كتاب العدل والتوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أسبغ علينا من نعمه، ومن علينا من إحسانه وكرمه، وبين لنا من الهدى، وأنقذنا من الضلالة والردى، بإقامة حججه، وتواتر رسله، صلوات الله عليهم، ومحكم آياته، وتفصيل بيناته، رحمة لعباده، ودعاء لهم إلى ثوابه، وإخراجا لهم من عقابه: { لئلا يكون للناس على الله حجة } [النساء:165]. و{ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم } [الأنفال: 42].
صفحة ٢٣٩
[عقائد يجب الإيمان بها]
أما بعد:فإن الذي يجب على العبد أن يكون عاملا بطاعة الله، التي لا يقبل الله عز وجل غيرها من طاعته إلا بأدائها، ولا يكون مؤمنا حتى يفعلها.
أن يؤمن بالله وحده لا شريك له، ولا يتخذ معه إلها، ولا من دونه ربا ولا وليا، وأن يؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، وبالحساب والجنة والنار، وبالجزاء بالأعمال، وأن الآخرة هي دار القرار، لا ينقطع ثوابها، ولا يبيد عقابها، ولا يموت فيها أهلها، وهم في جزائهم خالدون. ويؤمن بوعد الله جل ثناؤه ووعيده، وأخباره، وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مما أمر به ونهى عنه صلوات الله عليه من العمل بالمفروض بطاعة الله، والإجتناب لمعاصي الله، والولاية لأوليائه، والمعاداة لأعدائه، والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله. فإذا فعل ذلك كان مؤمنا، مسلما محسنا، من المتقين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
صفحة ٢٤٠
[التوحيد]
ولا يكون العبد مؤمنا حتى يعلم أنه مخلوق مرزوق، وأنه ذليل مقهور، وأن له خالقا قديما، عزيزا حكيما، ليس كمثله شيء في وجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني، وأن ما سواه من الأشياء كلها من عرشه، وملائكته، ورسله، وسمواته، وأرضه، وما فيهن وما بينهن وما تحتهن، مما أخرجه الله جل ثناؤه، من تمكين العباد وأفعالهم، لم يجعل لأحد عليه قدرة ولا استطاعة، ولا عند أحد منهم معرفة في شيء من بدو ذلك وإنشائه، ومن أعمل منهم فكره ليبلغ معرفة شيء من ذلك بقي حسيرا، منقطعا مبهورا ، ولا جعل إلى أحد في شيء منه سبيلا، ولا جعل لأحد فيه محمدة ولا ذما، لأنه جل ثناؤه لم يستعن على إنشاء ما أنشأ بأحد، ولم يشاركه في ملكه أحد، ولم يؤآمر في تدبيره أحدا، فهو الواحد الأحد، الذي لا من شيء كان، ولا من شيء خلق ما كان.
فهو الدائم بلا أمد، الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } [الحديد:3].
وجميع ما أدركته ببصرك ووهمك، ووقع عليه شيء من حوآسك، أو كيفته بتقديرك، أو حددته بتمثيلك، أو شبهته بتشبيهك، أو وقت له وقتا، أو حددت له حدا، أو عرفت له أولا، أو وصفت له آخرا، فهو محدث مخلوق، والله تبارك وتعالى خالق الأشياء، لا من شيء خلقها، ولا على مثال صورها، بل أنشأها وابتدأها، فدبرها بأ حكم تدبير، وقدرها بأحسن تقدير.
صفحة ٢٤١
فهو جل ثناؤه، لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق، لأنه الخلاق الذي: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى:11]. لم يخص بذلك شيئا دون شيء، بل عم الأشياء كلها، ما كان منها وما يكون، فلا شبيه له ولا عديل، لا الضياء ولا الأنوار، ولا الظلمات ولا النار. وذلك أن النور والظلمة مخلوقان محدثان، يوجدان ويعدمان، ويقبلان ويدبران، ويذهبان ويجيئان، ويوصفان ويحدان. والخالق جل ثناؤه ليس كذلك، لأن الخالق جل وعز قديم لم يزل، والمخلوق لم يكن، فآثار الصنعة في المخلوق بينة، وأعلام التدبير قائمة، والعجز فيه ظاهر، والحاجة له لازمة، والآفات به نازلة، فأنت تراه مرة ماثلا، ومرة آفلا زائلا.
