الفصل الثامن
علامة فارقة
سباق رحلات الفضاء المأهولة إلى القمر
عندما انطلق جون جلين رود في مدار فضائي في فبراير 1962، رأى الشمس ضخمة وساطعة، لم يكن لونها أصفر بل كان أبيض مائلا إلى الزرقة. غارت الشمس في اتجاه الأفق الساطع. وبينما هي تقترب، تحرك ظل أسود عبر الأرض وترك سطحها في ظلام. بدا الأفق بعدها أكثر وضوحا بكثير، مع تحول لونه من اللون الأبيض تقريبا إلى لون قوس قزح لامع امتد على جانبي الشمس لمئات الأميال، بطول انحناءة سطح الأرض.
هنا كانت الشمس نفسها مسطحة وذات لون أصفر مميز قبل أن تغيب عن الأنظار، كانت فوقها حلقات مشعة بلون برتقالي قزحي وذهبي لامع، تميزها ظلال السحب البعيدة، التي كانت بالألوان البني المائل إلى الحمرة، والأزرق الفاتح، والأزرق الداكن، ولون أرجواني فخم ورائع ممزوج بسواد الفضاء. كانت الألوان محددة بوضوح ومتوهجة ومفعمة بالضوء. مع استمرار تحليق مركبة فضاء جلين في الظل، ضاق نطاق غروب الشمس وحلقات الألوان، لكن ظلت حلقة ضوء ظاهرة لعدة دقائق، بلون أزرق رائع، حتى تحول كذلك اللون الأزرق للغسق إلى اللون الأسود.
ثم رأى يراعات مع شروق الشمس. وكانت حوله في كل مكان مجموعات هائلة من الجسيمات الصغيرة التي كانت تعكس الضوء، حتى دخل النطاق الكامل لضوء الشمس ولم يستطع تمييزها وسط ضوء الشمس الساطع، لكنه رأى اليراعات مرارا وتكرارا خلال لحظات شروق الشمس التالية، أعدادا هائلة منها كانت تبدو مثل رقاقات الثلج المضيئة؛ لم تكن هذه إلا قطعا صغيرة من الثلج تزحزحت عن سطح الكبسولة البارد، لكن جلين لم يكن يعرف هذا في البداية؛ كان الأمر بالنسبة إليه لغزا من ألغاز الفضاء.
تلت ذلك لحظة من الخطر، عندما رأى مسئولو محطة التحكم الأرضية إشارة إلى أن الدرع الحراري ربما انفصل قبل أوانه؛ إذا تسربت الغازات الساخنة وراء الدرع الواقي أثناء إعادة الولوج إلى المجال الجوي، كانت الغازات ستحرق جلين حيا. كان ثمة صاروخ ارتكاسي كابح مربوط إزاء الدرع، ومشدود الوثاق من خلال أربطة، ونبه مسئولو محطة التحكم الأرضية جلين إلى ألا يتخلص من حزمة هذا الصاروخ بعد إطلاق الصواريخ الارتكاسية الكابحة، بل يحتفظ بها كما هي. ساعدت الأربطة في إبقاء الدرع الحراري في موضعه. بيد أن الإشارة كانت خاطئة؛ لم تكن ثمة مشكلة في الدرع، وحمى الدرع المركبة أثناء ولوج الغلاف الجوي لإتمام عملية هبوط آمنة على سطح الماء.
نشأ جون جلين وسط البلدات الصغيرة في أوهايو، وهو ما أمده بعقيدة إيمانية قوية والتزام حقيقي وصادق نحو العائلة والوطن. أصبح طيارا حربيا في قوات المارينز؛ حيث شارك فيما يقرب من ستين مهمة في جزر مارشال خلال الحرب العالمية الثانية، ثم تخطى هذا الرقم في كوريا. هذه الخلفية أهلت جلين لتلقي تدريب كطيار اختبار. في عام 1957، بينما كان مسئول مشاريع في مشروع الطائرة «إف 8 يو كروسيدر» الجديدة، سجل جلين رقما قياسيا بالتحليق من لوس أنجلوس إلى نيويورك في أقل من ثلاث ساعات ونصف . تزوج جلين خلال مسيرته المهنية من حبيبته التي تقطن في مسقط رأسه، وحصل على وسام صليب الطيران المميز خمس مرات، ووصل إلى رتبة مقدم في الجيش.
لم تكن رحلة جلين المدارية قد بلغت بعد أفضل الرحلات المدارية الروسية؛ حيث كان أوجست جيرمان تيتوف، مساعد جاجارين، قد قضى أربعا وعشرين ساعة كاملة في الفضاء، وهو ما يمثل تفوقا واضحا على المدارات الثلاثة التي بلغها جلين والساعات الخمس التي قضاها في الفضاء. بيد أن بعثة جلين رسخت موقف أمريكا في سباق الفضاء، وفعلت البلاد كل ما في وسعها عند استقباله. استقل الرئيس كينيدي، الذي كان قد استقبل ألان شيبارد في البيت الأبيض في شهر مايو الماضي، طائرته متجها إلى كيب كانافيرال للترحيب بجلين في مقر عمله. قال كينيدي، الذي كان هو نفسه ضابطا في البحرية: «هذا محيط جديد، وأعتقد أن على الولايات المتحدة الإبحار فيه.»
في واشنطن، أدلى جلين بخطاب في جلسة مشتركة لأعضاء الكونجرس، وهو شرف لا يتأتى إلا للقليل من رؤساء الدول. ثم انتقل الموكب إلى مانهاتن، حيث احتشد أربعة ملايين شخص تعالت أصواتهم بصيحات التهليل والترحيب. سار الموكب في برودواي عبر ما بدا كما لو أنه عاصفة ثلجية في نهاية الشتاء، لكنه في الحقيقة لم يكن أكثر من سيل من الأوراق المتطايرة من نوافذ المكاتب ترحيبا بالموكب. كان هذا الموكب هو أبرز المواكب التي شهدت إلقاء شرائط ورقية على الإطلاق؛ حيث بلغ عدد الشرائط الورقية 3500 طن، وهو ما زاد كثيرا على الرقم السابق الذي بلغ 3249 طنا عند استقبال الجنرال دوجلاس ماكارثر في عام 1951.
صفحة غير معروفة