صلى الله عليه وسلم
لخالد بن الوليد إنما هو التقدير الصحيح لأعمال السرايا والجيوش في مؤتة وبني جذيمة وحنين، وكأنما هو تقويم الجوهري الخبير للجوهر النفيس في معدنه الخفي غير مصنوع ولا مصقول، وللتاريخ من بعده تقويم الجوهر بما يضفي عليه من جمال الصوغ والضياء.
ونعود هنا فنقول: إن تقدير النبي - عليه السلام - خالد بن الوليد لم يكن تقدير المجاملة لمكانه أو لما يرجى من قومه الأقوياء بني مخزوم، فإنه عليه السلام لم يجامله في وصفه الذي طابقته حوادث الأيام، ولم يجامله حين قدم عليه في القيادة ثلاث من السابقين في الإسلام وترك اختياره بعدهم لاتفاق كلمة المسلمين، بل لم يجامله حين خاصم عبد الرحمن بن عوف، فغضب النبي - عليه السلام - وقال له معرضا: «يا خالد ذر أصحابي. لو كان لك أحد ذهبا فأنفقته قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن.»
إنما هو سيد السادة ومربي الرجال والأبطال، يقوم الأعمال بقيمتها وينزل العظماء في منازلهم، ولا يمنعه أداء المجاملة أن يجامل بمقدار على حسب السوابق والأقدار.
وقد تولى خالد للنبي أعمالا أخرى في سنوات صحبته الثلاث، ولكن الأعمال التي اخترناها هي أكبر أعماله في حياته عليه السلام، وهي أقرب الأعمال إلى وزن كفايته وتقويم معدنه وتمييز خلقه، ولكنه أريد لكل عمل صغير، كما أريد لكل عمل كبير، وكانت للنبي - عليه السلام - نظرة في كل مهمة مقدورة ندبه إليها ...
فمن مهامه الصغيرة تسييره في ثلاثين فارسا لهدم «العزى » بعد فتح مكة ببضعة أيام، وهي الصنم الذي كان أبوه يتمسح به وينحر له الإبل والغنم، وكان سدنته من بطون بني سليم الذين قاتلوا مع خالد في مقاوم شتى، وقد كان معبود القبائل التي لقيها المسلمون في يوم حنين، وأصله ثلاث شجرات بأرض نخلة يزعمون أن ربهم كان يشتو بها لحر تهامة، ويصيف باللات عند الطائف لبردها ... وظلت مخوفة إلى ما بعد الإسلام، فيقول الكلبي: «إن اللات والعزى ومناة لكل منها شيطانة تكلمهم، وتراءي للسدنة، من صنيع إبليس وأمره»، وهي التي أرجف من أرجف من المشركين أن القرآن الكريم يرتضيها ويساومهم على عبادتها، ويجعلون منه قولهم: «اللاة والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.»
فهي مهمة مخوفة من وجهتها النفسية وإن سهلت من الوجهة الحربية، فخرج خالد حتى انتهى إليها فهدمها، وجاء في بعض الأقاويل أنه: «لما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها، فجعل السادن يصيح بها: «أعزى» إذا لم تقتلي المرء خالدا
فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
فأخذ خالدا «اقشعرار في ظهره»، وضربها بالسيف فشقها، ثم لقي النبي، فقال له: الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا بك من الهلكة، لقد كنت أرى أبي يأتي العزى بخير ماله من الإبل والغنم فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثا ثم ينصرف إلينا مسرورا، ونظرت إلى ما مات عليه أبي وإلى ذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله، وكيف خدع حتى صار يذبح لما لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع.» فقال عليه السلام: «إن هذا الأمر إلى الله، فمن يسره للهدى تيسر له ومن يسره للضلالة كان فيها.»
وكذلك بلغت العبرة إلى خالد قبل أن تبلغ منه إلى الناس. •••
صفحة غير معروفة