صفحة ٢٤٢
فلما كانت هذه صفة كل مخلوق، ولم يجز أن تضاف صفة المخلوق إلى الخالق عز وجهه، لأن الخالق لا يكون في صفة المخلوق، تبارك وتعالى الخالق أن يكون له شبه البشر، هو الحامد نفسه قبل أن يحمده أحد من خلقه. فقال تبارك وتعالى: { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } [الأنعام:1]. يقول جل ثناؤه إن الكفار عبدوا إلها غير الله، فقالوا هو ضياء ونور، ومن جنسه النار والنور، وجعلوا معه إلها آخر، فقالوا: هو ظلمة ومن جنسه كل ظلمة. فعدلوا بالله جل ثناؤه حين شبهوه بالأنوار، وجعلوا معه آلهة من الظلمات، فأكذبهم الله جل ثناؤه إذ قال: { وجعل الظلمات والنور }. تكذيبا لهم إذ شبهوه وعدلوا به، وأكذب جل ثناؤه الذين شبهوه بالإنس من اليهود وغيرهم من المشركين، جهلا به وجرأة عليه، فقال جل ثناؤه مع ما بين لهم في عقولهم من وحدانيته، ونفى شبه الخلق عندما يرون من أدلته وأعلامه، التي تدعوهم إلى معرفته وتوحيده، من خلق السماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، ومن أنفسهم لو أحسنوا النظر، وأعملوا في ذلك الفكر، فقال جل ثناؤه: { قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد } [الإخلاص:1 - 4]. وقال: { ليس كمثله شيء } [الشورى:11]. وقال: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا } [المجادلة:7].
كذلك الله عز وجل شاهد كل نجوى، عالم السر وأخفى، قريب لا بمجاورة، بعيد لا بمفارقة، شاهد كل غائب، آخذ بناصية كل دآبة، وعليه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، أقرب إلينا من حبل الوريد، وحائل بيننا وبين قلوبنا لا بتحديد، وهو مع قربه منا مدبر السماوات العلى، وشاهد الأرضين السفلى، وعليم بما فيهن وما بينهن وما تحت الثرى، وهو على العرش استوى، وهو مع كل نجوى، وهو في ذلك لا كشيء من الأشياء.
صفحة ٢٤٣
[أسباب وعلل التشبيه]
ولقد ضل قوم ممن ينتحل الإسلام من المشبهة الملحدين، الذين شبهوا الله عز ذكره بخلقه، وزعموا أنه على صورة الإنسان، وأنه جسم محدود، وشبح مشهود، واعتلوا بآيات من الكتاب متشابهات، حرفوها بالتأويل، ونقضوا بها التنزيل، كما حرف من كان قبلهم من اليهود والنصارى كلام الله عن مواضعه، وبأحاديث افتعلها الضلال، من بغاة الإسلام، فحملها عنهم الجهال. فيها الإلحاد والكفر بالله، وأحاديث لم يعرفوا حسن تأويلها، ولم يعنوا بتصحيحها، فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
صفحة ٢٤٤
[الرؤية]
فكأنما تأولوا قول الله عز وجل: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظره } [القيامة:22]. فقالوا إن الله عز وجل يرى بالأبصار في الآخرة، وينظر إليه جهرة، خلافا لقول الله جل ثناؤه: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [الأنعام:103]. جهلا بمعاني الآية وتأويلها.
فأما أهل العلم والإيمان، ففسروها على غير ما قال أهل التشبيه المنافقون، فقالوا: { وجوه يومئذ ناضرة } يقول: مشرقة حسنة، { إلى ربها ناظره } يقول: منتظرة ثوابه وكرامته ورحمته، وما يأتيهم من خيره وفوائده. وهكذا ذلك في لغات العرب. وبلغاتها ولسانها نزل القرآن، يقولون: إذا جاء الخصب بعد الجدب: قد نظر الله جل ثناؤه إلى خلقه، ونظر لعباده. يريدون أنه أتاهم بالفرج والرخاء. ليس يعنون أنه كان لا يراهم ثم صار يراهم .
