والتفت إلى من سماهم أهل الفتنة من طلاب الإصلاح والتبديل، فكتب في أمورهم إلى الخليفة يقول: «إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم، وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم ...»
ثم أخرجهم من دمشق إلى غيرها مستريحا منهم بالنفي والإقصاء، كأنما دمشق وحدها من بلاد المسلمين هي التي ينبغي لها أن تستريح.
وهكذا تعاقبت السنون وكل سنة تزيد معاوية وفرة من أسباب الرضا والاستقرار، وقلة من أسباب القلق والطموح إلى التغيير، حتى تحيزت له الشام عند مبايعة علي وفيها أعظم ما يتأتى في مثل ذلك العهد من دواعي السكينة واستدامة الحال، وأقل ما يتأتى فيه من شواجر الفتنة والعصيان ...
أما علي فقد شاءت المصادفات أن تنعكس الآية في حصته من الدولة الإسلامية أيما انعكاس، فأوشكت أن تنعدم فيها دواعي الرضا والاستدامة، وأوشكت أن تتم فيها شواجر الفتنة، وما نسميه اليوم بالإخلال بالنظام ...
فكان التنافس عنده على أشده بين العاصمتين الحجازيتين وبين الكوفة، لا يرضى أهل المدينة بما يرضى أهل مكة، ولا يرضى أهل الكوفة بما يرضى به هؤلاء وهؤلاء، حتى ضاق به المقام في الحجاز، وأوى إلى الكوفة مأوى «المستجير من الرمضاء بالنار». •••
وكانت قبائل البادية تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة، وينظرون إليهم نظرتهم إلى القوي المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة، وهي حالة كان أحجى بالولاة أن يخفوها ويتلطفوا في إصلاحها أو تبديلها ما استطاعوا لها من إصلاح وتبديل، ولكنهم على نقيض ذلك كانوا يباهون بها، ويجهرون بحديثها حتى قال سعيد بن العاص والي الكوفة: «إنما السواد بستان لقريش ...!»
وظهر هذا السخط من أثرة قريش في خطب المتكلمين بلسان أهل البادية، حين نشب النزاع بين طلحة والزبير وأنصارهما وبين علي وأنصاره، فقام في الجمع رجل من عبد القيس يقول: «يا معشر المهاجرين! ... أنتم أول من أجاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكان لكم بذلك فضل ...» إلى أن قال يشير إلى خلافة أبي بكر: «ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلا فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان، وبايعتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم عليا من غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ ...»
وهذا كلام رجل يدين بفضل المهاجرين ويقدمه في صدر مقاله، فكيف بكلام الرجال ممن ينسون هذا الفضل، أو تغلبهم المنافسة على الشهادة به في معرض الخصومة؟ ... ولعل النافثين بهذا الغيظ كانوا يثوبون إلى بعض الصبر، والتجاوز لو أنهم وجدوا من يشكون إليه، فيحسن الإصغاء والاعتراف لهم بالحق في دعواهم، ولكنهم كانوا يشكون فيثور بهم المخالفون ويلجئونهم إلى الصمت راغمين، فلما قال ذلك الرجل مقالته هموا بقتله لساعته لولا أن حمته عشيرته وصحبه، ثم وثبوا عليه في الغد فقتلوه وقتلوا معه قرابة سبعين. •••
صفحة غير معروفة