وكان ميل محمود شديدا - وكل ابن لأم ذكية يدرك ذلك - إلى إظهار فضل والدته بصورة عامة. فنشر الكتب وكان له بذلك علينا حق الامتنان. •••
في عنوان هذا الفصل، «بعد الزواج» شبه وعد بشرح أحوال غير معروفة وتبيين دقائق غامضة. وها أنا لم آت إلا ببعض الخطوط الكبرى التي استطعت تناولها. بيد أن الشرح لا ينتهي بانتهاء هذه الصحيفة. وعندما ننظر في شعر عائشة ونثرها وآرائها نظل مماشين تسلسل الأيام والأعوام في حياتها؛ لأن كل ما لدينا منه دونته إلا القليل بعد الزواج.
يخيل أن آجال الأفراد عموما تخضع لمقدرين أكبرين اثنين؛ أحدهما مداومة السير واستمرار التتابع ضمن حدود طبيعية وفي دائرة قوانين محتومة. والمقدر الآخر هو أن يعمل المرء طول حياته، مع بعض التغير في أنواع العمل بمقتضى الأطوار المختلفة، باختيار مسير - إن صح الجمع بين هذين النقيضين. وكأن العمل ينجز هو الآخر ضمن حدود ضربت له وفي دائرة قوانين لا يحرقها إلا مستهترا مفسدا على نفسه إمكان المعيشة.
جداول جداول تجري أعمار الأفراد نحو ما وراء الموت مما لا يحد ولا يدرك. جداول يسيطر عليها ذانك المقدران الشاملان في المرض والعافية، في الفرح والترح، في الأمل والقنوط، في الرغبة والاشتياق، في المحبة والكراهة. والأصوات المختلفة المتصاعدة بتأثير هذه العوامل تكون شدو الجداول البشرية - ذلك الشدو المطرب المشجي. وهذا الجدول من عمر عائشة هو الذي سنسمعه شاديا فيما يلي بإبهام كل خرير، ولذة كل قديم، وتبشير كل رائد ...
الفصل الرابع
بيئة الشاعرة
بيئتها الاجتماعية
ترى هل الحاضر إلا خلاصة ما أتمته الحياة واستهلكته من المطالب والجهود؟ وما هي البيئة إن لم تكن تلك «الخلاصة» منظمة بيد الإنسان وبمشورته أو منتظمة بحكم الأحوال والاسترسال؟ وهل اليوم إلا الماضي لغد، وهل يكون الغد إلا ماضيا لبعد غد؟
إن كل صباح وكل مساء يأتيان بمجهودهما وخبرتهما ليضيفاهما إلى ذخيرة الماضي الفسيح، وكل خيط من خيوط الزمان ينسج نسيجه في رحاب ما يمر ويتجمع ويبقى. وعندما ننتقل من بيئة إلى بيئة، ومن مكان إلى مكان، ومن آن إلى آن، لن نجد أمامنا إلا صورا مختلفة من صور الماضي الحي في كل حاضر وفي كل مستقبل.
فإذا ما ولد الطفل تلقته دائرة من دوائر الماضي التي تدعى «البيئة»، فوجد فيها بداهة ما يقوم بحاجته؛ لأنه هو كذلك صورة أخرى من تجمع الماضي، فلا غرو أن يقوم كل نوع بنوعه ولا غرو أن تحتشد أسرار الحياة وتوجز في البيئة التي هي صورة مصغرة من العالم. ولا غرو أن تكون ممثلة المعالم وللحياة في إغداق نعمها ومواهبها بلا سبب على بعض أسراها، وتكون لآخرين أقسى مثال للجور والتعسف والحرمان.
صفحة غير معروفة