صفحة ٢٤٥
وقال الله جل ذكره وهو يذكر أهل النار: { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } [آل عمران:77]. تأويل ذلك: أنهم لا يرجون من الله جل ثناؤه ثوابا، ولا يفعل بهم خيرا، وأهل الجنة ينظر الله إليهم وينظرون إلى الله جل ثناؤه، ومعنى ذلك أنهم يرجون من الله خيرا، ويأتيهم منه خير ويفعله بهم، وليس معنى ذلك أنهم ينظرون إليه جهرة بالأبصار، عز ذو الجلال والإكرام، وكيف يرونه بالأبصار، وهو لا محدود ولا ذو أقطار، كذلك جل ثناؤه لا تدركه الأبصار، ومن أدركته الأبصار فقد أحاطت به الأقطار، ومن أحاطت به الأقطار، كان محتاجا إلى الأماكن، وكانت محيطة به، والمحيط أكبر من المحاط به وأقهر بالإحاطة، فكل من قال إنه ينظر إليه جل ثناؤه على غير ماوصفنا من انتظار ثوابه وكرامته، فقد زعم أنه يدرك الخالق، ومحال أن يدرك المخلوق الخالق جل ثناؤه بشيء من الحوآس، لأنه خارج من معنى كل محسوس وحآس، فكذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه درك الأبصار، وإحاطة الأقطار، وحجب الأستار، فتعالى الله عن صفة المخلوقين، علوا كبيرا لا إله إلا هو رب العالمين .
صفحة ٢٤٦
[شبه المشبهة]
وتأولت أيضا المشبهة قول الله تبارك وتعالى: { خلقت بيدي } [ص:75]. وقوله: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه } [الزمر:67]. وقوله: { وجاء ربك والملك صفا صفا } [الفجر:22]. وقوله: { وكلم الله موسى تكليما } [النساء:164]. وقوله: {سميع بصير } [الحج:61، لقمان:28، المجادلة:1].وقوله: { ويحذركم الله نفسه } [آل عمران:28 - 30]. وقوله: { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص:88]. ففسروا ذلك على ما توهموا من أنفسهم، وبأنه عز وجل عندهم في ذلك كله على معنى المخلوقين، وصفاتهم في هيئآتهم وأفعالهم، فكفروا بالله العظيم، وعبدوا غير الله الكريم .
وتأويل ذلك كله عند أهل الإيمان والتوحيد: أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فأما قوله تبارك وتعالى: { خلقت بيدي }. يعني: بقدرتي وعلمي. يريد أني على ذلك قادر وبه عالم، توليت ذلك بنفسي لا شريك لي في تدبيري وصنعي، لا أن قدرتي وعلمي ونفسي غيري، بل أنا الواحد الذي لاشيء مثلي. وقد بين معنى هذه الآية في آية أخرى، فقال: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [آل عمران:59]. وقال جل ذكره: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [النحل:40]. يريد إذا كونا شيئا كان . وقال تبارك وتعالى: { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون } [يس:71]. يقول: مما عملت أنا بنفسي.
وقال جل ثناؤه: { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } [المائدة:64]، وتأويل ذلك عند أهل العلم: بل نعمتاه مبسوطتان على خلقه، نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.
صفحة ٢٤٧
وقيل في تأويله: بل رزقاه مبسوطان على خلقه، رزق موسع، ورزق مضيق، { ينفق كيف يشاء }. أي: يفعل من ذلك ما هو أصلح لعباده. كذلك قال جل ثناؤه: { بيده الملك } [الملك:1]. يعني: له الملك. وكذلك تقول العرب: الملك بيد فلان. وقد قبض فلان الملك والأرض. وذلك في قبضته وبيمينه. يعنون: في قدرته وملكه. كذلك السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما في قبضة الله وبيمينه. يعني: في قدرته وملكوته وسلطانه، اليوم ويوم القيامة وفي كل وقت. كما قال جل ثناؤه: { والأمر يومئذ لله } [الإنفطار:19]. فالأمر يومئذ واليوم بيده. وقال تبارك وتعالى لمن عصاه وهو يساق إلى النار: { ذلك بما قدمت يداك } [الحج:10]. و{ بما كسبت يداك }. يريد: بما كسبت أنت بقولك وفعلك، ليس يعني: يده دون بدنه وجوارحه .
وقال جل ثناؤه لنبيه، صلوات الله عليه وعلى أهله: { إلا ما ملكت أيمانكم } [النساء:24]. يعني: ما ملكتم أنتم، وتقول العرب: أسلم فلان على يدي فلان. يريدون: بقوله وأمره. ويقولون:
................. بيد الله أمرنا والفناء
يريدون: بالله عمرنا والفناء. ويقولون: نواصينا بيد الله، ونحن في قبضة الله. يريدون في هذا كله: أنا في قدرته وملكه، ليس يذهبون إلى يد كيد الإنسان أو غيره من الخلق.
