لغة هذه الرسالة ككل ما نثرت عائشة، وهي لغة المقامات ذات السجع والتطويل، وهي تستهلها بالشكوى وتفكر «لعلي أرى لسماء الصفو هلالا ولعقد الأزمة إنحلالا.» ويظهر أنها عثرت على «انحلال لعقد الأزمة» أو ما يشبه ذلك؛ لأنها «فناداني زعيم الجسارة هلمي إلى مقصورة السلامة، ولا تحذري الانتقاد والملامة، وعليك بإيضاح الدعوى.»
وهنا قامت و«زعيم الجسارة» ذلك - ولعله صديق خيالي - بتخاطب حفل بالتضخيم المسجع شغل صفحتين اثنتين. فوصلنا أخيرا في أول الصفحة الرابعة إلى «إيضاح الدعوى». وما هي سوى انقلاب الأدوار بين الرجال والنساء، وتسرب الفساد إلى داخل الأسرة. وتفصيل ذلك عندها أن جماعة من الشبان «غرهم الله بالغرور حتى إن كل إنسان هم بالاقتران من وضيع ورفيع وخامل ونبيه، كان كل بحثه عن الحلي والحلل والضياع والعقار، لا عن النسب والتدين والعفة والوقار»، ذلك ليتمتع بما تمتلكه ربات الجمال «... ويريح فكره من الأتعاب ويستغني عن الجهد في الاكتساب، ويسلم الزمام للهوى»، مكتفيا «بتلك الثروة المستعارة، وما يدري بأنه واقع في حبائل الخسارة. فتحتاط به أقرانه.» «ويقوم جيش المداهنين بين يديه» ... «ويظل الزوج بين لهو وتبذير حتى ينفذ من يده الدينار والدرهم، وإذ يعود إلى البيت تقابله الزوجة بالسخط والنفور، ولا يلبث أن ينتقل النفوذ والسيطرة إليها؛ لأن الزوج عاجز إلا عن القصف والتبذير.» «وحق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يرعى الآخر فيما له وعليه. فعلى الزوج أن يقوم بكل حقوقها ومصالحها، كما يجب عليها طاعته والانقياد لأمره.» فإذا انقلب الرأس عقبا فكيف تستقيم الأمور؟ وكيف «لا تلقي المرأة وشاح الحذر وترمي برقع الحياء!»
أتكون الزوجة صابرة كتوما، دفعا للشماتة وحذرا من ذيوع الفضيحة، «فدفنت هذا الويل بجدث قلبها الحزين الولهان»؟ إلا أن الكتمان لا يداوي علة، والتجلد لا يفثأ غلة، بل تجدب في نفسها مادة الحياة و«بدلت القصور بالقبور»؛ إذن فالبشرى للزوج الذي لا يرثي ليتم الأطفال، «بل يأخذ من الميراث ما لقي وأبقى ويجعله صداقا لمن يلقيها في أكفة الشقاء!»
أم تكون المرأة سليطة اللسان وإذ تضيق بالحياة ذرعا تعمد إلى اللوم والمشاجرة؟ إذن تبدأ حياة هي الجحيم؛ إذ لا مقدرة للرجل على زجرها وإسكاتها؛ فيهجر بيته إلى الحوانيت والحانات، «وإذا أتى المنزل نام في الحال خوفا من المرافعة في القيل والقال.»
فكيف تسكت النساء على ضياع شبابهن ونضارتهن وأموالهن وآمالهن في السعادة والهناء؟ إن الحزن والأسى ليلهب قلوبهن! فتمضي الواحدة منهن إلى الجارات مستجيرة من عذابها وكربها. فإذا هي وقعت على امرأة فاضلة تهون عليها الأمر صمتت لحين استئناف الأزمة الجديدة. أما إذا ساقها سوء الطالع إلى تلك الدور التي تبدل منها الصون والحصانة باسم الحرية العصرية، فهناك تغريها من سفلت أخلاقها فتستسلم المرأة وتخرج عن جادة الحشمة. عندئذ يغار الزوج ويقوم بالتهديد والوعيد. ولكن كيف تعبأ المرأة به وبكرامته وهو لم يعرف لنفسه واجبات ولم يقف شروده عند حد؟
هذا منشأ الشقاء على ما يبدو للتيمورية؛ لذلك ناشدت الرجال في آخر الرسالة أن يصغوا إليها ، ورجت منهم «أن لا تنبذوا خطاب هذه الضعيفة ولا تقيسوه بأقوال النساء السخيفة.»
وقد لبى الرجال هذه الدعوة، بداهة أو اختيارا. فالنقد الاجتماعي الذي سيعالجه قاسم أمين بحصافة ولوذعية، قد سبقته التيمورية بهذه الدعوة إلى الإصلاح؛ لأن الكتاب الذي وضعه قاسم أمين بالفرنسية ردا على الدوق داركور صدر سنة 1894م وعقليته لم تتفتق فيه عن تلك الثورة النبيلة الكامنة التي شبت في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وقد صدر الكتاب الأول سنة 1898م وصدر الآخر في 1900م.
لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات
يقول ابن أخي الشاعرة، الأستاذ محمود تيمور، إن التيمورية نشرت مقالات في جريدة «المؤيد»، وأرجح أن خير تلك المقالات أدرجتها زينب فواز في كتابها «الدر المنثور». وقالت أنها اقتبستها عن جريدة «الآداب» الصادرة يوم السبت الموافق 9 جمادى الثانية سنة 1306 الهجرية، أي سنة 1888م، قبل أن يكتب قاسم أمين في هذا الموضوع باثنتي عشرة سنة تقريبا.
أرجح أن هذه خير مقالاتها؛ لأن عائشة كانت وزينب فواز على اتصال وائتلاف. وقد ترجمت زينب لعائشة في حياتها واستقت منها مصادر تلك الترجمة بما فيها نص مراسلتها ووردة اليازجي نظما ونثرا. كما أنها صدرت كتاب «الدر المنثور» بخطاب من عائشة كله ثناء وتقريظ، على طريقة يومها، ولما أدرجت هذا المقال دون سواه فأكبر الظن أنها فعلت بإشارة التيمورية، أو أنها فضلته على غيره نظرا لمحتوياته.
صفحة غير معروفة