نجاح الدعوة
ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهوما بأسبابه الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، وما من شيء غير الغرض الأعوج يذهل صاحبه عن هذه الأسباب الطبيعية البينة، ثم يخيل إليه أن الدعوة الإسلامية كانت فضولا غير مطلوب في هذه الدنيا، وأن نجاحها مصطنع لا سبب له غير الوعيد والوعود، أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين.
أي إرهاب وأي سيف؟!
إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف ... وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يعرضون أحدا لسيوفهم، وكانوا يلقون عنتا ولا يصيبون أحدا بعنت، وكانوا يخرجون من ديارهم لياذا بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين، ونقمة الناقمين، ولا يخرجون أحدا من داره.
فهم لم يسلموا على حد السيف خوفا من النبي الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين ... ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف؛ ليدفعوا الأذى ويبطلوا الإرهاب والوعيد، ولم يحملوه ليبدأوا واحدا بعدوان أو يستطيلوا على الناس بالسلطان.
فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم، ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع.
أما الإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين، فلو كان هو باعثا للإيمان، لكان أحرى الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية؛ هم فسقة المشركين وفجرتهم وأصحاب الترف والثروة فيهم، ولكان طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعمة. فإن حياة النعيم بعد الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين، بل لعلها أشهى إلى الأولين وأدنى، ولعلهم أحرص عليها وأحنى، لأن الحرمان بعد التذوق والاستمراء أصعب من حرمان من لم يذق ولم يتغير عليه حال. •••
لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر ...
ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من المتخلفين عنه، ولكننا ننظر إلى السابقين وننظر إلى المتخلفين، فنرى فارقا واحدا بينهم أظهر من كل فارق. ذلك هو الفارق بين الأخيار والأشرار، وبين الرحماء المنصفين والظلمة المتصلفين، وبين من يعقلون ويصغون إلى القول الحق، ومن يستكبرون ولا يصغون إلى قول.
ذلك هو الفارق الواضح بين من سبقوا ومن تخلفوا، وليس هو الفارق بين طالب لذة وزاهد فيها، أو بين مخدوع في النعيم وغير مخدوع.
صفحة غير معروفة