ومعنى قوله: { وجاء ربك والملك صفا صفا } [الفجر:22]. يقولون: جاء الله جل ثناؤه بآياته العظام في مشاهد القيامة، وجاء بتلك الزلازل والأهوال، وجاء بالملائكة الكرام، فتجلت الظلم، وانكشفت عن المرتابين البهم، وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وليس قوله: { وجاء ربك }. أنه جاء من مكان، ولا أنه زائل ولا حائل، أو منتقل من مكان إلى مكان، أو جاء من مكان إلى مكان، تبارك الله وتعالى عن ذلك. بل هو شاهد كل مكان، ولا يحويه مكان، وهو عالم كل نجوى، وحاضر كل ملأ.
صفحة ٢٤٨
كذلك قوله: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ضلل من الغمام } [البقرة:210]. كما قال جل ثناؤه: { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون } [يس:49]. وكذلك قال جل ثناؤه: { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [النحل:26]. وقال: { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [الحشر:2]. يعني بذلك كله: أنه أتاهم بعذابه وأمره. ليس أنه أتاهم بنفسه زائلا، وكان في مكان فكان عنه منتقلا. وكذلك يقول القائل للرجل إذا جاء بأمر عجيب: لقد أتى فلان أمرا عجيبا. يريدون: أنه فعل شيئا أعجبه. فذلك تأويل المجيء من الله جل ثناؤه. لا هو بالانتقال ولا بالزوال، لأن الزائل مدبر محتاج، لولا حاجته إلى الزوال لم يزل. فلذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه الزوال والإنتقال .
صفحة ٢٤٩
[القرآن كلام الله مخلوق]
وقوله:{ وكلم الله موسى تكليما } [النساء:164]. فذهبت المشبهة إلى أن الله تعالى عما قالوا علوا كبيرا: تكلم بلسان وشفتين، وخرج الكلام منه كما خرج الكلام من المخلوقين، فكفروا بالله العظيم حين ذهبوا إلى هذه الصفة.
ومعنى كلامه جل ثناؤه لموسى صلوات الله عليه عند أهل الإيمان والعلم: أنه أنشأ كلاما خلقه كما شاء، فسمعه موسى صلى الله عليه وفهمه، وكل مسموع من الله جل ثناؤه فهو مخلوق. لأنه غير الخالق له وإنما ناداه الله جل ثناؤه، فقال: { إني أنا الله رب العالمين } [القصص:30]. والنداء غير المنادي، والمنادي بذلك هو الله جل ثناؤه، والنداء غير الله، وما كان غير الله مما يعجز عنه الخلائق فمخلوق، لأنه لم يكن ثم كان بالله وحده لا شريك له.
وكذلك عيسى صلوات الله عليه كلمة الله وروحه، وهو مخلوق كما قال الله في قوله: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [آل عمران:59]. وكذلك قرآن الله وكتب الله كلها، قال الله جل ثناؤه: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } [الزخرف:3]. يريد: خلقناه. كما قال: { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها } [الزمر:6]. يقول: خلق منها زوجها. وقال جل ثناؤه: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه } [الأنبياء:2]. وقال تبارك وتعالى: { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } [القلم:44]. وقال سبحانه: { أو يحدث لهم ذكرى } [طه:113]. فكل محدث من الله جل ثناؤه فمخلوق، لأنه لم يكن فكان بالله وحده لا شريك له، فالله أول لم يزل ولا يزول.
وأما قوله: { سميع بصير }. فمعنى ذلك: أنه لا تخفى عليه الأصوات ولا اللهوات، ولا غيرها من الأعيان، أين ما كانت وحيث كانت، في ظلمات الأرض والبر والبحر. ليس يعني: أنه سميع بصير بجوارح أو بشيء سواه، فيكون محدودا، أو يكون معه غيره موجودا، تعالى الله عن ذلك.
صفحة ٢٥٠
وأما قوله: { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص:88]. وقوله: { ويبقى وجه ربك } [الرحمن:27]. فإنما يعني: إياه لا غيره. يقول: كل شيء هالك إلا هو. وقوله: { ويبقى وجه ربك } ليس يعني بذلك: وجها في جسد ، ولا جسدا إذا وجه، تعالى الله عن هذه الصفات، التي هي في المخلوقين موجودات.
