ففتح الكبتن عينيه لأنه كان أغمضهما لئلا يرى بهما عصاة الفلاحين تأخذ بقية حياته، ولما شعر بتأثر الفلاح قال له: أيها الإنسان، إني أناشدك بالشفقة أن ترحمني وتسقيني قليلا من الماء، فلم يفهم الفلاح قوله بل ظل يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ففطن بول إلى جهل الفلاح بلغته، فأشار له بأنه يريد أن يشرب، فأسرع الفلاح إلى قناة وأخذ في راحتيه قليلا من الماء ثم وضعه في فمه، فقال الكبتن في نفسه: يا ربي، إن الماء قذر ويديه قذرتان فكيف أشرب؟ ألا يوجد عندهم (فلتر) مرشح؟
ولكنه أحس بانتعاش فأشار بأن يعطيه أيضا قليلا من الماء، فهرول الفلاح يلبي الطلب.
ولكن كان الكبتن وصل إلى نقطة الموت، فأخرج من جيبه صليبا صغيرا وضمه إلى صدره ثم قال: آه يا أمي العزيزة، إلى اللقاء في السماء! إلى اللقاء هناك.
ثم اغرورقت عيناه بالدمع وقال: يا إلهي كيف أموت هذه الميتة الشنيعة؟ وفاضت روحه وهو قابض على الصليب وشفتاه تتحركان باسم أمه العزيزة.
أما الفلاح فأخذ يقلب كفيه ويردد دائما: إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت من السابقين ونحن من اللاحقين!
وبعد لحظة رأى غبارا يتعالى، فوقف على رأس الجثة ينظر هذا الغبار، ثم تبينه؛ فإذا هو جنود الاحتلال قادمين بسرعة البرق.
فارتبك المسكين في نفسه، وخاف أن يتهموه بقتله، ففر إلى مغارة أخفته عن العيون، إلا أن أحد الجنود شاهده وهو يلجها فاقتفى أثره، ولما رآه ضربه بقبضة البندقية ضربة هائلة على رأسه، ولم يكتف بذلك بل جرد «السنكة» وطعنه بها طعنات كثيرة، فمات الرجل شهيد مروءته وهو يصيح: مظلوم يا مسلمين والنبي مظلوم. أما باقي الجند فقد كانوا وصلوا إلى مكان الكبتن بول بقيادة الكبتن بوستك وهو بهيئته المتقدمة المضحكة، ولما رأوه ميتا رفعوا قبعاتهم باحترام، وركعوا على ركبهم بخشوع، وصلوا بحرقة صلاة طويلة. ثم ترك بوستك جنديين لحراسة الجثة، وواصل السير حتى جمع الضباط وهم في أسوأ حالة وعاد بهم وبالجثة إلى المعسكر.
الفصل الخامس
في قصر الدوبارة
صفحة غير معروفة