وهكذا بدأت الهزيمة بفرار الخيل ولحاق المشاة بهم واختلاط الحابل بالنابل بعد ذلك من الفريقين، وتواتر القول بأن الطلقاء الحديثين في الإسلام أدبروا منهزمين عمدا بعد الهجمة الأولى، فأشاعوا الهزيمة فيمن معهم من المهاجرين والأنصار.
ولقد أوشك أهل مكة أن يستقبلوا الأعراب المتقدمين على رضا من بعضهم لحنينهم إلى الدين القديم، وعلى كره من بعضهم لأنفتهم من غلبة الأعراب على قريش، لولا أن تغير مجرى القتال، ودارت الدائرة على المشركين بعد لحظات، وكان الفضل في ذلك لحركة جاءت من قبل المسلمين وحركة جاءت من معسكر الأعراب، وكان مجيئهما في الموعد المقدور.
فأما الحركة التي جاءت من قبل المسلمين فهي بروز النبي - عليه السلام - بشخصه الكريم إلى مقدمة الصفوف. فقد ثبت في ذلك الهول الجارف ثبوتا يجل عن الوصف وأخذ زمام المعركة كلها في يديه ليمضي وحده في القتال كيفما تصير الأمور.
وكان قد شهد المعركة على بغلته دلدل أو الشهباء، فانحاز إلى اليمين سريعا؛ ليستطع التقدم بين تلك الصفوف المتدفعة من مدبرين ومقبلين، والتفت إلى اليمين ونادي: يا معشر الأنصار ... ثم التفت إلى اليسار ونادى كذلك: يا معشر الأنصار ... فتسامعوا وتجاوبوا وعطفوا - كما وصفهم شاهدو الموقف - عطفة الإبل على أولادها، واجتمع معهم حول رسول الله مئات في لمحة عين. •••
وتختلف الروايات في وصف هذه الحركة المجيدة من بدايتها، فيقول بعضها إن الناس أدبروا يومئذ عن رسول الله حتى بقي وحده، ويقول بعضها: بل بقي معه نفر قليل منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث ومعتب بن أبي لهب وعبد الله بن مسعود، وقليلون لا يتجاوزون الاثنى عشر، وجعل رسول الله يقول:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
ثم أمر عمه العباس أن يصرخ في الجيش: يا معشر الأنصار ... يا أهل السمرة يا أصحاب سورة البقرة ... يا بني الخزرج، وكان العباس رضي الله عنه جهير الصوت يسمع صوته على مسافات بعيدة، وقيل إنه كان يقف على سلع وينادي غلمانه بالغابة فيسمعونه، وبينه وبينهم ثمانية أميال.
فلما جلجل صوته بهذا النداء، إذا بالأنصار والمهاجرين يتجاوبون: يا لبيك يا لبيك ... ويسرعون إلى ناحية الصوت زرافات زرافات، حتى تجمع منهم ثلاثمائة أو يزيد في لحظات، ثم شاعت بين الألوف المؤلفة قدوة الكر والإقبال بعد الفر والإدبار، فإذا بالجيش بقضه وقضيضه يعدو إلى ساحة القتال ويرسل الخيل والمطايا ليملك كل منهم زمام يديه وقدميه، وهانت النفوس حتى استهدفت النساء للموت غير مباليات، ومنهن من لم تكن على صحة في النظر كالعميصاء أم أنس بن مالك، وكانت وهي حامل تحزم وسطها ببرد لها، وفي حزامها الخنجر لدفاع من يجترئ عليها.
وكان خالد بن الوليد قد ثنى عنان فرسه بعد التوائه في الهجمة الأولى، فلم يزل يقاتل حتى سقط مثقلا بالجراح لا يقوى على السير من مؤخرة رحله، وهناك وجده النبي - عليه السلام - حين خرج يتفقد الجرحى بعد المعركة، فبارك له وواساه.
صفحة غير معروفة