صواريخ الجيل الثاني: صواريخ «مينتمان» و«بولاريس» (ثلاثة نماذج) و«تايتان 2» الأمريكية، الصاروخ «آر-16» السوفييتي. نماذج الصاروخ «بولاريس»، من اليسار: مدى يبلغ 1200 ميل بحري، جرى استخدامه في عام 1960؛ مدى 1500 ميل بحري، 1962؛ مدى 2500 ميل بحري، 1964 (دان جوتييه).
جاء ندلن إلى تيوراتام في أكتوبر 1960 لمشاهدة أول تجربة إطلاق للصاروخ «آر-16»، الذي كان سيحل محل الصاروخ «آر-7». بلغ طول الصاروخ مائة قدم، واستطاع إلقاء قنبلة على مسافة 6500 ميل بآثار انفجارية بلغت عشرة ميجا طن. لم يكن الصاروخ في ضخامة «آر-7»، لكنه كان لا يزال ضمن أكبر الصواريخ التي وصلت إلى مرحلة الاستخدام التشغيلي. كان الصاروخ من عمل أحد تلاميذ كوروليف الذين تلقوا التدريب والتوجيه على يديه، ويدعى ميخائيل فانجل، الذي كان يدير مركزا هندسيا مستقلا.
كان فانجل مهتما اهتماما كبيرا بأنواع الوقود القابلة للتخزين، بما في ذلك حمض النيتريك وهيدرازين، اللذان استخدمهما في الصاروخ «آر-16». كان كوروليف يرفض وقود حمض النيتريك باعتباره «سم الشيطان»؛ حيث كان يخشى استخدامه نظرا لسميته الشديدة. في حقيقة الأمر، كان وقود حمض النيتريك يتسبب في حروق شديدة عند ملامسته الجلد. لم تكن لدى فانجل هذه الهواجس؛ حيث كان يتوقع إمكانية الاستخدام الآمن له مع التزام الاحتياطات الاحترازية الصارمة. صمم الصاروخ «آر-16» من مرحلتين، مستخدما حمض النيتريك في محركات كلتا المرحلتين.
في منتصف شهر أكتوبر، قبل أيام قليلة من عملية الإطلاق، كان خروتشوف يزهو فخرا بقوة الصواريخ السوفييتية في خطاب أمام الأمم المتحدة. كان لديه العديد من الصواريخ المتوسطة المدى مثل الصاروخ «آر-5»، ولم يكن لديه سوى القليل من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الجاهزة للإطلاق، هذا إن وجدت من الأساس، وربما كان على الصاروخ «آر-16» أن يقطع شوطا طويلا قبل أن تتوافق الحقيقة مع خطابه الرنان. كان الأمر إذن يمثل أهمية استثنائية، وفي ظل ما كان يمارسه خروتشوف من ضغوط هائلة على ندلن، ذهب ندلن إلى تيوراتام ليظهر اطلاعه على آخر التطورات. لم يبث حضور ندلن الطمأنينة في نفوس طاقم الإطلاق، بل جعلهم يشعرون بالتوتر، ويميلون أكثر إلى ارتكاب أخطاء.
ضخ الفنيون الوقود في الصاروخ، بينما كان ندلن وعدد من الأشخاص الآخرين يجلسون إلى مقاعد قرب الصاروخ. ظهرت مشكلات عند بدء العد التنازلي، واستلزم الأمر إجراء بعض الإصلاحات. كانت قواعد السلامة تتطلب عادة تصريف الوقود والمادة المؤكسدة، للحد من مخاطر اندلاع حريق، لكن لم يطق ندلن صبرا. أشار ندلن بنفسه على طاقم الإطلاق أن يتركوا الصاروخ ممتلئا بالوقود ويمضوا قدما في الإصلاحات. لم يغير هذا الإجراء، حتى عندما شرع بعض أفراد طاقم الإصلاح في استخدام مشاعل لحام، وهي ربما تؤدي إلى اشتعال أي وقود متسرب.
أرسلت إحدى وحدات التحكم إشارة إلى الصاروخ، ونظرا لوجود وصلة غير جيدة في الأسلاك، وصلت الإشارة إلى صاروخ المرحلة الثانية، وتسببت في اشتعال المحرك. اخترق لهب عادم صاروخ المرحلة الثانية صاروخ المرحلة الأولى كما لو أنه موقد لحام ضخم؛ مما أضرم فيه النيران. سرعان ما أحاطت كرة نار ضخمة بمنصة الإطلاق، مع تفكك الصاروخ وتسرب المزيد من الهيدرازين وحمض النيتريك، وهو ما ساعد بدوره في احتدام ألسنة النيران. لم يحترق حمض النيتريك عن آخره؛ إذ تبخر معظمه، مشكلا سحابة سامة ومسببة للتآكل تحدث ألما شديدا في الرئتين. وعلى حد تعبير أحد الناجين:
اندلع فجأة عمود كثيف من الدخان، حاجبا كل شيء حوله. كان الجميع يعدو نحو شرفة خاصة. لكن، كان في طريقهم قطاع مرصوف حديثا بالأسفلت؛ اندلعت ألسنة اللهب على الفور في القطاع، محتجزة الكثيرين وسط الأسفلت اللزج الساخن. لاحقا، كانت لا تزال ترى في الموقع أشلاء، ومواد غير قابلة للاحتراق مثل عملات معدنية، ومجموعة مفاتيح، ودبابيس، وأبازيم أحزمة. كذلك، لاقى الأشخاص الذين كانوا في المستويات العليا من برج الخدمة أسوأ حتف؛ فقد طوقتهم النيران وأضرمت بهم ألسنة لهب مثل لظى كثيف. لاحقا، كانت الجثث المحترقة معلقة في كل مكان على السلك الشائك الذي كان يحيط بالموقع.
12
كانت إحدى هذه الجثث هي جثة ندلن؛ إذ كانت ألسنة النيران قد أحاطت به بينما كان جالسا قرب الصاروخ. كان بعض العاملين في المستويات العليا من برج الخدمة يربطون حبالا لضمان السلامة، وها هم الآن يتدلون منها، بعد احتراق أجسادهم. مات كذلك الكثير من أبرز مساعدي يانجل، وفيهم نائبه. أكثر من مائة شخص لقوا حتفهم في هذا الحادث؛ مما جعله أسوأ كارثة في تاريخ دراسة الصواريخ وتصميمها.
كان يانجل قد قصد غرفة معزولة لإشعال سيجارة، وهو ما أنقذ حياته. قليل هم من حالفهم الحظ كما حالف يانجل. دفن المارشال ندلن في حائط الكرملين، وسط مراسم جنائزية رسمية مهيبة كاملة، بينما دفن معظم الآخرين في مقبرة جماعية في تيوراتام.
صفحة غير معروفة