرة فهم. دخلت مقصورتها، لكن لم يبد أن أحدا أبدى أي اهتمام بعودتها. كانت الأم وطفلتها تعيدان جمع محتويات حقائب سفر الأسرة، بينما كانت الشقراء تضع زينة منمقة. وتولى الأب حقيبة زينة البارونة، وبدا أنه مستعد لتأدية دور المرافق مؤقتا.
جلست آيريس تراقبهم حتى ذكرها مشهد النسوة وهن يضعن المساحيق على أنوفهن ويصففن خصلاتهن المموجة بحاجتها إلى إصلاح زينتها. كان من الضروري أن تعطي انطباعا جيدا في السفارة. فتحت حقيبتها على مهل وأخرجت علبة مساحيق الوجه وهي تتثاءب إذ حل بها نعاس مفاجئ. طرفت بعينيها بقوة، وبدأت تضع مسحوق الزينة وأحمر الشفاه.
قبل أن تفرغ كان جفناها لا ينفكان ينسدلان حتى إنها لم تعد ترى بوضوح. جزعت أن أدركت أن موجات من النعاس تستبد بها.
كانت قوية لدرجة أنها لم تستطع مقاومتها، مع أنها جاهدت كي تظل متيقظة، لكن هيهات. كانت تضربها واحدة تلو الأخرى، لا تنفك تتزاحم في تتابع مستمر.
بدأ الركاب الآخرون يتمايلون كالظلال. خارج النافذة، ظهرت ترييستي كوهج أحمر متراقص في سماء الليل. هدر المحرك في محاولة أخيرة هائلة لمجابهة ذلك الشريط غير المرئي الممتد أمام المصدات. صار بمحاذاته تقريبا، فمر فوق الظل الهائل مرفرفا جناحيه ومؤرجحا منجله.
عمت البهجة غرفة المراجل وعربة السائق؛ إذ كان القطار يستبق بالفعل موعده المحدد. نجحوا في استباق الزمن، فخففوا جهودهم وأبطئوا سرعتهم تدريجيا استعدادا لوصولهم إلى ترييستي.
كان رأس آيريس قد مال للأمام وجفناها قد أطبقا، ثم نبح الكلب من بعيد فأيقظها من نومها مفزوعة. تطلعت من النافذة بعينين زائغتين، فأخبرتها بضع إضاءات متفرقة تلمع في الظلام أنهم قد وصلوا إلى ضواحي ترييستي.
في تلك اللحظة، فكرت في الآنسة فروي.
قالت بصوت مهتم: «ترييستي. يجب أن أظل مستيقظة.»
ثم بدأ كل شيء أمامها يزيغ مجددا، وغاصت مرة أخرى في مقعدها.
عندما عاد هير إلى المقصورة تدلى فكه عندما رآها متكومة. نادى الطبيب، الذي لم يفعل سوى أن فرك كفيه النحيلتين برضا.
قال: «رائع! لقد استجابت بسرعة شديدة.»
سأله هير: «لكن كيف سأجعلها تخرج من القطار عندما نصل إلى ترييستي؟» «لن تواجه مشكلة في ذلك؛ فبإمكانك إيقاظها بمجرد لمسة، فتلك مرحلة أولية من النوم، أو ما تسميه نوما خفيفا. ستكون ذاهلة بعض الشيء فحسب.»
دار الطبيب على عقبيه، لكنه ما لبث أن توقف كي يسدي نصيحة لهير. «من الأفضل أن تدعها على حالها حتى تؤجر حمالا. إن أيقظتها مبكرا فربما تنام مجددا، وكل مرة ستكون أطول من سابقتها.»
سمع هير نصيحته ووقف في الممر يتطلع من النافذة. انعكست صورة القطار بأنواره طافية على الأسطح والجدران الحجرية، فجعلتها أشبه بمنظر طبيعي ينعكس متراقصا على صفحة ماء. في كل مقصورة كانت الأمتعة تنزل، والأصوات تتعالى مطالبة بخدمات، وكانت الصداقات العابرة التي تبتدأ على متن رحلة قطار، توطد وتنهى في آن واحد بالمصافحات والوداعات.
نامت آيريس.
في مقصورة العروسين الخاصة، كان المحامي تودهانتر يبذل أقصى ما بوسعه - لبضع دقائق أخرى - كي يوفق بين لفتة وداع وهروب استراتيجي في آن واحد.
