كانت «روكيت داين» لديها غرفة اختبارات متخصصة، استطاع كاستنهولتس أن يدرس فيها هذه المكونات في الفراغ. وضع مهندسوه ثمانية من خطوط الوقود في هذه الغرفة، وأداروها في ظل ظروف تحاكي ظروف تشغيل «جيه-2» في الفضاء، ورأوا ثمانيتها جميعا تنكسر؛ ومن ثم، كان هذا الخط هو المسئول، حيث انكسر في الفضاء وتسبب في توقف المحركات. بدا من الواضح إذن أن المشكلة عشوائية، تحدث في بعض محركات «جيه-2» ولا تحدث في أخرى. مع ذلك، كان إصلاح المشكلة بسيطا، وهو نوع مختلف من أنابيب الصلب الذي لا يصدأ. كان هذا التعديل مهما على الرغم من بساطته، وحال دون انفجار المحرك مجددا؛ لكن بإصلاح هذه المشكلة، استطاعوا المضي قدما في مشروع «أبولو» بكامل طاقتهم.
كان من المقرر أن تحمل الرحلة التالية للصاروخ «ساتورن 5»، وهي الرحلة الثالثة، رواد فضاء، وكانت ناسا تتوقع إطلاق مركبة «أبولو» ومركبة الإنزال القمري. وكان مقررا أن يحمل هذا الصاروخ بعد ذلك جميع المعدات اللازمة لتنفيذ عملية هبوط على سطح القمر؛ لكن، لم يكن الصاروخ سيتوجه إلى القمر، بل كان من المقرر أن تظل هذه المركبات في مدار أرضي لإجراء تدريبات على عمليات الالتقاء استعدادا للحدث الرئيسي. لكن خلال الصيف، صار من الواضح أن مركبة الإنزال لن تصبح جاهزة للطيران لعدة أشهر؛ ومع ذلك، كان الصاروخ «ساتورن 5» الثالث قيد التجهيز في كيب كانافيرال، فضلا عن مركبة «أبولو» الفضائية المتعلقة به.
في أغسطس، اقترح جورج لو - مدير «أبولو» في هيوستن - التحليق بجرأة وإقدام باستخدام ذلك المزيج، والتوجه إلى القمر. سرعان ما نال لو دعم رئيسه روبرت جيلروث، مدير مركز المركبات الفضائية المأهولة، فضلا عن قادة آخرين مهمين، وفيهم فون براون. لكن، كان الأمر سيكون مختلفا تماما لو أنه حظي بموافقة رسمية من مقر ناسا في واشنطن؛ حيث لم تكن خطة لو قد تبلورت بعد. لم يكن البرنامج قد أجرى بعد المهمة المستهدفة لرواد الفضاء الثلاثة الذين لقوا حتفهم في الحريق، ألا وهي التحليق بالمركبة الفضائية في مدار أرضي من خلال إطلاقها على متن الصاروخ «ساتورن 1-بي»، دون مركبة الإنزال القمري. كانت هذه البعثة مدرجة على جدول الأعمال باسم «أبولو 7»، لكن كان يتوجب نجاحها قبل أن يتعهد أي شخص فعليا بالذهاب إلى القمر.
في هذه الأثناء، وتحديدا في سبتمبر، تلقت ناسا دفعة تشجيعية من موسكو بمنحها مركبة «زوند 5»؛ أظهرت هذه المركبة تفوقا كبيرا على مركبة «زوند 4»، قبل ذلك في عام 1968، حيث طافت المركبة حول القمر، ولم يكن يفصلها عنه إلا 1200 ميل. ثم بدأت عودتها، مجرية مناورات للتحليق في المسار المطلوب في الغلاف الجوي وبلوغ الارتفاع الصحيح. في طريق العودة، التقطت المركبة صورة جيدة للأرض. أسفر خطأ من قبل أحد المراقبين الأرضيين مجددا عن إجراء معاودة الولوج في مسار حاد للغاية، بيد أن المركبة سقطت في المحيط الهندي واسترجعت بعد ذلك. تتبع السير برنارد لوفيل رحلة المركبة في مرصد جودريل بانك، وعندما وصلت المركبة إلى موسكو، كانت تحمل سلحفاتين عادتا بسلام. أشار جيمس ويب إلى هذه الرحلة التي انبهر بها كثيرا بوصفها «أهم إثبات قدمته أية دولة حتى الآن على قدرات الفضاء الشاملة».
