لكن، على حد تعبير دورنباكر: «واجهنا الفشل بعدم قبوله؛ فقلنا ببساطة: «نحن أفضل من المعدات، سننهض من كبوتنا ونواصل العمل».» وسواء أنجحت عملية الإطلاق أم فشلت، كان من المقرر أن يقام حفل في كلايتون هاوس؛ حيث «سيحظى سكان مانهاتن بقدر من الراحة بعد التوتر الذي أصابهم»، ثم يعود الجميع إلى العمل مجددا. ويواصل دورنباكر حديثه قائلا: «سننصب الصاروخ مرة أخرى على منصة الإطلاق، وإذا كان الأمر يستدعي العمل ثمانين ساعة أسبوعيا فلنعمل إذن.»
2
مرت أسابيع الإعداد وبدأ العد التنازلي الذي كان يسبق عملية الإطلاق الاستاتيكية من المنصة، وبعدها ببضعة أيام أجريت عملية الإطلاق الفعلية. استغرقت عملية العد أربعمائة دقيقة، وتخللتها أحداث كثيرة، منها عمليات فحص المعدات على الأرض وعلى متن الصاروخ «ثور». وكانت عملية العد تتوقف في حال ظهور مشكلة حتى ينتهوا من إصلاحها، وهو ما كان يستغرق بعض الوقت.
كانوا يوصلون الصاروخ بمصدر طاقة ثم يجرون عمليات الفحص، وكان نظام التوجيه يتسبب في الكثير من التأخيرات. وخلال إحدى فترات إيقاف العد الطويلة، لحل مشكلة لم تكن تقع في مجال تخصصه، خرج بيل إزل ليلعب تسع جولات جولف، وعندما عاد لم يجد شيئا قد تغير. واستغل بعض العاملين فترات التأخير الطويلة كفرص للإغفاء، كانوا يغفون في سيارة أو يرقدون فوق لوحة رسم في غرفة كانت ملاصقة لمركز الإطلاق . لكن، في حال كانت المشكلة خطيرة فعلا، كان المسئول عن عملية الاختبار يلغي عملية الإطلاق. ويتذكر إزل قائلا: «كانت بعض عمليات العد تستغرق ثلاثين ساعة قبل أن نلغيها.» وبإصلاح الخطأ في نهاية الأمر، كان العد يستأنف مجددا من البداية، عند الثانية 400 من وقت الإطلاق، مع إمكانية وقوع الكثير من الأخطاء.
كان الصاروخ 103 جاهزا للإطلاق في منتصف مايو عام 1957، وكان الجنرال شريفر حاضرا، ومعه روب متلر من شركة «رامو وولدريدج»، والكولونيل إد هول مدير المشروع. وفي برج المراقبة، ارتدى بعض الأفراد جوارب وقمصانا حمراء لجلب الحظ، وهو تقليد يرجع إلى أيام مركز وايت ساندز، وقبل خمس دقائق من عملية الإطلاق، انفجر الصاروخ بينما كان لا يزال منصوبا على منصة الإطلاق. وطفرت الدموع من أعين الحاضرين في برج المراقبة، وفيهم هول ومتلر. كان على وشك الانطلاق تماما، ثم حدث ما حدث.
كان الخطأ هذه المرة يرجع إلى صمام الوقود الرئيسي؛ فبعد فترة قصيرة من تكييف الضغط في خزان الوقود، الذي سيغذي المضخات التوربينية بوقود الكيروسين، أدى خلل في صمام الوقود الرئيسي إلى تزايد الضغط داخل الخزان، ومن ثم إلى انفجاره. ومثلما حدث في انفجار الصاروخ 101 في يناير، لم يكن من الصعب إصلاح المشكلة الأساسية؛ لكن الضرر الذي لحق بمنصة الإطلاق جعل الأمر مختلفا هذه المرة، ولم يصبح الصاروخ جاهزا لإجراء عملية إطلاق أخرى إلا في شهر أغسطس. وبينما كان الصاروخ «ثور» يمر بهذه السلسلة من الإخفاقات المتكررة، كان فريق فون براون القائم على تطوير الصاروخ «جوبيتر» يعتمد على خبرته التي لا تضاهى ويحقق نجاحا.