قال ملمحا: «هل نتبادل عبارات الوداع الآن؟ قبل أن نصبح محاطين بلفيف من الشهود.»
متجاهلة اقتراحه، قالت الآنسة لورا، وهي تعقص رموشها لأعلى بعناية: «وداعا! شكرا لحسن ضيافتك! لقد حظيت بعطلة رخيصة، رخيصة بكل ما تحمله الكلمة من معان.»
في المقصورة الخاصة المجاورة، كانت الأختان فلود-بورتر تواجهان مأساة كبرى. كانت الآنسة فلود-بورتر هي من فجرت المفاجأة. «روز، هل رأيت حقيبة السفر البنية توضع في الشاحنة؟» «كلا.» «إذن أظن أننا نسيناها. لقد دفعت أسفل السرير، أتذكرين؟»
تجمدت الدماء في وجهيهما؛ إذ كانتا قد حزمتا جميع مشترياتهما في حقيبة واحدة للإفصاح عنها لموظفي التخليص الجمركي بأمانة.
قالت الآنسة روز بأسف: «لقد كنت أعول على الكابتن باركر لتخليصهم من الجمارك لأجلنا، لكنها ربما تكون في الشاحنة.» «ربما. لا يسعنا سوى أن نأمل الأفضل.»
ظلت آيريس نائمة.
في طفولتها، عانت عقدة نقص لم تتوقعها بسبب التباين بين أغراضها وأغراض غيرها من الأطفال. مع أنها كانت مدللة من الكبار، واجهت عداء سريا من بعض أقرانها. لم تكن أهلا للانتقام لنفسها، لكن أثناء الليل وجدت رغباتها المكبوتة متنفسا لها في أحلامها حيث يكون لها نفوذ، فتنهب متاجر الألعاب ومحال الحلوى بلندن وهي تتمتع بحصانة مهيبة.
جاء الزمن حاملا معه الثأر، ليضع آيريس على قمة عالمها الصغير، لكن الآن تحالف عداء البروفيسور لها وخصومة الطبيب والبارونة، واستهزاء الركاب الآخرين بها، مع ضربة الشمس التي تعرضت لها؛ ليعيدوا إحياء عقدة النقص القديمة.
كانت النتيجة أنها انتقلت من غياب الوعي إلى أحد أحلامها الطفولية بالنفوذ.
في حلمها كانت لا تزال في طريقها لإنقاذ الآنسة فروي على متن القطار السريع. وكانت الممرات طويلة للغاية، فاستغرق فعل ما فعلته في حدود الدقيقة زمنا طويلا. ظل الطبيب وحشد من المسافرين يحاولون إعاقة طريقها، لكنها لم يكن عليها سوى أن تدفع وجوههم ليتلاشوا كالدخان.
كانت تحصد أرواحهم بالعشرات حين أيقظها صرير المحرك. أخبرتها الصيحات وومضات الضوء المفاجئة أنهم يدخلون ترييستي بسرعة.
على الفور نهضت مترنحة، بين الحلم واليقظة، واتجهت مباشرة إلى المقصورة المجاورة.
جاء فعلها مفاجأة للجميع، لم يتوقعه أحد منها؛ إذ ظنوا أنها نائمة. كان الطبيب وسائقه المتنكر يتطلعان من النافذة، ويترقبان وصول عربة الإسعاف، لكن هير الذي كان يثرثر مع الحارس رآها تدخل المقصورة، فبذل جهدا خرافيا لمنعها.
لكنه كان قد تأخر كثيرا. كانت آيريس لا تزال واقعة تحت تأثير حلم النفوذ الذي أشعرها بأنها آمنة ومنحها حصانة جعلتها ترقى فوق الخوف من التبعات، فاندفعت نحو المريضة ونزعت الضمادة اللاصقة عن وجهها.
كان إعطاؤها العقار المنوم هو الخطأ الأخير الذي ارتكبه الطبيب في مغامرته المشئومة تلك. إن كانت قد نفذت تهديدها بالفعل ولجأت للسفارة، لربما لاقت استنكارا وتوانيا، لكن الدواء هو ما منحها الشجاعة للإقدام على المستحيل.
بمجرد أن انتزعت الضمادات المتقاطعة وتدلت من بين أصابعها كنجمة بحر، حبس هير أنفاسه في هلع، ثم صفر الحارس من ورائه مندهشا؛ إذ بدلا من ينابيع الدماء المتفجرة، واللحم المشوه الذي لا يغطيه جلد ، طالعهم وجه سليم، لكن محمر، لامرأة في منتصف عمرها. صرخت آيريس صرخة تعرف خافتة: «آنسة فروي.»
