5
ليس هذا من مألوف الشكوى والثناء. بل هو كان لها على الدوام نصيرا منذ الصغر في جهادها ضد والدتها التي كانت تحثها على تعاطي أشغال الإبرة.
ولا يفوتنا الآن - في هذه النقطة من بحثنا - ما زلنا أيام كان أبناء العظماء، حتى الملوك أنفسهم، يتزوجون من معتوقاتهم. ولطالما استهجن كتاب الفرنجة هذه العادة ذاهبين إلى أن دماء العبيد تجري في عروق أكثرية الشعوب الشرقية. وما هي منهم إلا نظرة سطحية؛ إذ ليس أولئك الجوار دواما من أصل وضيع؛ فمنهم الكريمات أسيرات الحروب. وقد قذفت حرب المورة، مثلا، إلى مصر بكمية وافرة من بنات اليونان، ومنهن الشريفات المخطوفات، ومنهن الشركسيات يبيعهن الأهل مدفوعين بحب الرفعة والتقدم لأولادهم الذين إذا عاشوا في جبالهم كان حظهم محدودا، أما إذا انتقلوا إلى بلاد أخرى عن هذا الطريق فلهم أن يتعللوا بأكبر الآمال ويرتقوا أعلى المراتب.
لست مبررة عمل الأهل، إنما أنا شارحة إحساسهم، نعم إن كثيرين من أولئك الأولاد يحلون بيوتا صغيرة يعملون فيها للخدمة فيجيء الإعتاق متأخرا، ويكون الزواج فقيرا والجهاز ضئيلا. ولكن الشرع الإسلامي شديد الرفق بالرقيق، جم العناية بحاله. ثم قد يسعد الصبي فيصير «مملوكا» ألمعيا، وتصير البنت «هانما» غنية. ولهم أن يحلموا حتى بالعروش.
هذا من جانب الأهل. أما الأزواج فلم يكونوا يومئذ ليطلبوا في المرأة سوى خصائص الصحة والجمال الجسدي وجودة البنية، فتزيد أو تنقص قيمة الجارية بقدر ما تحوز من تلك الخصائص. فيخرجونها على أعمال معروفة كتدبير المنزل، وأشغال الإبرة، وفنون الرقص والعزف والغناء أحيانا، ويربونها على عادات الكبراء وعلى طريقة من الطاعة تتلاقى فيها الأنفة والإذعان.
وهناك سبب اجتماعي آخر في مصلحة الجارية، وهو كونها بكليتها لعائلتها الجديدة. يقول الظرفاء إن آدم كان أسعد الأزواج؛ لأن حواء كانت «مقطوعة» فظل حياته في نجوة من صولات أهلها وجولات أنسبائها. والحق يقال من عيوب المجتمع الشرقي ذلك التطاول المرق الذي يسمونه «وحدة حال» أو «يا سلام! الناس بالناس!» وبه يستبيح بعض الأقارب والأنسباء ما كان يجب أن يحجموا ويقفوا دونه. مسلم أن البر بالأقارب حسن ومحمود، ولكن على شريطة ألا يكون ذلك باعثا على إضرار العائلة وتنغيصها، وألا يكون معناه انتهاك حرمة البيت من ذلك الجيش الجرار الذي تسحبه بعض النساء الشرقيات كأنه الهدية الواحدة من هدايا العرس المنقلبة ضربة لازب، جيش يصير همه ابتداع الأكاذيب وتلفيق الروايات، لا سيما إذا كثر الاختلاط وظهرت أسباب المنافسة والحسد. وإنما باعتدال المعاشرة والاحتفاظ بعادات كل عائلة، والسهر على استقلالها الداخلي وراحتها وأسرارها يتحقق التفاهم بين الأقارب وتنمو المودة، أما التطاول والتهجم فمؤديان إلى القطيعة حتما. وقد بدأ الشرقيون يفهمون أن البنت عند زواجها ثمرة نضجت فسقطت عن شجرتها، فأضحى أول واجباتها محصورا في العائلة الجديدة التي تنشئها، كما تتقيد البذرة بالثمرة الجديدة التي كونتها تنفيذا لناموس الخليقة. ولقد كان هذا الاستقلال العائلي، وتقديس حدود البيت والتفرغ للاعتناء به، والقيام بما يعود عليه بالرفاهية والهناء؛ من أكبر عوامل تقدم الأمة الإنجليزية. كما أن نقيضه في كثير من الأسر الشرقية من أهم عوامل التقهقر؛ إذ كيف يتقدم وينجح من كان في حياته البيتية شقيا!
هذا ما كان ينجو منه زوج المعتوقة. وقد ذكرت «نية سليمة» قول سيدة مصرية معتوقة إنها ستبتاع في الأستانة زوجة لولدها؛ لأن «بنات باشواتنا كثيرات الدلال. أريد لابني زوجة بلا حم ولا حماة لأضمن سعادته»!
6
يدرك القارئ والحالة هذه، أن والدة عائشة لم تكن تفهم تشبث ابنتها بالكتب، ويدرك أنها كانت تجدها شاذة فتسأل الله عليها صبرا ولها معونة! •••
غير أن الأب الحصيف قريب يسمع ويتبصر. فتقول لنا زينب فواز في كتابها «الدر المنثور» إن الباشا عندما رأى الجدل متتابعا بين زوجته وابنته تفرس في هذه النجابة وقال لوالدتها: «دعيها فإن ميلها إلى القراءة أقرب». وأحضر لها اثنين من الأساتذة، وظل يعنى بها، فما تمكنت من معرفة إلا يسر لها الأخذ بأخرى. وتشهد لنا عائشة بفطانة والدها وعطفه في مقدمة كتابها «نتائج الأحوال»؛ حيث تقول والدتها إذ تراها عاكفة على الكتاب والقرطاس كانت تأتي:
صفحة غير معروفة