صلى الله عليه وسلم : «إني لا أدخل عليهم» قال مكرز: «هو الذي تعرف به؛ البر والوفاء.»
وإنما حمل النبي السلاح للحيطة كما قال لصحبه: «إن هاجنا هائج من القوم كان السلاح قريبا منا» ... وتركه في الحراسة على مقربة من مكة حيث يوصل إليه عند الحاجة إليه.
ثم أقبل عليه السلام على ناقته القصواء وجموع المسلمين محدقون به متوشحون بالسيوف يلبون ويهللون، وأخذ عبد الله بن رواحة بزمام القصواء وهو ينشد:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله
إني رأيت الحق في قبوله
وأوشك وقد هزته النخوة أن يصيح في قريش صيحة الحرب، فنهاه عمر - رضي الله عنه - وأمر النبي أن ينادي ولا يزيد: «لا إله إلا الله وحده نصر عبده، وأعز جنده وخذل الأحزاب وحده.» فرفع ابن رواحة بها صوته الجهير، وتلاه المسلمون يرددونها وتهتز بها جنبات الوادي القريب. فيسمعها من فارقوا مكة ليكلا يسمعوها ولا يروا ركب النبي يخطو في نواحيها ...
وكان الفتح الذي بصر به عيانا من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة، وأسلم من الضعفاء والأقوياء من كان عصيا على الإسلام؛ فريق منهم بهرهم وفاء النبي بعهده مع استطاعة نقضه، وفريق منهم راعهم سمت الدين ورحم الإسلام فيما بين المسلمين، وجمال ما بينهم وبين نبيهم من طاعة وتمكين، وفريق منهم علموا أن العاقبة للإسلام فجنحوا إلى طريق السلامة والسلام، وحسبك أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الإقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وهما في رجاحة الخلق والعقل مثلان متكافئان، وإن كانا لا يتشابهان.
وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور كما تجلت في قيادة الجيوش. فكان على أحسن نجاح في سياسته إذ نادى بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته، وإذ دعا المسلمين وغير المسلمين إلى مصاحبته في رحلته، وإذ توخى ما توخى من طريقة المسالمة وإقامة الحجة في إنفاذ عزيمته، وإذ قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته، وإذ نظر إلى عقباه ووصل به إلى القصد الذي توخاه.
صفحة غير معروفة