بعدها بشهرين، أبلت مركبة «زوند 6» بلاء أفضل بنجاحها في تنفيذ رحلة عودتها المخطط لها. التزمت المركبة بالممر بدقة، حيث انحدرت لمسافة ثمانية وعشرين ميلا من سطح الأرض، بينما تباطأت سرعتها إلى 4,7 أميال في الثانية، وهو ما كان يقل عن السرعة المدارية. عادت لفترة وجيزة إلى الفضاء، ثم عاودت الولوج مرة ثانية إلى المجال الجوي؛ حيث هبطت داخل منطقة الاسترجاع المعتادة في وسط آسيا. واجهت المركبة مشكلات أثناء الرحلة، كان من بينها حشية مطاطية تالفة أدت إلى فقدان الضغط في القمرة، فضلا عن مشكلات في المظلة أدت إلى ارتطام المركبة بدلا من هبوطها بخفة وتمهل؛ لكن، نجحت المركبة في التحليق حول القمر، على مقربة 1500 ميل تقريبا، وعادت بصور ممتازة تؤكد ذلك، واستطاعت إنجاز مهمتها الأكثر صعوبة، وهي عملية معاودة الولوج الثانية الناجحة.
أثبتت بعثة «زوند» بذلك صلاحية جميع المواصفات اللازمة لإجراء رحلة مأهولة وآمنة للدوران حول القمر، وإن لم يكن ذلك خلال البعثة نفسها. لكن، باتت الطريق مفتوحة أمام موسكو لوضع تصور عام والتعهد بتنفيذ بعثة مأهولة، ربما في الرحلة التالية لذلك مباشرة. تأكيدا لجاهزيتهم، أكمل السوفييت أيضا بعثة ناجحة بمركبة «سويوز» في أكتوبر؛ حيث قضى رائد الفضاء جورجيو بيريجوفوي ثلاثة أيام في مدار فضائي. لم يكن صاروخ كوروليف العظيم «إن-1» جاهزا فحسب، بل كان موجودا في تيوراتام. أنتج النموذج الأول الجاهز للإطلاق في شهر مايو من العام الماضي، ووصل إلى منصة الإطلاق في شهر نوفمبر.
لكن ناسا كانت جاهزة أيضا. حقق «أبولو 7» نجاحا خاصا به في شهر أكتوبر من هذا العام نفسه؛ حيث قاد كل من والي شيرا ووالت كانينجهام ودون أيزل مركبة «أبولو» في مدار فضائي، ومكثوا أحد عشر يوما في الفضاء. أزال هذا النجاح الأخير آثار حريق «أبولو»، وأسفرت في غضون أسابيع عن التعهد الذي كان جورج لو يسعى إليه، وتقرر أن تذهب الرحلة التالية ، «أبولو 8»، فعليا إلى القمر. في الرحلة الأولى في تاريخ البشرية لتحقيق هذا المقصد الذي عقد عليه كثير من الآمال، لم تكتف المركبة بالدوران فقط على غرار مركبة «زوند»، بل أدارت محركها لدخول مدار قمري، حيث طافت حول القمر عشر مرات قبل إشعال صاروخها مجددا للابتعاد عن القمر والعودة إلى الأرض.
هل تذكر أين كنت في صبيحة يوم 21 ديسمبر 1968؟ في هذا اليوم، كان فرانك بورمان وجيمس لوفيل وويليام آندرز، جالسين في مقاعدهم كرواد فضاء على متن مركبتهم الفضائية، أعلى الصاروخ «ساتورن 5»، استعدادا لبدء رحلة أسفرت عن فوز أمريكا في السباق ووضعها في المقدمة لحقبة طويلة قادمة. في هذا اليوم أيضا، كان والتر كرونكايت يذيع التغطية التليفزيونية المباشرة محافظا على هدوئه واتزانه ورباطة جأشه.
ثم حانت لحظة الإطلاق، فاعترت الجميع - حتى كرونكايت - حالة من الحماس تأثرا بروعة الحدث. ردد جاك كينج من مركز قيادة البعثة في ناسا: «اثنا عشر، أحد عشر، عشرة، تسعة. بدأنا ترتيب الإشعال. المحركات مدارة. أربعة، ثلاثة، اثنان». وأضاف كرونكايت قائلا: «ها هي في طريقها إلى الارتفاع، وها أنتم ترون النيران.»
6
صفحة غير معروفة