الفصل الثالث والثلاثون
البشير
بعد يومين، وقفت آيريس على رصيف محطة فيكتوريا تراقب تفرق الركاب. كانت الآنستان فلود-بورتر من بين أول المغادرين. كانتا واثقتين من استحقاقهما لمعاملة مميزة، فوقفتا بمعزل عن الآخرين وقد ارتسمت على وجهيهما أمارات السرور، بينما كان رجل ذو نفوذ له صوت آمر وأسلوب واثق مع الموظفين يصيح ويوجه أمتعتهم عبر التفتيش الجمركي.
وقع نظراهما على آيريس مرة دون قصد، لكنهما كانتا مشغولتين للغاية فلم تحيياها. كانت تلك إنجلترا، حيث لا مكان لها في حياتهما.
لكنهما تعاملا بلطف شديد مع السيدة بارنز عندما ذهبت إليهما تودعهما. كان وجهها مشرقا بسعادة منبعها برقية تلقتها في كالييه. «لقد تحسن جابريال مجددا بعد نزلة البرد التي أصابته.»
رغم تعجلها للعودة إلى البيت وإليه، وقفت تستمع إلى أحدث الأقاويل من الأختين.
سألت الآنسة فلود-بورتر الكبرى: «ألا تجدين أمر تلكما العروسين غريبا؟ أعلم أنه لم يستقل قطار فينيسا لأني بحثت عنه. لقد نزلت هي من القطار في ميلان، وحدها.»
أومأت السيدة بارنز برأسها. «أجل، أعلم أن زوجي لن يحب أن أقول ذلك، لكن الأمر يجعلني أتساءل إن كانا متزوجين حقا.»
قالت الآنسة روز باستهزاء: «بالطبع ليسا متزوجين. أنا سعيدة للغاية لأننا لم نخالطهما. إن رفعت دعوى طلاق فيما بعد فلربما استدعينا للشهادة.»
وافقتها أختها: «بالضبط، وهذا يبين كيف يجب على المرء أن يتوخى الحذر عندما يكون مسافرا خارج البلاد. نحن دائما نلتزم بقاعدتنا، وهي ألا نتدخل في شئون الآخرين أبدا.»
ابتسمت آيريس بمرارة عندما سمعت نبرة الفضيلة المتيقظة التي حملها صوتاهما؛ إذ ذكرتها بما كابدته نتيجة لسياسة الانعزال الشديد التي يتبعانها. هزت كتفيها وأدارت ظهرها لمشهد الوداعات الحارة لتستعيض عنه بخطوط الأشعة الدقيقة البيضاء - تشبه أضواء كشافات لا تعد ولا تحصى - التي تبثها الشمس عبر السطح الزجاجي.
مع أنها كانت لا تزال مضطربة، شعرت بأنها منحت حياة جديدة، وأنها ممتنة إلى عودتها وإلى بقائها على قيد الحياة. فيما كان هير يحوم حول كومة من الأمتعة عادت بذاكرتها إلى الرحلة. كانت ذكرياتها باهتة، تتخللها فجوات عديدة.
فقدت الوعي في ترييستي عندما انهار جسدها تماما، ولم تدر بمحيطها حتى صارت على متن القطار الإيطالي الذي انطلق يشق الظلام. سيدة ما، لها عينان سوداوان براقتان كانت تعتني بها، فيما كان هير يجيء ويذهب. كانت نائمة معظم الوقت، لكن كلما استيقظت كانت تشعر بالسعادة.
كانت المقصورة تعج بركاب آخرين، جميعهم يصيحون ويدخنون ويلوحون بأيديهم. لم تفهم كلمة واحدة مما يقال، لكنها شعرت أنها متآلفة ومتناغمة تماما معهم جميعا. كان ترقب جمع الشمل المبهج يغمر العالم سعادة. زال حاجز اللغة، فلم يعودوا أبناء جنسيات مختلفة، بل أبناء عالم واحد تجمعهم المشاعر المشتركة.
في الصباح، اكتشفت راكبة أخرى في المقصورة، سيدة ضئيلة باهتة الملامح في خريف عمرها، لها وجه صغير تملؤه الخطوط وعينان زرقاوان.
