بالإضافة إلى ذلك، كان القانون يستهدف شركة «إيه تي آند تي» مباشرة، وهي شركة كبرى كانت مسئولة عن تشغيل الجانب الأعظم من نظام الهواتف على سبيل الاحتكار المنظم. في عام 1953، خططت الشركة لمد كابل تحت البحر ينقل ستا وثلاثين محادثة تليفونية متزامنة، وتعاملت مع الحكومة البريطانية مباشرة بدلا من الاعتماد على وسيط مثل وزارة الخارجية. كانت الشركة في أهبة استعدادها لبناء نظام الأقمار الصناعية للاتصالات الخاص بها وتشغيله، وكان لديها عرض محدد يتضمن خمسين قمرا من أقمار تلستار لضمان أن يظل قمر واحد على الأقل في مجال الرؤية دائما. لكن، لم تكن إدارة كينيدي تعتزم ترك هذا الكيان الضخم يقصي منافسيه المحتملين عن مضمار المنافسة. قال السيناتور الأمريكي إستس كفاوفر، الذي كان مهتما بالمسألة عن كثب، إن ترك «إيه تي آند تي» تمضي في طريقها «لم يكن بالأمر اللائق مثلما لم يكن من اللائق تعريف الاقتصاد الحر مثل فيل يرقص بين الفراخ، وهو يصيح قائلا: «كل يبحث عن مصلحته».»
كان من بين أبرز هذه الشركات الصغيرة، أو «الفراخ»، شركة «هيوز إيركرافت»، التي كان مديرها الهندسي هارولد روزن يغذي آمال وضع نظام يتخطى «تلستار». كان نموذج «تلستار» يتطلب أقمارا صناعية تدور في مدار فضائي على ارتفاعات تصل إلى بضعة آلاف من الأميال، حيث تكمل دورة كاملة حول الأرض كل بضع ساعات. كان هذا الأسلوب يسير على خطى الأسلوب التدريجي الحذر لنظام بيل؛ إذ كانت هذه المدارات تقع في نطاق قدرة صواريخ الإطلاق فئة «ثور»، التي كان يتوقع مديرو النظام استخدامها. لكن، نظرا لأن أقمارهم الصناعية كانت ستتحرك عبر السماء، فإن النظام كان يتطلب تليسكوبات لاسلكية قابلة للتوجيه بالكامل في المحطات الأرضية، وهو ما كان يعد أمرا معقدا ومكلفا. كان هوائي أندوفر، على سبيل المثال، يزن 370 طنا، وكان يجب أن يدور حول محور ليتمكن من تتبع أية مركبة فضائية عند عبورها السماء في أي اتجاه.
كان روزن يرغب في الإقدام على مخاطرة كبيرة بإطلاق مركبته الفضائية في مدار جيوتزامني، على ارتفاع 22300 ميلا فوق خط الاستواء. كانت الأقمار ستستغرق أربعا وعشرين ساعة عند ذلك الارتفاع للدوران حول الأرض، وستبدو كما لو كانت تحوم بلا حركة فوق مناطق معينة. قد تشير الهوائيات في المحطات الأرضية بصفة مستمرة في اتجاه ثابت لأحد الأقمار، وهو ما يجعل هذه التجهيزات أبسط وأقل تكلفة بكثير. لم يكن روزن أيضا في حاجة إلى عشرات المركبات المدارية التي كانت «إيه تي آند تي» تملكها؛ كانت كل مركبة مدارية جيوتزامنية تستطيع أن ترى في مجال رؤيتها نصف سطح الأرض تقريبا، وكان في مقدورها الاتصال بمحطات أرضية يفصلها عنها ما يزيد على 11 ألف ميل؛ كانت ثلاثة أقمار صناعية فقط من هذا النوع تكفي لتوفير شبكة عالمية كاملة.
كان الكاتب العلمي آرثر سي كلارك قد اقترح هذا النظام في وقت سابق يرجع إلى عام 1945. في قفزة بارعة نحو المستقبل، رأى كلارك أن قدرة مقدارها 1200 وات في أجهزة الإرسال المحمولة عبر الفضاء كانت ستسمح «لقطوع مكافئة يبلغ قطرها قدما تقريبا» بتلقي الإشارات على الأرض. كانت الطاقة الشمسية ستوفر مصدرا للطاقة، على الرغم من أن الخلية الشمسية (التي هي، للمفارقة، أحد منتجات «بيل لابس») ظهرت بعدها بعقد، رأى أملا في «التطورات الكهروضوئية». كان يرى الأقمار الصناعية للاتصالات في صورة محطات فضائية مأهولة، كل منها تضم طاقما على متنها لاستبدال الصمامات المفرغة عند تآكلها.
