أحست أسماء بالوحشة فدخلت غرفة تخلو بها إلى نفسها، ولم تكد تفعل حتى تمثل لها عثمان مطروحا أرضا، ونائلة واقفة فوق رأسه وقد حلت شعرها وأخذت تلطم خديها وتندب. وسرى الحزن في جوانبها واقشعر بدنها وندمت على تركها نائلة على تلك الحال.
فقضت يومها وحيدة كئيبة، ولما أمسى المساء قصدت إلى الفراش تلتمس النوم فلم يغمض لها جفن، ولم تغب صورة عثمان وداره عن عينيها. فباتت ليلتها تتقلب على مثل الجمر، تفكر تارة في محمد وأخرى في يزيد وهي لا تعرف مقره، وآونة في عثمان ونائلة، حتى مضى هزيع من الليل فغلبها النعاس فنامت. وأصبحت في اليوم التالي وضميرها يبكتها على هجرها صديقتها نائلة في ساعة الضيق، وحدثتها نفسها أن تذهب إليها، وخافت أن يجيء محمد في أثناء غيابها فيغضب. وانقضى النهار ولم يأت محمد فاضطربت، على أنها التمست الفراش مبكرة عسى أن تنام فتنسى ما هي فيه، فطال ليلها ولم تنم إلا في فترات حتى بدأ الفجر، فأغمضت فرأت طيف نائلة في حالة يرثى لها وقد احمرت عيناها من البكاء وقطعت شعرها في الندب. فلما صحت وتذكرت الرؤيا غلبها الخجل على أمرها، وشعرت أن خيال نائلة يؤنبها على خروجها على تلك الحال، فأفاقت مذعورة وقد بلل الدمع وسادتها، ونظرت إلى السماء فرأت الشمس قد طلعت، فهمت بالمسير إلى دار عثمان تفتقد نائلة، ثم تذكرت أن محمدا أوصى العجوز بالاحتفاظ بها فخافت أن تمنعها. فقضت نهارها قلقة مضطربة، تتردد بين الذهاب والبقاء حتى أمسى المساء وذهبت إلى فراشها، فجعلت تتقلب كأنها توسدت شوكا، فانقضى نصف الليل وهي في أرقها وقلقها، حتى اشتد بها الأمر ولم تعد تستطيع صبرا. فنهضت وارتدت بردائها وتقلدت خنجرها وانطلقت تطلب دار عثمان على عجل، وكان الوقت صيفا فجعلت طريقها في أطراف المدينة لئلا يراها أحد، وأرخت نقابها على وجهها.
وما كادت تسير بضع خطوات حتى رأت أشباحا تفرست فيهم، فعرفت من قيافتهم أنهم من بني أمية يهرعون بين راكب وراجل فرارا من المدينة كأنهم يطاردون، فسارت في حذاء الجدران مخافة أن يكون مروان فيهم فيعرفها حتى مروا. وطال بها المسير ولم تصل إلى دار عثمان لأنها كانت تجهل الطرق، فأرادت الرجوع إلى منزل العجوز فضلت الطريق إليها. وكان الفجر قد دنا فخيل إليها أنها إذا أشرفت على المدينة من مرتفع هناك تمكنت من تعيين محل الجامع، فإذا عرفته عرفت منزل عثمان. فتحولت إلى سور المدينة في مكان خارج البقيع وهناك أرض مهجورة قل من يمر بها، ولم تكد تدرك المكان حتى رأت بضعة عشر رجلا مهرولين من بعيد، وفيهم أناس يحملون لوحا عليه شيء، فحسبتهم من الهاربين يحملون أمتعتهم وأنهم إنما طلبوا الطريق البعيد خوفا من العيون، فتنحت إلى زقاق ضيق واستترت بنخلة بحيث ترى المارة ولا يرونها. فلما دنوا منها عرفت منهم أناسا منهم مروان وعبد الله بن الزبير وكانت قد رأته فيمن جاء للدفاع عن عثمان من أبناء الصحابة، فلما رأت مروان بالغت في الانزواء، وتفرست فيما يحملونه فإذا هو جثة مطروحة على باب وجمجمتها عارية تقرع الباب لإسراعهم في المسير من شدة الخوف، ورأت على الجمجمة لحية كبيرة غضة مضفرة عرفتها أنها لحية عثمان ، ونظرت إلى الثياب فإذا هي ثيابه ولا يزال الدم عليها، فلم تشك أن الجثة جثته. فخفق قلبها، وارتعدت فرائصها لما لحق بهذا الخليفة العظيم بعد موته، وأدركت أنهم خرجوا به ليلا ليدفنوه، ولبثت مستترة وراء النخلة تنظر إلى تلك الجنازة المحزنة، فلما وصلوا إلى حائط هناك يقال له «حش كوكب» حفروا له حفرة دفنوه فيها وهم يتلفتون يمينا وشمالا جزعا.