نجح الفريق في إطلاق صاروخ «جوبيتر» للمرة الأولى في الأول من مارس. انطلق الصاروخ نحو السماء في فترة ما بعد الظهيرة، وارتفع محلقا لمدة أربع وسبعين ثانية دون وقوع أي أخطاء، ثم تحطم فجأة في انفجار هائل؛ فمع صعوده إلى طبقة الجو العليا، كان عادم الصاروخ قد تمدد حتى وصل إلى قاعدة الصاروخ، وأدت درجات الحرارة المرتفعة في الذيل إلى وقوع الانفجار. واستدعت هذه المشكلة وضع درع واق من اللهب مصنوع من الألياف الزجاجية مع عزل عدد من الوصلات والأسلاك الكهربية أو تغيير موضعها. ولكن، كان من الواضح بالفعل أن تصميم الصاروخ الأساسي سليم.
أجريت محاولة أخرى في أواخر شهر أبريل، وحلق الصاروخ «جوبيتر» هذه المرة لأكثر من تسعين ثانية، لكنه خرج عن السيطرة وانفجر مجددا. وكان تخضخض الوقود الدفعي في الخزانات الكبيرة قد تسبب في فشل عملية الإطلاق هذه المرة؛ مما أدى إلى توليد قوى دفع هائلة لم يستطع نظام التوجيه التحكم فيها. وعلى حد تعبير الجنرال مداريس: «صنعنا حزمة كاملة من شبكة أسلاك غليظة على شكل عبوات أسطوانية كبيرة تشبه «عبوات الجعة»، ثم وضعنا عوامات داخلها بحيث تبقى العبوات طافية على السطح، وملأنا السطح العلوي لكل خزان بها.» مما أدى إلى وقف التخضخض وأعطى نتائج سريعة.
في آخر يوم في شهر مايو، بلغ ارتفاع الصاروخ التالي 1489 ميلا، وكان من الممكن أن يبلغ الصاروخ ارتفاعا أكبر من ذلك، بيد أن مصمميه كانوا قد زودوه بمعدات اختبار إضافية؛ مما جعله ثقيلا. ومع ذلك، في أعقاب فشل محاولات فون براون الأخيرة، كان هذا إنجازا حقيقيا؛ فهذه هي المحاولة الناجحة الأولى لإطلاق أول صاروخ باليستي متوسط المدى. ولإثبات أن هذه المحاولة لم تكن محض مصادفة، أجرى طاقم الإطلاق محاولة إطلاق رابعة بعد محاولة الإطلاق الأولى بثلاثة أشهر، وحققت نجاحا مماثلا.
تكشفت الحكمة وراء بناء الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى؛ لأن الصاروخ «أطلس» كان يواجه مشكلات؛ فقد حلق الصاروخ «أطلس» للمرة الأولى في 11 يونيو، لكن لم يستمر ذلك أكثر من اثنتين وعشرين ثانية، قبل أن يفقد محركه قوة الدفع وينحرف عن مساره خارجا عن نطاق السيطرة. ووقع نفس السيناريو في محاولة فاشلة ثانية في أواخر شهر سبتمبر، ولكن الصاروخ «ثور» كان قد حقق آنذاك نجاحا في عملية إطلاقه، وهو ما حدث في 20 سبتمبر، عند محاولة الإطلاق الرابعة، التي بلغ الصاروخ فيها مدى تجاوز 1250 ميلا. وكان الصاروخ محملا بمعدات كثيرة للغاية، وهو ما حد من مداه، لكن عملية الإطلاق كانت مرضية على أية حال؛ وبذلك أصبح في البلاد آنذاك صاروخان باليستيان متوسطا المدى ينطلقان كما ينبغي.
صفحة غير معروفة