وفي هذه السنة - سنة 1871 - وفد السيد جمال الدين إلى القاهرة قادما من الآستانة، فوجد الفتى الناشئ حيث تركه شيخه القروي بين طريق العزلة وطريق العمل مع الناس، ولكنه حين مضى في هذا الطريق يخطو خطواته الأولى، فقد شيخه الصوفي ولم يجد لعقله هاديا يعمل أمامه ويتجه ببصره المتطلع إلى غاية مداه؛ لأنه كان يدرس علوم العقل على أساتذة يحسنون شرح النظريات، ويبسطون القول في الشكوك والموانع، ثم لا ينتهون منها إلى قبلة يستقيم عليها السالك على قدر جهده في طريقه المرسوم.
وكان جمال الدين قد مر بمثل هذا الدور في مثل سنه؛ كان قد زهد في صحبة الناس فاعتزلهم، وخرج من طريق العزلة إلى طريق العمل، وكان يفهم أن الفناء في الله اعتزال للعالم، فعاد يفهم أن الفناء في الله إنما هو فناء في خلقه، أو كما كان يقول لتلاميذه، في رواية الشيخ عبد القادر المغربي: «أنا لا أفهم معنى لقولهم الفناء في الله ... وإنما الفناء يكون في خلق الله؛ تعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم.»
وقد كتب عنه تلميذه المسيحي أديب إسحاق، وهو في هذا الدور بين العزلة والعمل فقال: «إنه تبحر في المنقول والمعقول، وغلبت عليه مذاهب قدماء الحكماء، فداخله من ذلك بداءة بدء شيء من التصوف، فانقطع حينا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة وإدراك الحقيقة، حتى صار له في القوم كثير من الأتباع والمريدين، كل ذلك وهو دون العشرين.»
ولم يكن لجمال الدين أستاذ يجتذبه من حياة الخلوة والعزلة إلى حياة العمل والجهاد، ولكن الحوادث كانت لها صيحة في مسمعه أقوى من صيحة الإمام المرشد، فاقتحم معركة الحياة لينصر فريقا على فريق من أولياء الأمر في وطنه، وانتصر جمال الدين للأمير محمد أعظم خان : «فشهد الحروب وحضر الوقائع، فازداد جرأة واستخفافا بالموت، وأقام في ذلك تسعة أعوام لا يرى الراحة ولا يستقر بمكان، دارت الدائرة على محمد أعظم خان فانصرف الأولياء عنه إلا جمال الدين ...»
حضر التلميذ على أستاذه دروسا نافعة في كتب المنطق والحكمة والتصوف وأصول الدين، ولكن الدروس الروحية التي كانت تسري من أحاديث هذا المصلح العظيم كانت أعظم وقعا وأعمق أثرا من دروس الأوراق والأسفار، ولم تكن شروحه للأسفار التي كان يقرؤها على تلاميذه معاني «فكرية» تستخرج من ألفاظها «القاموسية» على عادة الشراح الذين يقفون بالعبارات عند ألفاظها ومعانيها، ولكنه - كما سمعنا من مريديه الذين عرفناهم - كان يشرح العبارة ليستخرج منها قوة حية تسري إلى النفس فتحركها إلى العمل، وكأنما الكلمات المشروحة على لسانه تلك المفاتيح الصغيرة التي تدار فتنبعث منها قوى من الكهرباء لا يستقر عليها قرار.
وخير الأساتذة، على ما نعلم، هو الأستاذ الذي ينبه في التلميذ ملكات ذهنه وضميره، ويستجيش في قرارة طبعه غاية وسعه من الاجتهاد والهمة على حسب فطرته واستعداده، فليس بخير الأساتذة من يجعل تلاميذه نسخا منه تحكيه ولا تزيد من عندها شيئا غير الاقتداء به والعمل على غراره، فهذه هي تربية التقليد والمحاكاة تصلح للذين خلقوا للاتباع، ولا تصلح للذين خلقوا على نصيب من قدرة الاستقلال والاجتهاد.
وهكذا كانت تربية جمال الدين لمحمد عبده وهو يخطو خطواته الأولى على طريق العمل والإصلاح؛ إنه يخلق فيه ملكة كانت ممدودة فيه، ولكنه رده إلى طبيعته العملية وعزز فيه تلك الثقة التي لا غنى عنها لمن يتولى عظائم الأمور، وينهض إلى الغاية العصية والمطلب البعيد.
ولم تكن الطبيعة العملية طارئا جديدا على سليقة الفتى الذي شب عن الطوق وهو يركب الخيل، ويحمل السلاح، ويتمرس برياضة الفروسية.
ولم تكن الثقة بالنفس طارئا جديدا على سليقة الطالب الناشئ الذي استقل برأيه في الحكم على تعليم زمنه بالعقم والجمود، ومن حوله ألوف المتعلمين والعلماء يتهمون أنفسهم ولا تهجس في قلوبهم هاجسة من الشك في صلاح ذلك التعليم ووجوب الصبر على مصاعبه وألغازه.
وقد لمح الأستاذ البصير ملامح تلك الثقة المكينة في نفس ذلك الطالب الصغير، وكان يعجب لتلك الثقة المطبوعة التي لا تكلف فيها، فيسأله مغتبطا راضيا: قل لي بالله، أي أبناء الملوك أنت؟
صفحة غير معروفة