فصبرت حتى انتهوا وتفرقوا، فصعدت إلى مرتفع أطلت منه على المدينة فأشرفت على جامعها، فإذا هو بعيد عنها كثيرا، فجعلته وجهتها ونزلت تخترق الأسواق فلم تجد فيها إلا نفرا قليلا، فخافت أن يلاقيها محمد وهي على تلك الحال، وما زالت حتى وصلت منزل عثمان والشمس تملأ الفضاء فرأته موصدا، فالتمست باب بني حزم فرأته مغلقا أيضا، فتسمعت فلم تسمع صوتا فوقفت برهة ثم همت بالباب فقرعته فلم يجبها أحد، فأعادت القرع فأطل رجل من كوة عرفت أنه من خدم عثمان فلما رأته أومأت إليه أن يفتح، فلما عرفها فتح لها فدخلت وسألته عن نائلة فأشار إليها ألا تتكلم وسار أمامها، فتبعته فدخل بها حجرة رأت فيها نسوة أحطن بنائلة وهي ما زالت محلولة الشعر كما رأتها في منامها بالأمس. •••
فلما وقع نظر نائلة عليها صاحت قائلة: «ما الذي جاء بك يا أسماء يا حبيبتي؟! هل أتيت لتري أمير المؤمنين؟! لقد فاتك ما لاقاه من إكرام المسلمين له بعد موته.» قالت ذلك وأجهشت في البكاء.
أما أسماء فألقت نفسها على نائلة تبكي وتشهق وتقول: «إن خسارتك خسارة المسلمين كافة فقد فسد أمرهم بعد عثمان، لأنهم سفكوا دما بريئا بجوار قبر الرسول.»
فلطمت نائلة خديها بكفيها، فرأت أسماء إحدى يديها معصوبة فتذكرت أنها اليد التي أصيبت بالسيف فقطعت أناملها. وقالت نائلة: «يا ضيعة تعبك يا أسماء! ويا خيبة مسعاك! لقد خدعونا والله وغدروا بنا فأرسلوا أبناءهم يذبون عنه وبعثوا يقتلونه مع آخرين، ألم تري ابن أبي بكر يقبض على لحيته؟!»
فلما سمعت اسم محمد حزنت على فعله، ولم تجد ما تدافع به عنه فسكتت وهي تفكر في عبارة تعزيها بها فلم يفتح عليها، فقالت: «اصبري إن الله مع الصابرين، فقد كنت بالأمس تعزينني وتواسينني وأنت اليوم أولى بالمواساة وبالعزاء.»
فصاحت نائلة: «أواه يا أسماء! كيف أصبر وقد قتلوا عثمان شر قتلة؟! لقد طعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين ضربة أسرعت في العظم. والله لكأني أسمع صوته يرن في أذني وهو يقرأ القرآن ولا يبالي ما يفعلون، وأحسبك رأيتني وقد سقطت عليه أتقي عنه وهم يهمون به يريدون قطع رأسه حتى أتت هذه الفتاة بنت شيبة (وأشارت إلى فتاة بجانبها)، فألقت بنفسها عليه دفاعا عن أمير المؤمنين.»
ثم تنهدت تنهدا عميقا وقالت: «ولم يكتفوا بقتله في بيته وعلى فراشه، ولكنهم منعوا الناس أن يصلوا عليه وقالوا: «لا يدفن في مدافن المسلمين.» كأنه كفر أو كان من المشركين، جزاهم الله بما فعلوا! فظل في بيتنا ثلاثة أيام وجثته ملقاة بين أيدينا ونحن نبكيه ونبكي الإسلام من بعده، ولو لم نلق إخوانا من أهل المروءة يحملونه خلسة في الليل لظل غير مدفون. وكم أحزنني ما أصاب الذين قتلوا معه، فقد جروهم بأرجلهم ولعلهم ألقوهم على التلال لتأكلهم الكلاب! ولا أدري إذا كان أبوك المسكين قد أصابه مثل مصابهم.»
صفحة غير معروفة