على الرغم من أن كلارك استلهم فكرته من الصاروخ «في-2» الألماني، ومن خلفيته أيام الحرب كضابط رادار، كانت ورقته البحثية نوعا من الاستشراف المستقبلي التأملي على غرار هيرمان أوبيرت وقسطنطين تسيولكوفسكي. لكن، على عكس طبيعة تكهناتهما التي تقوم على التجربة والخطأ، أصاب كلارك تماما عند توقع الاستخدام التجاري الأكثر أهمية للفضاء، مع توفير تفاصيل فنية مبدئية. كان في مقدوره حتى الحصول على براءة اختراع لفكرته. على وجه التحديد، بينما كانت الرؤى الأخرى تكتب عن رحلات إلى الكواكب البعيدة، رأى كلارك أن مستقبل رواد الفضاء كان يتضمن مركبة تحوم فوق موضع واحد، ومن ثم لا تذهب فعليا إلى أي مكان.
مع ذلك، نشر مقال كلارك في مجلة «وايرلس وورلد»، وهي مجلة بريطانية غير مقروءة على نطاق واسع. لم يعلم جون بيرس، الذي كان يعمل في «بيل لابس»، عنها شيئا إلا عندما كان قد قطع شوطا طويلا في دراساته . أعاد كلارك عرض أفكاره في كتابه الأكثر مبيعا في عام 1952، «استكشاف الفضاء»، بيد أن بيرس فاته هذا الكتاب، أيضا. كان مزاجه في القراءة يميل أكثر إلى وقائع معهد مهندسي الإذاعة. لكن، لم يمض سوى أربعة عشر عاما فقط حتى حدثت تطورات في مجالي الإلكترونيات وعلم الصواريخ؛ مما أتاح لرؤية كلارك أن تدخل حيز التنفيذ.
في صباح غائم في أغسطس 1959، انطلق الصاروخ «ثور-إيبل» عاليا من كيب كانافيرال، حاملا مركبة فضائية زنة 142 رطلا، وهي إكسبلورار 6، إلى مدار مستطيل يتراوح ارتفاعه ما بين 157 و26400 ميل. لم تكن المركبة قمرا صناعيا للاتصالات، بل كانت مهمتها تتضمن إجراء دراسات مفصلة حول الفضاء قرب الأرض، بما في ذلك بيئة الفضاء الإشعاعية. لكن، كانت المركبة تتضمن خلايا شمسية ودوائر إلكترونية صلبة تتسم بالكفاءة، وكان كلا المكونين ضروريا في عمليات الاتصال. كان أقصى ارتفاع لها، وهو 26400 ميل، أعلى من المدار الجيوتزامني. وكان في مقدور صاروخ صغير يعمل بالوقود الصلب، يطلق في اللحظة الملائمة، الدوران في المدار وتحويل «إكسبلورار 6» إلى قمر صناعي حقيقي يعمل على مدى أربع وعشرين ساعة.
كان نجاح المركبة مصدر تشجيع بالغ لروزن، الذي كان يرسخ نموذجه بالفعل. قدم روزن المركبة إلى البنتاجون؛ فرفضوها. ثم خاطب ناسا، فأبرمت معه عقدا في أغسطس 1961، وأطلقت على المركبة اسم «سينكوم». على غرار إكو، كان من المقرر أن تثبت المركبة مبدأ لا أن تصبح رابط اتصالات فعليا. كان وزنها لا يزيد عن واحد وسبعين رطلا، وكانت تشتمل على قناة هاتفية ثنائية الاتجاه. لكن، مرة أخرى على غرار «إكو»، عزز المشروع من مشاركة ناسا في مجال اتصالات الأقمار الصناعية، مانحا «هيوز إيركرافت» الوسائل للتنافس مع «إيه تي آند تي» على أرضها.
انطلق قمر «سينكوم 1» أعلى الصاروخ «ثور-دلتا» في فبراير 1963، وحلق على الارتفاع المخطط له. أدار مؤقت على متن القمر محرك ذروة الارتفاع، وبعدها بعشرين ثانية انفجر خزان نيتروجين متسببا في تدمير القمر. انطلق «سينكوم 2» في يوليو، ونجح في مهمته؛ إذ بلغ مداره المخطط له وجرى تشغيل معداته الإلكترونية بنجاح . ثم بعد ذلك بعام، أطلقت ناسا «سينكوم 3» أعلى خط التاريخ الدولي، ليكون جاهزا لتقديم خدمة مبدئية عبر المحيط الهادئ. وفي إطار هذا العالم التجاري المزدهر، وجد مصممو «سينكوم» أنفسهم في خلاف مع شبكة «إن بي سي» التليفزيونية.
كان هذا القمر هو أول قمر جيوتزامني له القدرة على نقل بث تليفزيوني، وبلغ مدارا فضائيا في الوقت المناسب لتغطية دورة الألعاب الأولمبية لعام 1964، في بث مباشر من طوكيو. على الرغم من ذلك، كانت «إن بي سي» قد حصلت على حقوق حصرية لهذه التغطية، وكانت تخطط لعرض شرائط فيديو منقولة عبر طائرة نفاثة، بينما تتولى جهات راعية مثل شركة «شيلتز بير» سداد النفقات. مارس المسئولون الفيدراليون ضغوطا على «إن بي سي»، وفي أعقاب مكالمة هاتفية من وكيل وزارة الخارجية أفيريل هاريمان، وافق رئيس مجلس الإدارة ديفيد سارنوف على إذاعة خمس عشرة دقيقة يوميا من تغطية القمر الصناعي، في الساعة السابعة صباحا.
صفحة غير معروفة