90

كلوا واشربوا وادهنوا، إنكم ستعلمون الذي أكره من أمركم.

ومن تمام العلم بإسلام عمر، أن نعلم فضل إسلامه مع من لم يكن من أهل الإسلام، فإن الحق الذي يتبعه الرجل مع أهل دينه وحدهم لحق محدود يدخل في باب السياسة القومية أكثر من دخوله في باب الفضيلة الإنسانية، وإنما يصبح حقا جديرا باسم الحق حين يتبعه الرجل مع أهل دينه ومع الخارجين عليه.

وعمر كان - ولا ريب - أشد المسلمين في إسلامه.

فلو كان الإسلام ظالما بطبيعته لمن لم يدخلوا فيه، لكان عمر أشد المسلمين ظلما لهم وقسوة عليهم، لكنه كان في الواقع أشد المسلمين رعاية لعهدهم مذ كان أشد المسلمين غيرة على دينه وعملا بأدبه.

فكان شأنه مع من حاربوه شأن المحارب الشريف، ولن ينتظر محارب من محارب إلى آخر الزمان معاملة أقوم ولا أصدق من معاملة عمر لمحاربيه.

وكان شأنه مع من صالحوه وعاهدوه أن يفي بعهدهم، ويخلص في الوفاء به إخلاص من يطالب نفسه به قبل أن يطالبوه، ومن يراقب نفسه فيه قبل أن يراقبوه.

كتب للنصارى في بيت المقدس أمانا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم؛ لا تهدم ولا تسكن. وحان وقت الصلاة وهو جالس في صحن كنيسة القيامة، فخرج وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده، وقال للبطرك: لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر! ثم كتب كتابا يوصي به المسلمين ألا يصلي أحد منهم على الدرجة إلا واحدا واحدا غير مجتمعين للصلاة فيها ولا مؤذنين عليها.

وكذلك كان يفعل في كل موضع صلى فيه من الكنائس التي عاهد النصارى على تركها وتحريم هدمها وسكناها.

أما عهده لهم فقد كان مثالا من السماحة والمروءة ، لا يطمع فيه طامع من أهل حضارة من حضارات التاريخ كائنة ما كانت.

فكتب لهم العهد الذي قال فيه: «... هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها: إنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقض منها، ولا من خيرها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وأن يخرجوا منها الروم واللصوت،

صفحة غير معروفة