والحق الذي لا مراء فيه أن صنيع الإسلام هذا كان أجمل صنيع لقيه الأرقاء من دين أو شريعة، وأنه إذا كان هناك تمهيد لإلغاء الرق بتة فذلك هو تمهيد الإسلام دون غيره، وهو أقصى ما كان مستطاعا في نظام العالم القديم: نظام كان عدد الأرقاء فيه يقارب عدد الأحرار، كما جاء في بعض الإحصاءات المروية عن الحضارتين الرومانية واليونانية.
وقد نظر في مسألة الرق عقل من أكبر العقول التي نبغت في أمة اليونان بل في الأمم كافة - ونعني به أرسطو - فأقره وأوجبه لأنه جعله سنة من سنن الفطرة وقيدا لا فكاك منه لطائفة من الناس، خلقت عاجزة عن ولاية أمرها فلا غنى لها عن سيد ولا موئل لها من وال.
معاملة محمد لعبيده
ولو وقف النبي عند هذا الحد في معاملة الأرقاء لأحسن وأجمل وامتاز بأمر دينه على كل محسن إلى الأرقاء في زمانه. إلا أننا نقرر الواقع ولا نتعداه قيد شعرة حين نقول إن كثيرا من الأبناء لا يتمنون عند آبائهم خيرا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد وعبيده. ومن من الآباء يحسن إلى أبنائه خيرا من إحسان محمد لزيد بن حارثة ولابنه أسامة؟
لقد أعتق زيدا ورآه أهلا للزواج بعقيلة من أقرب قريباته إليه وأولاهن بحدبه وتوقيره، وهي التي رآها بعد ذلك أهلا لزواجه بها وحظوتها لديه. فلم يعطه الحرية وكفى، ولم يعطه المساواة في العيش وكفى، بل رفعه إلى المنزلة الاجتماعية التي يرتفع إليها السادة، ولا يثبتها شيء كما يثبتها شرف المصاهرة.
ثم حفظ هذا البر الأبوي لابنه أسامة، فولاه جيش الشام وهو دون العشرين، وفي الجيش طائفة من أكابر الصحابة، فلو كان للنبي ولد في سنه لما تكفل به أحسن من هذه الكفالة، ولا ميزه أشرف من هذا التمييز.
نعم لم نعد الواقع، ولا تجوزنا في الوصف، حين قلنا إن الابن لا يتمنى خيرا من معاملة محمد لعبده. فقد عرف زيد فعلا أن محمدا خير من أب وخير من أسرة كاملة يرجع إليها وترجع إليه ... فبقي معه ولم يذهب معه أبيه، ولم يبق معه إيثارا لبركة النبوة، فإن محمدا لم يكن قد أرسل بالدعوة يوم اختاره زيد وآثره على جميع آله. وإنما بقي معه لأنه الإنسان الذي يعرف حتى العبد الرقيق أن آصرة الإنسانية عنده أوثق من آصرة الأبوة عند آخرين.
إن حب الوالد لوليده وراثة ألوف الألوف من الأجيال. بل وراثة الحياة في جميع الأحياء. فإذا بلغ البر بالضعفاء مبلغ الحب الأبوي من القوة فقد بلغ الذروة العليا التي لا متسنم فوقها لراق.
لقد خيرت شريعة الإسلام المحسنين بين المن وإعتاق الأسرى، وبين الفداء بالمال أو المبادلة ... فأيهما اختار المالك فهو إحسان.
أما محمد فقد اختار المن، وزاد عليه فأعتق كل أسير صار إلى حوزته، وزاد على العتق تلك الرحمة الأبوية التي شملت كل منتم إليه، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلم والوالد من ضرب وتعزير ... وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب إلى الملاطفة منها إلى العقاب. ومن ذلك قصة الوصيفة التي أرسلها فأبطأت في الطريق، فما زاد على أن قال لها حين عادت: «لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك!»
صفحة غير معروفة