فلم يزل الرجل يرددها ويبكي حتى صحت توبته وأحسن النزع،
10
وبلغت توبته عمر، فقال لمن حضروا مجلسه: «هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.»
وقد تكرر منه إعفاء الزانيات من الحد لشبهة القهر والعجز عن المقاومة، وتكرر منه الإعفاء لمثل هذا العذر في غير ذلك من الحدود.
فلم يكن عمر بالسريع المتعطش إلى إقامة الحد، ولم يعرف عنه قط أنه أقام حدا وله مندوحة عنه.
وفي قصة ولده منادح شتى ترضيه على شدة تحرجه وتحريه، ثم لا حاجة بمثله إلى رياء العدل، فيجور على ابنه، ويسرف في القسوة عليه، ليقال إنه سوى بينه وبين غيره.
وأصح من ذلك أن نأخذ برواية عبد الله بن عمر، وهو أحق الناس بالمبالغة في عدل أبيه لو كانت المبالغة مما يجمل بمثله، فقد روى هذه القصة فقال ما خلاصته: «أن أخاه عبد الرحمن وأبا سروعة عتبة بن الحارث سكرا، فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر، فقالا: طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه! ولم أشعر أنهما أتيا عمرو بن العاص، فقلت: والله لا يلحق اليوم على رءوس الأشهاد، ادخل أحلقك! وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد، فدخل معي الدار فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهما عمرو بن العاص، فسمع عمر بن الخطاب، فكتب إلى عمرو أن ابعث إلي بعبد الرحمن بن عمر على قتب، ففعل ذلك عمرو، فلما قدم عبد الرحمن على عمر جلده وعاقبه من أجل مكانه منه، ثم أرسله فلبث شهرا صحيحا ثم صحيحا، ثم أصابه قدره، فتحسب
11
عامة الناس أنه مات من الجلد، ولم يمت منه.»
هذه رواية عبد الله عن أبيه وأخيه، ولو كان الأمر مبالغة في عدل عمر، لكان الابن أحق الناس بهذه المبالغة، أو كان الأمر رحمة بعبد الرحمن، لكان الأخ أحق الناس بهذه الرحمة، ولكنه أمر صدق لا نقص فيه ولا زيادة.
صفحة غير معروفة