هللت آيريس فرحا وهي تعانقها. «آنسة فروي. يا لك من قاسية مريعة لتسببي لي كل ذلك العناء! أوه، يا عزيزتي.»
رغم فرحة التئام الشمل، تبين أن الآنسة فروي لم تكن بديلة مناسبة للغريبة الإيطالية؛ فاهتمامها اللجوج وضحكتها الرنانة وثرثرتها المتواصلة صارت عبئا كبيرا، لدرجة أن هير كان يضطر للجوء للحيلة كي يحظى بفترات من الراحة.
لكن رغم جميع العوائق، كان يغلف الرحلة حس بالمغامرة والآمال العالية. كادت الرياح تعصف بهم وهم يقطعون المساحات المسطحة من فرنسا، وكان كل شيء يتحرك معهم؛ الدخان المتدفق، والغيوم المضطربة. كانت الحقول الشاسعة والسماء البيضاء تسبحان في الضوء، فبدا كأنهم يبحرون في بلد سحري.
مع أن آيريس صارت أفضل حالا، أبى هير أن يجيب عن أي من أسئلتها.
كان دوما يقول لها: «سأخبرك عندما نعود إلى لندن.»
ذكرته بوعده عندما عاد بحقيبة سفرها وقد وضعت عليها علامة بالطبشور.
قالت له: «لا أطيق الانتظار دقيقة أخرى.»
قال موافقا إياها: «حسنا، فلتجلسي إذن.»
جلسا معا على عربة نقل أمتعة ودخنا السجائر، بينما استمعت لروايته. «جرى الأمر بهدوء شديد. لم يحدث أي مناوشات أو غيرها. كان الحارس بطلا حقا. كان يعرف ما يجب فعله بالتحديد، وقد أذعن له الطبيب والممرضتان كالحملان. كما ترين، لن يدانوا على الأرجح إلا بمحاولة اختطاف.»
سألته آيريس: «ماذا حدث للبارونة؟» «لقد انسلت كالشعرة من العجين. لم يثبت أن لها صلة بالمقصورة المجاورة، لكنها ستستغل نفوذها وتتدبر إخلاء سبيلهم. هي سلسلة معقدة من الفساد كما تعلمين.»
لم تكن آيريس مهتمة بمصيرهم.
سألته بحماسة: «ماذا قال الآخرون عندما علموا بأمر الآنسة فروي؟ ففي النهاية، كان الجميع مخطئا ما عداي.»
قال هير: «بصراحة شديدة، تجاهلوا الأمر كأنهم لم يسمعوه. كاد القطار يفوتنا في فينيسيا، وفقدت بعض أمتعة الآنستين فلود-بورتر. أصابهما ذعر شديد بشأنها فظلتا متجهمتين بعدها. وزوجة القس كانت قلقة للغاية على زوجها.» «لكن ماذا عن البروفيسور؟» «هو من النوع الذي لا يحب أن يثبت أحد أنه على خطأ. عندما رأى الآنسة فروي تركض في الأرجاء كطفلة بعمر السنتين، كان رأيه أن الأمر كله مبالغ فيه. سمعته عرضا يقول للآنسة فلود-بورتر: «الناس ينالون عادة ما يسعون إليه بأنفسهم. لا أتخيل أن يحدث أمر كهذا للآنسة روز».» «ولا أنا، يبدو أن الجميع يودع بعضهم بعضا. ها هي الآنسة فروي العزيزة.»
أسرع هير يلوذ بالفرار في الوقت المناسب لتفادي السيدة الضئيلة. كانت تبدو في خير حال، في الحقيقة، بدا أن تجربتها المريعة قد أعادت إليها الحيوية.
مع أن آيريس كانت تتضايق من لمسات هاتين اليدين الجافتين الخشنتين، شعرت بغصة ندم الآن وقد صار الفراق وشيكا.
قالت الآنسة فروي مسرة إليها: «سأمكث في لندن لبضع ساعات. سأقصد متجر «سيلفريدجز» يا عزيزتي، وسأتجول فحسب. سيكون هذا رائعا.»
تابعت هير بنظرها وهو يطارد سيارة أجرة، ثم خفضت صوتها. «أنا أختلق قصة لأرويها لأسرتي عندما أعود للبيت. ستطرب لها أمي فرحا.»
