47

ومن الأسباب التي أثارت القبائل، فريضة الزكاة التي فرضها الإسلام على كل مستطيع؛ فإنها أثارتهم لضنهم بالمال، وأنفتهم من الإتاوة، وخالفت ما ألفوه حتى من أكاسرة الفرس وقياصرة الروم؛ لأنهم كانوا يأخذون من هؤلاء أكثر مما يعطون، وكانت الإتاوات التي يرضخون منها أقل من المنح التي توزع عليهم بين حين وحين، باسم الخلع أو الهبات.

بل كان منهم من ضاق ذرعا بالفرائض فأسقطها الدعاة عنهم جميعا وأعفوهم من كل فريضة، ومنهم من أنف من السجود، فقال لهم طليحة الأسدي: «إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، فاذكروا الله قياما، فإن الرغوة فوق الصريح.»

ويلحق بهذا وأشباهه أن الدين الجديد لم ترسخ جذوره بعد في نفوس الأقصين من أعراب البادية، ولم تهجر طباعهم بعد عادات الجاهلية في العبادة والمعيشة، وقد كان المسلمون أعلم بهم من أن يدهموا بالمفاجأة من قبلهم، لأنهم عرفوا طويتهم قبل ذلك من القرآن الكريم:

قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (الحجرات: 14).

وليس أقرب إلى المألوف من نكوص هؤلاء على أعقابهم بعد موت النبي وشيوع الفتنة والاضطراب عن أيمانهم وشمائلهم، مع إغراء الدعة وفرط الحنين إلى القديم وهو منهم جد قريب. •••

وثمة سبب لا يغفل ولو لم تذكره التواريخ بالسند القاطع والنص الصريح؛ وهو الدسيسة المبثوثة من الدول الأجنبية ... كل منها بما يوائمها وبما هي قادرة عليه.

وهذا يفسر لنا أن النبوة ظهرت من العرب أولياء فارس ولم تظهر من العرب أولياء الروم، وهم الغساسنة ومن جاورهم من قبائل التخوم السورية، فهؤلاء يدينون بالمسيحية فلم يظهر بينهم مدع أو مدعية للنبوة، ولكنهم ناوشوا المسلمين على التخوم مناوشة الحرب والوقيعة، أما التغلبيون على مقربة من فارس فلم يكن عليهم حرج من دولتهم التي تحميهم أن يحاربوا دين العرب الجديد بدين آخر، ولم يجدوا حرجا من عقيدتهم أن يسمعوا إلى المتنبئين والمتنبئات؛ لأن عقيدتهم هذه كانت مزيجا من المجوسية والوثنية ومسحة من المسيحية لا يرضاها أتباع كتاب؛ فلهذا ظهرت بينهم سجاح وسلكت في التبشير بدينها العجيب مسلكا لا يستريح العقل إلى تفسيره بغير تفسير واحد، وهو أنها كانت تعمل لغرض سياسي وبإغراء دولة أجنبية، ولا تعمل لغرض ديني ولا بدافع من عندها وعند ذويها.

فسجاح هذه كانت من بني يربوع أقرب بطون بني تميم إلى نفوذ فارس، ثم تزوجت في أخوالها التغلبيين بالعراق، ثم انحدرت من ثم إلى أرض بني تميم مبشرة بدين جديد بعد موت النبي عليه السلام، وانحدر معها جيش كثيف لا يستهان بأمره، فلما دعت قومها الأولين بنى يربوع إلى هذا الدين طلبوا إليها - على ما يظهر - أن تؤلف بطون بني تميم جميعا إلى دينها قبل الزحف على الحجاز لمحاربة المسلمين، فلم يتفق بنو تميم على رأي، وتركتهم إلى اليمامة حيث كان مسيلمة الكذاب يتحفز كذلك للخروج على الإسلام، ولم يكن أوفق لهما بهذه المثابة من التعاهد على غرض واحد؛ هو الزحف على الحجاز ولكنها رجعت إلى قومها وهي تقول: «إنها وجدته على الحق فتزوجته» وأنه سيؤدي لها نصف غلات اليمامة وقد استنجزته شطر هذا النصف قبل مرجعها إلى بلادها ...

فلماذا خالفها بنو تميم؟ ولماذا خالفها مسيلمة؟ ولماذا انحدرت ثم عادت إن كان همها التبشير بدين جديد؟ ولماذا هابها مسيلمة وأعطاها الجزية وهو يأنف أن يعطيها خليفة المسلمين ويجرد لحربه جيشا قيل إن عدته أربعون ألفا وقيل : بل ستون ولم يقل عن عشرين ألفا في تقدير أحد من المؤرخين؟

كل أولئك لغز سخيف لا يقبله العقل إلا على وجه واحد، وهو أنها كانت داعية الفرس لتحريض العرب على الثورة، ومن ثم أصابت ما أصابت من الإخفاق أو النجاح.

صفحة غير معروفة