ثم ما هي إلا ساعة زمان حتى انقلب الحال انقلابا فتحول سكون الجو اضطرابا، وتهاوت الكواكب انحدارا وانسيابا، فحيث التفت رأيت شهابا، لا يألو جيئة ولا ذهابا، وانصبت البروق والرعود على الأثر انصبابا، ثم كان مطر لم يعهد مثله انهمالا وانسكابا، فوقف «طوس» لا يتقدم، وقد رأى التسليم أسلم فلعثم من كلمات الاستغفار ما لعثم، وفي هذه الأثناء اصطدم به إنسان سار أعمته حوادث الجو فاستأخر الشيخ مجفلا. وقال: من هذا الأعمى الضال؟ قال: ابنك وطريدك «هاموس» يا مولاي. ثم وقع الفتى على صدر أبيه فاعتنقا، وعندئذ نزلت صاعقة من السماء فأهلكتهما وطار الببغاء، فسبحانه نحن إليه! ما لحي بقاء، وقصارى سوى الإله فناء.
الباب الثالث
الحوادث في طيبة
الفصل الأول
«رادريس» في السجن
كان لجنود الحرس الرمسيسي معسكر فيه ألفان من الجند يغيرون في آخر كل عام، فيردون إلى الجيش العام، ويؤخذ مكانهم عدد المثل من أهل الشجاعة والإقدام، وكان للحرس كبير ثابت لا يقبل التغيير، وكان يسكن هو وعائلته المعسكر له منه جانب وطرف، وحجر خاصة وغرف، وخدم من الجند وحشم كثير.
أما المعسكر فكان طبقات لا طبقة واحدة، مبنيا بالحجر لا بالخشب، خلافا للقاعدة، وكان بمرأى من ميدان «رمسيس» ومشرفا من بعض جهاته على الشارع الملوكي، ومقابلا من جهة ثالثة لدار الملك، وخالص الجهة الرابعة إلى النيل تغمر مياهه أسفلها وينظر من نوافذها إليه، وفي الجملة كان له الموقع الجميل الخطير، وكان الجانب المطل على النيل من المعسكر قسمين مفصولين تمام الانفصال، أحدهما خاص بكبير الحرس مرصد لسكناه، والآخر خلو من الجند مجعول مخازن وحواصل، إلا غرفة واحدة، كان يقيم بها رجل من عظماء الضباط، وكأنما حرم عليه براحها، فلم يكن يخرج منها ولا يدخلها عليه إنسان، وقد قام على بابها جنديان يحافظان عليه أن يبرح المكان، وكان هذا الضابط متقدم الميلاد، قد بلغ الستين أو كاد، وهو مع ذلك صحيح البنية قوي الجسم مرجو السواعد ليوم كفاح وجلاد، غير أنه كان يعلو وجهه الاصفرار، وتبدو عليه للضعف آثار، حتى كأن آلاما أدبية كانت تتملك نفسه العالية الأبية، وهو متكئ على بعض النوافذ يريد ليتسلى برؤية النيل ومائه، وأفقه وفضائه وواديه وسمائه، ويأبى الفكر إلا خوض بحار أشغاله وعنائه.
وكان الوقت الأصيل، وهي خير ساعات النيل، فما زال الضابط كذلك، يستجلي بدائع ما هنالك، حتى هجم الظلام يسد دون جمال الطبيعة المسالك، وعندئذ لم يدر إلا بالباب يدق دقا خفيفا، فقام من فوره إلى المصباح فأشعله، ثم التفت نحو الباب يقول: ليدخل الطارق، فانفتح الباب وأقبلت فتاة من أجمل النساء، وفي أثرها تمساح صغير يرنو بحدقتي خنزير، وفي أذنه قرط من الذهب منقوش بالمينة النادرة الثمينة، وفي كلتا يديه سوار من خالص النضار، مرصع بكريمات الأحجار، وهو مستأنس يسير مع ذلك الملك الكريم أينما سار.
وكان الضابط قد عرف الفتاة حال ظهورها فتغير لرؤيتها وجهه وانقطب، ونفر وجدانه من الغضب. أما هي فلم تلق لتغيره بالا، بل كانت تتكلف الهدو والسكينة، وتتظاهر بكمال الطمأنينة، وتتقدم هاشة باشة، وهي تقول: أنا يا قرين أبي العزيز «آرا»، وهذا تمساحي نجاة، رأيت أن يزورك معي ليكون اسمه لك فألا، ولتتقي بدعائه شر ما تخبئ للناس الأيام. قال: الزيارة مشكورة يا «آرا»، ولكن ما لك الآن وما لي؟ فما أراك جئت إلا لتسخري من حالي، ولتزيدي في أوجاعي وأوجالي. قالت: وما الذي يريك ذلك؟ قال: الذي أراني السجن من غير ذنب جنيت. قالت: فلأنت إذن في عذاب أليم. قال: وهل بلغ من استبدادكم يا أصحاب الكهنة أن تنكروا على النفوس البريئة أن تمج السجن.
قالت: دعنا من هذا كله، ولندخل في جد الموضوع، فإني ما أتيت إلا لأذكرك أن من وراء التهمة غداة تثبت زلزالا لحياتك العالية، وهدما لبنيان أعمالك الباذخ بالمجد والفخار. قال: ومتى احتجت إلى مثلك من يذكرني عواقب الأمور؟ قالت وهي تبتسم: ولكنك محتاج إلى من يقيلك من تهمة الخيانة التي من ورائها الفضيحة والتجريد، والنفي المديد، إلى مكان بعيد. قال : وماذا تريدين بكل هاته الإشارات؟ صرحي وأوجزي. قالت: أريد أن تعلم أني قادرة على فك أسرك، وإنقاذك من مضيق أمرك، ومستعدة للسعي في ذلك، غير سائلة عليه إلا أيسر الأجر. قال: وما ذاك؟ قالت: أن تحلف لي برأس الملك أنك إن عدت إلى مناصبك ووظائفك التي منها العضوية في مجلس المملكة الأعلى، وعرض على المجلس أمر النظر في جواز خطبة عذراء الهند أو عدمه تلزم جانب الحياد عند المناقشة، ثم تحتال على الانسحاب، فلا تكون موجودا في ساعة أخذ الآراء. قال: السجن أحب إلي يا «آرا»، فارجعي بسلام، ولا تعاودي إن كان ليس عندك غير هذا الكلام. قالت: إذن فالذنب لنفسك لا لغيرها، والعتب عليها وحدها في أمرها، وإني أدعك تراجعها الآن، وسأعود غدا لآخذ جوابك البات في الأمر، ثم إنها مالت قليلا تخلص ذيل ثوبها، من يدي نجاة الذي كان يجاذبها إياه، كالمداعب، حتى إذا تخلص مشت نحو الباب مسرعة، وتبعها «رادريس» فأغلقه وراءها.
صفحة غير معروفة