حاز الاقتراح الموافقة سريعا، وأخبر كوروليف طاقم عمله: «أيها الرفاق، تلقينا أمرا من الحكومة بإرسال شعار النبالة السوفييتي إلى القمر. أمامنا عامان لنفعل ذلك.» بدأ بإقامة مشروعين منفصلين لبناء المرحلة العليا ، متوقعا أن تدفع المنافسة كل مجموعة لبذل مزيد من الجهد. بالإضافة إلى ذلك، أعرب عن رغبته في أن يكون محرك المرحلة العليا من الصاروخ جاهزا خلال تسعة أشهر فقط؛ ومن ثم، تمكن من تنفيذ عمليات الإطلاق الأولى في خريف 1958، ولم يكن قد مضى عام على تاريخ إطلاق «سبوتنيك 1».
أرغم كوروليف نفسه مثلما أرغم الجميع على العمل وفق إيقاع سريع لا هوادة فيه. لم يكن الاتحاد السوفييتي قد وضع عطلة نهاية الأسبوع بعد؛ فكان أسبوع العمل المكون من ستة أيام لا يزال هو النظام التقليدي المطبق. مع ذلك، استغل كوروليف أيام الآحاد لعقد اجتماعات مع فريق العمل لا تتخللها أي مكالمات هاتفية أو مقاطعات للنظر في مشكلات روتينية معتادة؛ بالإضافة إلى ذلك، فرض كوروليف قاعدة على معاونيه بألا يستقلوا الطائرات إلا ليلا عند الانتقال إلى تيوراتام. على حد تعبير أحد زملائه، ويدعى بوريس راوشنباخ: «لم يكن كوروليف يتصور إهدار يوم عمل في الانتقال من الموقع إلى المحطة. كان يرى أن ليلة لا نوم فيها تقريبا، في مقعد طائرة، كافية للراحة.»
في الواقع، لم يكن تطوير المرحلة العليا يتيح وقتا للراحة، ودامت الحال كذلك لفترة من الوقت. لم تكن المهمة في حد ذاتها جديدة، بيد أنها أظهرت عددا من المشكلات الفنية الجديدة؛ إذ كان يجب أن تقاوم المرحلة العليا الارتجاج والاهتزاز الشديدين في الرحلة أعلى صاروخها المعزز، ثم تحلق عاليا في السماء، حيث لا يوجد أي طاقم إطلاق لمعالجة أي عطب أو مشكلة. لتيسير المشكلة قليلا، تقرر توصيل المرحلة العليا بالصاروخ «آر-7» من خلال شبكة مفتوحة؛ وعندئذ أمكن بدء تشغيل المحرك قبل أن تبدأ قوة دفع الصاروخ المعزز في التضاؤل، بينما يتسرب عادم المحرك عبر الشبكة، وهو ما جعل تفادي مشكلة إطلاق المرحلة العليا في ظل انعدام الجاذبية ممكنا. لكن تصميم أي صاروخ كان ينطوي على مشكلات أخرى كثيرة، أصعب في تجنبها.
ترأس فالنتين جلشكو، مصمم محركات الصاروخ «آر-7»، إحدى مجموعتي تصميم المرحلة العليا، وكان نظيره في المجموعة الثانية مصمما مبتدئا يدعى سميون كوزبرج. كانت لدى كوزبرج خبرة محدودة في مجال الصواريخ؛ إذ كان قد قضى الخمسة عشر عاما الأخيرة في تصميم المحركات النفاثة للطائرات، لكن في عام 1956، أثناء عمله في فورونزه، بنى كوزبرج محرك صاروخ يعاد تشغيله أثناء التحليق، واختبره بنجاح. كانت مشكلات إعادة تشغيل هذا المحرك مشابهة للغاية لمشكلات تشغيل محرك صاروخ مرحلة عليا، ووجه كوروليف توجيهات رسمية إلى كوزبرج لبناء المرحلة العليا في فبراير 1958، بعد أسبوعين فقط من إرسال خطابه إلى اللجنة المركزية. واتضح أن هذا القرار كان صائبا؛ إذ إنه في الوقت الذي كانت جهود جلشكو قد بدأت تتداعى وتتعثر شيئا فشيئا، جاء كوزبرج، الوافد الجديد، في قوة.
أثناء ذلك، في لوس أنجلوس، كان الجنرال شريفر يمهد الطريق أمام الصاروخ «ثور» ليكون بمنزلة صاروخ منافس يصعد إلى القمر. في البداية، كان مشغولا بتطوير المقدمة المخروطية للصاروخ «أطلس»، ولم تكن الصواريخ المتوافرة لإجراء اختبارات الإطلاق ملائمة. كان الصاروخ «إكس-17» والصاروخ «جوبيتر-سي» التابع للجيش يحملان مقدمات مخروطية صغيرة لصواريخ باليستية متوسطة المدى، وكان الصاروخ «جوبيتر» يتطلب إجراء اختبارات على نموذج كامل. أما فيما يتعلق بالصاروخ «أطلس»، كان شريفر يبحث عن طريقة لإطلاق مقدمة مخروطية لمسافة 5000 ميل كاملة أو أكثر، واستطاع عمل ذلك من خلال وضع صاروخ مرحلة عليا أعلى الصاروخ «ثور»، وأوصى كبار المديرين في «إيروجت» باستخدام صاروخ المرحلة الثانية من طراز «فانجارد»، الذي كانوا يبنونه. قبل عيد الشكر مباشرة في عام 1957، وافق شريفر على بناء هذا الصاروخ المكون من صاروخين مرحليين لإجراء اختبارات على المقدمات المخروطية، وذلك من خلال استبعاد بعض نماذج الصاروخ «ثور» التقليدية من خط الإنتاج.
