فاتحها لتبرئ نفسها أو تستغفر الله.
وغضبت غضب البريء المشكوك فيه، وإنها لبريئة في نظر كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش، وفي وضح النهار، ولغير ضرورة، ومع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي وغضب المسلمين وغضب الله، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتا ومنزلة وخلقا وأنفة، فكيف بها في مكانها المعلوم.
إلا أن النبي أراد لها البراءة أمام الخلق عامة وأمام نفسه المحبة، حذرا أن تكون تبرئته إياها عن محبة وضعف لا عن تبين واستيثاق، فلما قضى كل حق وانتهى به الاستيثاق إلى الثقة كان قد وفى الكرم والحمية والإنصاف والرحمة أجمعين.
نعم وفي الرحمة حتى باللاغطين المتعجلين الذين أبدءوا وأعادوا في ذلك الحديث المريب. وما أحد أرحم ممن يرحم المفترين على سمعة أهله وهناءة بيته وأمان سربه، ولا يعذر الناس أحدا كما يعذرون نبيا مطاعا ينال في عرضه فينال بالعقاب العدل من استحقوه.
سماحة الكريم
ولقد علمنا من رواية السيدة عائشة كما علمنا من روايات شتى أن عبد الله بن أبي بن سلول كان أكبر اللاغطين بحديث الإفك عن سوء نية وكيد مبيت للنبي ودينه، وكان هذا الرجل - كما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب - بغيضا إلى المسلمين متهما عندهم يتوجسون منه، ويسمونه رأس المنافقين، ولا يكفون عن طلب دمه واستئذان النبي في قتله فما ضر النبي لو خلى بين المسلمين وبينه يحاسبونه على فريته ويحاسبونه على كيده وينتقمون لعرض النبي منه ليأمنوا شره ويجعلوه عبرة لغيره؟
وإذا قيل إن عبد الله بن أبي كان من أصحاب العصبية التي يحسب حسابها وتتقى بوادرها، فماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن.
على أن العصبية التي كان عبد الله بن أبي يلوذ بها لم تكن لتحميه عقاب النبي لو أراده بعقاب ولو كان أصرم عقاب، فما من عصبية هي أقرب إلى رحم الرجل وأولى بالذود عنه من ولده المشهور ببره. وقد أسلفنا أن ولد عبد الله قد تطوع لقتله يوم قيل له إن النبي يهدر دمه ويقضي بموته ...
إنما هي سماحة الكريم ...
إنما هي السماحة التي شملت مسطحا كما شملت كبير المنافقين، وخرجت من حديث الإفك كله بالعفو عن جميع المسيئين مخلصين في الرأي وغير مخلصين، وهي التي سبرت غورا في قصة هذا الحديث فتكشفت عن أطيب معاملة للزوجات في أحرج الحالات، وتلك هي المعاملة الطيبة في مثلها الأعلى، معاملة لا تتبدل بعد أيام وشهور بل تطول مدى السنين، وتطول مدى السنين مع نساء مختلفات لا مع امرأة واحدة، وتطول في جميع الحالات ومنها حالة الألم البالغ، ولا تنحصر في حالة الرضا والطمأنينة، وأقل من ذلك أمنية يتمناها الحالمون بالوئام بين الأزواج في العصر الذي وصفوه بعصر المرأة، لفرط ما أطنب فيه المطنبون من إكبار شأنها والدعوة إلى إنصافها.
صفحة غير معروفة