صلى الله عليه وسلم
فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادن يا عمير.»
وجعل رسول الله يسأل عميرا وهو يراوغ، حتى ضاقت به منافذ الإنكار فباح بسره، وأعلن الإسلام والتوبة.
هذه الفراسة وشبيهاتها هي ضرب من استيحاء الغيب، واستنباط الأسرار بالنظر الثاقب. وما من عجب أن تكون هذه الخصلة قرينة من قرائن العبقرية في حاشية من حواشيها؛ إذ ما هي العبقرية في لبابها كائنا ما كان عمل المتصف بها؟ ما هي الحكمة العبقرية؟ ما هو الفن العبقري؟ ما هو دهاء السياسة في الدهاة العبقريين؟ من هو:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا؟
كل أولئك يلتقي في هبة واحدة، هي كشف الخفايا، واستيضاح البواطن، واستخراج المعاني التي تدق عن الألباب، فاتصالها بالفراسة وشبيهاتها أمر لا عجب فيه، ولا انحراف به عن النحو الذي تنتحيه.
والذي يعنينا من الفراسة وشبيهاتها في صدد الكلام عن عمر - رضوان الله عليه - أن نحصي الخصال الأخرى التي هي كالفراسة في هذا الاعتبار، وهي التفاؤل والاعتداد بالرؤيا، والنظر أو الشعور على البعد أو «التلباثي» كما يسميه النفسانيون المعاصرون. ولكل أولئك شواهد شتى مما روي عن عمر في جاهليته وبعد إسلامه، إلى أن أدركته الوفاة.
جاءه رسول من ميدان نهاوند فسأله: ما اسمك؟ قال: قريب. وسأله مرة أخرى: ابن من؟ فقال: ابن ظفر. فتفاءل وقال: ظفر قريب إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.
وروى يحيى بن سعيد أن عمر سأل رجلا: ما اسمك؟ قال: جمرة. فسأله: ابن من؟ قال: ابن شهاب. فسأله: ممن؟ قال: من الحرقة. وعاد يسأله: ثم ممن؟ قال: من بني ضرام. وهكذا في أسئلة ثلاثة أو أربعة عن مسكنه وموقعه، والرجل يجيب بما فيه معنى النار ومرادفاتها، حتى استوفاه، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا.
صفحة غير معروفة