عارضتها آيريس قائلة: «لكن أتظنين أن من الحكمة إخبارها؟ في عمرها هذا، ربما يتسبب لها ذلك بصدمة.»
هزت الآنسة فروي رأسها نفيا، وغمزت بعينها لآيريس بتآمر كما تغمز تلميذة لزميلتها. «أوه، أنت تعنين ما حدث لي. لن أخبر أمي بذلك، فستصاب بالذعر ولن تدعني أعود.»
سألتها آيريس: «وهل ستعودين؟» «بالطبع. على الأرجح سيطلب مني أن أدلي بشهادتي في المحاكمة، كما أن جميع الأمور المثيرة تحدث خارج البلاد.» «أنت مدهشة، لكن ما القصة التي تختلقينها؟»
عادت الآنسة فروي شابة فجأة. «إنها عنك، وعن مغامرتك العاطفية. هل الأمر حقيقي؟»
لم تعرف آيريس نفسها الإجابة حتى تلك اللحظة.
أجابت: «أجل. سأصحبه في رحلته التالية.» «إذن سأكون أول من يهنئك، ويوما ما ربما تهنئينني أنت، والآن يجب أن أهرع لإرسال برقيتي.»
بعد وقت ليس بطويل، وصلت برقية إلى المنزل الحجري الرمادي الصغير. قرأها السيد فروي والسيدة فروي معا، ثم قرأها كل منهما وحده على مسامع سقراط. «سأكون بالبيت الساعة 10 : 8. هذا رائع جدا. ويني.» •••
في ذلك المساء، وقفت السيدة فروي في نافذة حجرة نوم ويني. مع أنها كانت لا تستطيع رؤية محطة القطار، لمحت ضوء مصباح إشارة أصفر اللون خلال فرجة بين الأشجار.
كل شيء كان متهيئا لعودة ابنتها. كانت المائدة قد أعدت في غرفة الطعام وزينت بزهريات تحتوي أزهار الأضاليا البيضاء وأزهار الجزر. وأزيلت قرب الماء الساخن من سريرها، وأضيئ المصباح الذي نادرا ما يستخدم في الردهة، وفتح الباب الأمامي في تأهب، فسقط شعاع من الضوء على أرضية مسار الحديقة الذي يكسوه الطحلب.
ووضع الغداء في الفرن ليظل ساخنا. دائما ما تكون الوجبة الأولى التي تطهوها السيدة فروي هي النقانق والبطاطس المهروسة، ظنا منها أنهما طبق ويني المفضل. هما لم يعودا كذلك منذ بضعة وثلاثين عاما، لكن ويني لم تملك الشجاعة قط لمصارحتها بالحقيقة.
كان الظلام والسكون يعمان خارج النافذة، وكانت النجوم ساطعة، والهواء البارد محملا برائحة نيران الخلاء الخريفية، ثم فجأة شق السكون صرير القطار البعيد.
استطاعت السيدة فروي تتبع وصوله بواسطة الغمامة الحمراء التي تتراقص فوق شريط أشجار الدردار الذي تختفي وراءه المحطة. علمت متى توقف؛ إذ لهث المحرك ونفث بعضا من بخاره.
ثم ما لبث أن تابع سيره مقعقا ليتركها في حيرة. تساءلت إن كان قد أحضر معه ويني. ربما فاتتها وسيلة مواصلتها في لندن. لم تستطع رؤية أو سماع أي شيء؛ إذ كان الصمم قد بدأ يتسلل إلى أذنيها والعمى إلى عينيها.
كان الظلام المحيط يربكها ويخدع حواسها بوعود كاذبة، فكانت ترى هيئات تتقدم نحوها في الظلام، لكن فور أن يثب قلبها فرحا تتبدل فتعود أشجارا. جاهدت عبثا لالتقاط أي بوادر لأصوات بشرية، لنبرات زوجها العميقة ونبرات حادة مجلجلة لفتاة.
بينما كانت تحبس أنفاسها في ترقب، سمعت نباح كلب يأتي من بعيد. ظل ينبح وينبح بفرح شديد، ثم ما لبث أن اندفع عبر البوابة المفتوحة والمسار المضاء كلب ضخم حليق الفراء، يثب فرحا مثل جرو كبير، ويدور في دوائر، ويطارد ظله فيتعثر في خضم تعجله الأهوج.
كان ذلك هو البشير الذي استبق سيدته الصغيرة كي يبشر بعودتها إلى الديار.
صفحة غير معروفة