وأما قوله: { ويحذركم الله نفسه } [آل عمران:28-30]. يريد: يحذركم الله إياه لا غيره. وقوله تعالى: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } [المائدة:116]. يريد: تعلم أنت ما أعلم ولا أعلم أنا ما تعلم إلا ما علمتني. ليس يعني: أن له نفسا غيره بها يقوم. تعالى عن ذلك. وقد يقول القائل: هذا نفس الحق، ونفس الطريق، وكذلك: هذا وجه الكلام، ووجه الحق، يريدون بذلك كله: هو الحق، وهذا هو الكلام، وهذا هو الطريق. ليس يذهبون إلى شيء غير ذلك. فتعالى الله عن صفات المخلوقين علوا كبيرا، هو الذي لا كفؤ له ولا نظير له، { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى:11].
فكل من وصف الله جل ثناؤه بهيئآت خلقه، أو شبهه بشيء من صنعه، أو توهمه صورة أو جسما، أو شبحا، أو أنه في مكان دون مكان، أو أن الأقطار تحويه، أو أن الحجب تستره، أو أن الأبصار تدركه، أو أنه لم يخلق كلامه وكتبه، والقرآن وغيره من كلامه وأحكامه، أو أنه كشيء مما خلق، أو أن شيئا من خلقه يدركه، مما كان أو يكون، بجارحة أو حآسة، فقد نفاه وكفر به وأشرك به. فافهموا ذلك، وفقنا الله وإياكم لإصابة الحق، وبلوغ الصدق .
صفحة ٢٥١
[العدل]
وعلى العبد : إذا وحد الله جل ثناؤه، وعرف أنه ليس كمثله شيء، أن يتقيه في سره وعلانيته، ويرجوه ويخافه، ويعلم أنه عدل كريم، رحيم حكيم، لايكلف عباده إلا ما يطيقون، ولا يسألهم إلا ما يجدون، ولا يجازيهم إلا بما يكسبون ويعملون. وهكذا جل ثناؤه قال، يدل بذلك على رحمته لنا: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [البقرة:286]، و{ .... إلا ما آتاهما } [الطلاق:7]. وقال: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [آل عمران:97]. فلم يكلف الرحيم الكريم أحدا من عباده مالا يستطيع، بل كلفهم دون ما يطيقون، ولم يكلفهم كل ما يطيقون. وعذرهم عند ما فعل بهم من الآفات التي أصابهم بها، ووضع عنهم الفرض فيها، فقال لا شريك له: { ليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج } [النور:61]. لأنهم لا يقدرون أن يؤدوا ما فرض الله عليهم، ولم يقل جل ثناؤه: ليس على الكافر حرج، ولا على الزاني حرج، ولا على السارق حرج. وذلك أنه لم يفعل ذلك بهم، ولم يدخلهم فيه، ولم يقض ذلك ولم يقدره، لأنه جور وباطل، والله جل ثناؤه لا يقضي جورا ولا باطلا ولا فجورا، لأن المعاصي كلها باطل وفجور، والله تعالى أن يكون لها قاضيا ومقدرا، بل هو كما وصف نفسه، جل ثناؤه إذ يقول: { إن الحكم إلا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين } [الأنعام:75]. بل قضاؤه فيها كلها النهي عنها، والحكم على أهلها بالعقوبة والنكال في الدنيا والآخرة، إلا أن يتوبوا فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات .
صفحة ٢٥٢
أليس قال جل ثناؤه في الصيام: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة:185]. فوضع عن المرضى الصيام، لأنهم لا يقدرون عليه، ووضعه عن المسافر وإن كان يقدر عليه، يخبرهم أنه إنما يفعل ذلك لأنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، ووضع عنه الصلاة قائما إذا لم يقدر على القيام، وأباح له أن يصلي جالسا، وإن لم يقدر على الصلاة جالسا، صلى مضطجعا أو مستقبلا، فإن لم يقدر على ذلك بشيء من جوارحه فلاشيء عليه. فعل ذلك رحمة ونعمة ونظرا لعباده.