كان الصاروخ، الذي أطلقوا عليه اسم «ثور-إيبل»، يمثل بداية جهود تزويد الصاروخ «ثور» بصواريخ مرحلية عليا ذات قدرات متزايدة؛ وهو ما جعله الصاروخ الرئيسي الأكثر استخداما في البلاد في مجال الفضاء. في مؤسسة «راند»، كان الباحثون يقدمون مقترحات لاستخدام الصاروخ «ثور-إيبل» لإطلاق قمر استطلاع مبكر. وفي النهاية، كان هذا الصاروخ أشبه باستخدام الصاروخ «فانجارد» متضمنا الصاروخ «ثور» كصاروخ مرحلة أولى، وهو مزيج تمكن بالتأكيد من إطلاق أكثر من مجرد ثمرة جريب فروت. كان الصاروخ «ثور-إيبل» مكملا للصاروخ «ثور-أجينا»، وهو نموذج تطوير منفصل، يتضمن صاروخ مرحلة ثانية من شركة «لوكهيد»، وكان يحمل أقمار «ديسكفرر».
عقب عيد الشكر مباشرة في عام 1957، زار وفد من شركة «رامو وولدريدج» شركة «مارتن» في بالتيمور، التي كانت تبني صواريخ «فانجارد» الكاملة. أراد الوفد أن يشتري بعض صواريخ المرحلة الثانية، لكنه اكتشف أنها جميعا محجوزة لسلاح البحرية. مع ذلك، كانت «إيروجت» مستعدة تماما لبيع صاروخ المرحلة الثانية الذي لم يكن يتضمن سوى المحرك وخزانات الوقود الدفعي. كان هذا الصاروخ يتطلب نظام توجيه، بيد أن شركة «رامو وولدريدج» كانت لديها مجموعة مختصة بتصميم نظم التوجيه برئاسة جيمس فلتشر، واستطاعت هذه المجموعة إعداد نظام التوجيه الخاص بها داخل الشركة، من خلال تعديل نظام الملاحة الآلية في الصاروخ «ثور». أقامت المجموعة ورشة إنشاءات ميكانيكية في إحدى حظائر الطائرات في مطار لوس أنجلوس، ثم مضت في إجراء الاختبارات على صاروخها التجريبي ذي المقدمة المخروطية.
في تلك الأثناء، في واشنطن، أفضت صدمة إطلاق أول قمرين من طراز «سبوتنيك» إلى سيل من المقترحات حول عدد من المشروعات الفضائية؛ قال أحد الأدميرالات لاحقا: «بدا الأمر لي كما لو أن كل من في البلاد تقدم بمقترح إلا محلات فاني فارمر كاندي، وكنت أتوقع أن يتقدموا بمقترح في أي وقت.» سعى ويليام بيكرنج جاهدا، بوصفه رئيس مختبر الدفع النفاث، لإقامة مشروع لإطلاق مركبة فضائية سريعا إلى القمر، وسمي المشروع باسم مشروع «الجوارب الحمراء». في شركة «رامو وولدريدج»، أظهرت العمليات الحسابية التي أجراها أحد مهندسي فلتشر أن الصاروخ «ثور-إيبل»، الذي كان يحمل صاروخ المرحلة الثالثة طراز «فانجارد»، كان بإمكانه أيضا إطلاق أحمال إلى القمر. أدلت مؤسسة راند بدلوها من خلال تقريرها، الذي ذكرت فيه أن القوات الجوية بإمكانها فعليا تنفيذ مهمة كتلك.
في البيت الأبيض، كان جيمس كيليان يشغل منصب كبير مستشاري آيزنهاور لشئون الصواريخ والفضاء. في يناير 1958، تقدم كيليان إلى شركة «رامو وولدريدج» وتلقى تعليمات موجزة وشرحا مختصرا لمهمة إرسال صاروخ إلى القمر؛ قال: «قدموا مقترحا وسنشرع في التنفيذ.» بعد جلسة استمرت طوال الليل، كان المقترح جاهزا، وعلى الرغم من أنه لم يكن يزيد عن ثلاثين صفحة، فإنه كان كافيا. دعا المقترح إلى ما هو أكثر من مجرد عملية إطلاق بسيطة إلى القمر؛ إذ كانت المركبة الفضائية ستحمل صاروخ جو-جو يعمل بالوقود الصلب من فالكون، وتستخدمه كصاروخ ارتكاسي كابح لوضع المركبة في مدار حول القمر.
كان من المقرر أن تدير هيئة المشروعات البحثية المتطورة هذه العملية. كان لدى الهيئة طاقم صغير، يقارب ثمانين شخصا، بما في ذلك موظفو السكرتارية ومجموعة منتقاة من الاختصاصيين اختيروا من ثلاثة أسلحة عسكرية. أصدر مدير الهيئة، روي جونسون، أمر الهيئة الأول إلى الجيش، معطيا تعليماته إلى فون براون بتصميم صاروخ في إطار مشروع «الجوارب الحمراء». ثم صدر الأمر الثاني إلى القوات الجوية، والذي طالب شريفر بالانضمام إلى سباق إرسال رحلات إلى القمر. في أواخر شهر مارس، أصدر آيك بيانا عاما، قال فيه: «هذا ليس خيالا علميا؛ هذا عرض تقديمي معقول وواقعي أعده علماء رائدون.»
صفحة غير معروفة