لم لا تغادرون بلادنا في الحال؟ لقد علمنا الإنجليز شيئا واحدا هو التضامن في مطالبتكم بالجلاء ... شكونا من الأتراك؛ لأنهم أجانب عن وطننا وأردنا لبلادنا إصلاحا وتقدما كتقدم الأوروبيين في طريق الحرية، لكننا الآن نعلم أن هنالك ما هو شر من استبداد الحكام، وشر من ظلم الأتراك، وليس في مصر من بلغ به الظلم حدا يرجو معه مساعدتكم. إن لنا إليكم رجاء واحدا، وهو أن تغادروا بلادنا حالا إلى غير رجعة.
ولما سأله محرر الصحيفة عن الخديو توفيق، كانت مشايعتهم هي الجريمة الكبرى التي نعاها عليه في وجوههم؛ إذ قال: «إن توفيقا أساء إلينا أبلغ السوء؛ لأنه مهد لدخولكم بلادنا، وانضم أيام الحرب إلى أعدائنا ... ولا يمكننا أن نشعر إزاءه بأقل احترام.»
قال هذا وهو لا يبالي أن يظل منفيا عن بلاده أبدا؛ لأنه لن يعود على غير رضا الخديو صاحب السلطة الشرعية، ورضا المحتلين أصحاب السلطة الفعلية، وقد بقي فعلا غير مأذون له بالعودة بعد انقضاء الموعد المحدود لنفيه، وهو ثلاث سنوات.
وانقضت فترة من هذه السنين في الحملة السياسية على الاحتلال بين لندن وباريس، وكان محمد عبده في صحبة جمال الدين قد اختار هذه المدينة مركزا لنشاطهما السياسي؛ لأنها عاصمة الدولة الفرنسية التي كانت تنافس الدولة البريطانية وتساومها على مشاكل القضية المصرية، فكان من أملهما أثناء الحملة على الاحتلال البريطاني أن تثار القضية كلها في ميدان السياسة الدولية لمطالبة الإنجليز بالجلاء عن مصر، وأن يكون مثار الحملة من باريس بعد مضي السنوات الأولى على دخول الجنود الإنجليزية إلى قلاع القاهرة والإسكندرية، وبعد صدور الوعود الأولى من وزراء لندن باقتراب موعد الجلاء، ثم انقضت السنوات في التجارب التي ابتلي بها الحكيمان من معاملة الساسة الغربيين والساسة الشرقيين، وكان أثرها جميعا شعورا عميقا بخيبة الأمل وضياع الجهد في هذا السبيل. فأما ساسة الغرب فقد كانت قضايا الأمم عندهم صفقات للمساومة وتبادل الغنائم، والاتفاق على توزيع المستعمرات الجديدة بعد المستعمرات التي يثيرون قضاياها ... وأما ساسة الشرق فقد كانت مخاوفهم من تحرر شعوبهم كمخاوف الأجنبي من تحرير مستعمراته المغلوبة، وكان الأجنبي يستعين بهم على توطيد حكمه بين التهديد بالخلع والترغيب في فضلات السلطة من يديه، فخلفت خيبة الأمل فيهم جميعا مرارتها التي تعصف بالأمل، لولا قوة اليقين وانصراف العزيمة إلى العمل في غير هذه السبيل. وقد ندرك قسوة أذاها في نفس الأستاذ الإمام من كلماته عن السياسة وسوء أثرها في نهضات التقدم، بعد أكثر من عشر سنوات قضاها في تجارب شتى لما أصابه منها، فقال في كتابه عن الإسلام والنصرانية: «إن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو العلم أو الدين، فأنا معك من الشاهدين، أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ... ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس!»
لقد كان للعزيمة الصادقة عملها أمام هذه الخيبة القاسية.
وكانت هي العزيمة التي لا يشغلها الغرض القريب عن الغرض البعيد، ولا ييئسها الأمل الضائع أن تصمد للأمل الذي لا يضيع.
ونفس أخرى كانت هذه الخيبة خليقة أن تضربها بضربة الوهن والقنوط، فتهجر السياسة وتهجر القضية معها.
ولكنها كانت عزيمة تصدق نفسها إذا كذبتها السياسة الخادعة، فاستحالت بكل ما فيها من قوة إصرار على ترك السياسة والإقبال على العمل في الطريق الذي لا عوج فيه، إلى الغاية التي لا ريب فيها، وقضت على السياسة عندها بهذا الإصرار قبل أن تقضي السياسة عليها.
لا تعويل بعد اليوم على السياسة ولا على الساسة ، وإنما التعويل كله على الأمم، ولا معول لأمم في جهادها أنفع لها وأصدق في المضي بها إلى غايتها من العلم الحي والتربية القويمة.
ولقد كان يقول للمقربين إليه من مريديه: لو كان في هذه الأمة مائة رجل لما استطاع الإنجليز أن يحكموها، ولما أدركوا منها أربا في حكمهم إياها، وإنما الرجل عنده صاحب الفكر البصير والخلق المكين، صاحب الكفاءة الذي إن وجد في الأمة قادها لا محالة، ولم يتمكن أجنبي ذو سطوة أو ثروة أن ينازعه على قيادها. •••
صفحة غير معروفة