ومن لم يكن له مال فلا زكاة عليه، وإن كان ذا مال - فحال عليه الحول -، وهو مائتا درهم فعليه خمسة دراهم، فإن نقص من مائتي درهم شيء، قل أو كثر فلاشيء عليه فيها، وكل أمر لا يستطيقه العبد فهو عنه موضوع، وكلف مما يستطيع اليسير. يريد لله جل ثناؤه بذلك التخفيف عن عباده تصديقا لقوله: { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } [النساء:28]. وقال جل ثناؤه: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج:78]. يقول: من ضيق.
وقال تبارك وتعالى: { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } [الأنعام:164]. فلم يؤت أحد من قبل الله تبارك وتعالى في دينه، وإنما يؤتى العبد من نفسه بسوء نظره، وإيثار هواه وشهوته، ومن قبل الشيطان عدوه، يوسوس في صدره ويزين له سوء عمله، ويتبعه فيضله ويرديه، ويهديه إلى عذاب السعير.
وقال الله جل ثناؤه يحذر عباده الشيطان: { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [الأعراف:27]. وقال تبارك وتعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } [البقرة:268]. وقال سبحانه: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } [فاطر:6]. أعاذنا الله وإياكم من ذلك .
صفحة ٢٥٣
وعلى العبد أن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الكريم الحليم، وأن الله جل ثناؤه عالم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وأنه أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، وأنه لم يجبر أحدا على معصية، ولم يحل بين أحد وبين الطاعة، فالعباد العاملون والله جل ثناؤه العالم بأعمالهم، والحافظ لأفعالهم، والمحصي لأسرارهم وآثارهم، وهو بما يعملون خبير .
صفحة ٢٥٤
[الهدى والضلال]
وعلى العبد أن يعلم أن الله جل ثناؤه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه لا يضل أحدا حتى يبين لهم ما يتقون، فإذا بين لهم ما يتقون، وما يأتون وما يذرون، فأعرضوا عن الهدى، وصاروا إلى الضلالة والردى، أضلهم بأعمالهم الخبيثة حتى ضلوا، كذلك قال جل ثناؤه: { ويضل الله الظالمين } [إبراهيم:27]. وقال سبحانه: { وما يضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } [البقرة: 26 - 27]. وقال تبارك وتعالى: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [الصف:5]. وقال جل ثناؤه: { بل طبع الله عليها بكفرهم } [النساء:155].
وقد يجوز أيضا أن يكون معنى يضل: أن سماهم ضلالا، وشهد عليهم بالضلال ووصفهم به، من غير أن يدخلهم في الضلالة ويقسرهم عليها، فإن رجعوا عن الضلالة وتابوا، وصاروا إلى الهدى، سماهم مهتدين، وأزال عنهم اسم الضلال والفسق. ولم يبتدئ ربنا جل ثناؤه أحدا بالضلالة من عباده، ولا وصف بها أحدا من قبل أن يستحقها، وكيف يبتدئ أحدا من عباده بالضلالة ؟! كما قال القدريون الكافرون الكاذبون على الله. والله جل ثناؤه ينهى عباده عنها، ويحذرهم إياها . ويقول: { يبين الله لكم أن تضلوا } [النساء:176]. يعني لئلا تضلوا. وقال جل ثناؤه :{ ألر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } [إبراهيم:1]. وقال سبحانه :{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد:11]. ولو ابتدأهم بالضلالة كان قد غير ما بهم من النعمة قبل أن يغيروا، سبحانه هو أرحم الراحمين، وخير الناصرين. يريد بذلك وصف نفسه.
صفحة ٢٥٥
وأمن الخلق أن يكون لهم ظالما، أو بغير ما عملوا مجازيا، فقال جل ثناؤه: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوأ يجز به } [النساء:123]. وقال سبحانه: { ولاتزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }. [الإسراء:15]وقال تبارك وتعالى :{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [الزلزلة:7 - 8]. وقال عز ذكره: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات:56]. فللعبادة خلقهم، وبطاعته أمرهم، ومن ظلمه أمنهم، وبنعمته ابتدأهم، بما جعل لهم من العقول والأسماع والأبصار، وسائر الجوارح والقوى، التي بها يصلون إلى أخذ ما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه، ثم ابتدأهم جل ثناؤه بالنعمة في دينهم، بأن بين لهم ما يأتون وما يذرون، ثم أمرهم بما يطيقون. أراد بذلك إكرامهم، ومن المهالك إخراجهم، بين ذلك بقوله في الإنسان: { ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين } [البلد:9 - 11]. هما: الطريقان، الخير والشر فيما سمعنا. يقول الله سبحانه: بينا له الطريقين، ليسلك طريق الخير ويجتنب طريق الشر. وقال تبارك وتعالى: { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } [النجم:23]. وقال عز وجل: { إن علينا للهدى } [الليل:12]. وقال جل ثناؤه: { الذي قدر فهدى } [الأعلى:3]. وقال تبارك وتعالى: { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر } [النحل:9]. وقال سبحانه: { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [فصلت:17]. وقال لنبيه صلوات الله عليه وعلى آله: { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } [سبأ:50]. فأمر نبيه صلى الله عليه أن ينسب ضلاله إن كان منه إلى نفسه، والهدى إلى ربه تبارك وتعالى، وقد علم الله جل ثناؤه أن لا يكون من نبيه ضلالة أبدا، وأن لا يكون منه إلا الهدى، وإنما أمر بذلك تأديبا لخلقه، وأن ينسبوا ضلالتهم إلى أنفسهم، وينزهوا منها ربهم، وأن ينسبوا هداهم إلى ربهم الذي به اهتدوا، وبعونه وتوفيقه رشدوا.
صفحة ٢٥٦
[القدرة قبل الفعل]
والقدريون المفترون يكرهون أن ينسبوا الضلالة إلى أنفسهم والفواحش، ولا يقرون أن الله جل ثناؤه ابتدأ عباده بالهدى ولا بالتقوى، قبل أن يصيروا إلى هدى أو تقوى، خلافا لقوله، وردا لتنزيله، وإبطالا لنعمه، وهو يقول جل ثناؤه: { فاتقوا الله ما استطعتم } [التغابن:16]. يأمرهم بالتقوى إذ كانوا لها مستطيعين، فلو لم يكن لهم عليها استطاعة لما أمرهم بها، ولو كانت استطاعة لغيرها لم يجز أن يقول { اتقوا الله ما استطعتم }، إذ كانت الإستطاعه لغير التقوى. وقال جل ثناؤه: { خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه } [البقرة:63]. {يا يحيى خذ الكتاب بقوة } [مريم:12]. فقد أمرهم أن يأخذوا لأن الأخذ فعلهم، والأمر والقوة فعل ربهم، فلم يأمرهم جل ثناؤه أن يأخذوا، حتى قواهم على ذلك قبل أن يأخذوا.
وكذلك قال في الصيام: { وعلى الذين يطيقونه فدية } [البقرة:184]. يعني: على الذين يطيقون الصيام ولا يصومون فدية، ونحو ذلك مما في القرآن. وذلك كله دليل على أن القوة قبل الفعل، إذ كان الفعل لا يكون إلا بالقوة، وكلما كان بشيء يكون، أو به يقوم، فالذي يكون الشيء أو يقوم به فهو قبله، كذلك الأشياء كلها بالله جل ثناؤه كانت وبه قامت، وهو قبلها. فكذلك القوة فينا قبل فعلنا، إذ كان فعلنا لا يكون ولا يقوم ولا يتم إلا بها، وكذلك يقول الناس: بقوة الله فعلنا. لاكما تقول القدرية المشبهون: إن الله جل ثناؤه لم يبتدئ العباد بالقوة! فأنعم عليهم بها قبل فعلهم! ولكنها كانت منه مع فعلهم.
صفحة ٢٥٨
ففيما وضعناه دليل وبرهان، أن القوة من الله جل ثناؤه في عباده قبل فعالهم، إذ كان بطاعته لهم آمرا، وعن معصيته لهم ناهيا، نعمة أنعم بها الله عليهم، وأحسن بها إليهم. والقوة عندنا على الأعمال هي الصحة والسلامة من الآفات في النفس والجوارح، وكل ما يوصل به إلى الأفاعيل، إذ كانت الصحة والسلامة تثبت الفرض، وإذا زالت زال الفرض، ذلك موجود في العقول، وفي أحكام الله جل ثناؤه، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إجماع الأمة . لا يعرفون غير ذلك، ولا يدينون إلا بذلك.
فليتق الله عبده، وليعلم أن الله جل ذكره يبتدئ العباد بالنعم والبيان، ولا يبتدئهم بالضلال والطغيان، صدق ذلك قوله لا شريك له: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [الإسراء:15]. وقال جل ثناؤه: { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } [التوبة:115].
صفحة ٢٥٩